محمد سيد رصاص *
في تعليق مكتوب على «مشروع موضوعات المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوري ـــــ المكتب السياسي»، الصادر في ربيع عام 1978، كتب الأستاذ إلياس مرقص يومها نصّاً قال فيه: «بعد زيارة (أحمد) السادات إلى القدس، ستقوم إسرائيل بعزل الرأس عبر التسوية، لكي تنفرد بباقي الجسم العربي للسيطرة عليه بعد تعفّنه، ولكن من دون تسوية معه».
وبعد أشهر من الزيارة الشهيرة للرئيس المصري إلى القدس (19تشرين الثاني1977)، قامت إسرائيل بالاجتياح الأول لجنوب لبنان (14 آذار 1978)، في محاولة أولى لاستخدام المنصّة اللبنانية من أجل السيطرة على آسيا العربية، وخصوصاً بعدما أصبحت «لاعباً لبنانياً» إثر انحياز قوى لبنانية (الجبهة اللبنانية) إليها، عقب حادثة ثكنة الفياضية في 8 شباط 1978، ضدّ سوريا، التي كانوا متحالفين معها في وجه قوى المقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني. وبعد أربعين يوماً من اكتمال انسحاب إسرائيل من صحراء سيناء (25نيسان1982)، قامت دبابات إسرائيل بالاجتياح الثاني للبنان، في خطوة موجّهة للسيطرة الكاملة على لبنان، ولاستخدامه ضدّ دمشق وباقي العرب المشرقيّين الذين كان ظهرهم إلى الحائط، عراقيين وخليجيين، بعد انتقال إيران إلى حال هجومية في حربها مع العراق منذ شهر أيار من عام 1982.
لم تهدف إسرائيل للوصول إلى التسوية عبر الاجتياحَين اللذين قامت بهما للبنان، وذلك رغم توقيع اتفاق 17أيار 1983، بل أرادت استخدام الصاعق اللبناني لتفجير المنطقة. وهي بعد أشهر من ذلك، كانت على مسافة متساوية من طرفي حرب الجبل التي حصلت في شهر أيلول من عام 1983. وكانت تل أبيب مدركة، طوال عقد الثمانينيات، أن الاشتعال اللبناني، وكذلك اللهب الذي حصل طوال ذلك العقد في الخليج، سيضعان القضية الفلسطينية، والصراع العربي ـــــ الإسرائيلي عموماً، خارج دائرة الأضواء. وبناءً على ذلك، أصبحت إسرائيل في موقع الرافض لما أرادت الولايات المتحدة الوصول إليه من خلال «التسوية»، عبر مؤتمر مدريد (تشرين الأول 1991)، في مقايضة أميركية مع ثالوث الرياض ـــــ دمشق ـــــ القاهرة الذي وقف ضد صدام حسين بعد اجتياح الكويت. وقد تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي يومها إسحق شامير عن أن الدولة العبرية لن تقبل «بتكرار ما جرى مع الصليبيين» الذين وقّعوا اتفاقاً مع السلطان الكامل الأيوبي في عام 1229، تنازل لهم فيه عن صيدا وعكا والناصرة ويافا وبيت لحم والقدس (ماعدا المنطقة المحيطة بقبة الصخرة). إلا أن الزمن لم يطل حتى اقتلعهم المماليك من المنطقة بعد سقوط آخر معاقلهم في عكا عام1291. وهكذا يبدو أنّ العقل الإسرائيلي لا يزال مُثقلاً بـ«الذاكرة»، وهذا لا يقتصر على المحرقة، فظلّوا يخطّطون ليس لـ«سلام»، يعرفون أن من يوقّعه لا يمثل غالبية المجتمع العربي، بل لـ«أوضاع عربية ملائمة» لهم، يمكن أن يعقدوا معها «تسوية»، ستضمن الهيمنة لا السلام.
وعملياً، فإن إسحق رابين، الذي خلف شامير في صيف 1992، قد اتّبع أسلوباً مختلفاً عن سلفه، انتقل فيه من الرفض اللفظي إلى الرفض العملي لـ«التسوية»، ولكن مع القبول اللفظي بها، ليوقّع اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين في 13 أيلول 1993، الذي قال شريكه شيمون بيريز للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، وفق ما رواه محمد حسنين هيكل، إنه سيحتاج إلى عقود من أجل التفاوض على بنوده، وهو ما حصل خلال عقد من تاريخ توقيعه، عندما لم يؤدِّ إلى أكثر من إنشاء «سلطة فلسطينية» لم تكن سلطتها تتجاوز ما كانت تحظى به بلديات الضفة وغزة في السبعينيات، مع بقاء جميع السلطات الفعلية في يد إسرائيل، فيما بقيت كل مواضيع «الحل النهائي» (القدس، الحدود، اللاجئين، المستوطنات...) من دون حل، في وقت كانت قد فرضت فيه تل أبيب واقعاً جديداً على الأرض لمصلحتها، أصبح مختلفاً تماماً عن يوم توقيع ذلك الاتفاق.
كان التكتيك التفاوضي الإسرائيلي مع دمشق في إطار «اللا تسوية»، وهو ما يشمل لبنان أيضاً، فيما كان توقيع اتفاق «وادي عربة» مع الأردن، في خريف 1994، في إطار احتوائه والهيمنة عليه، لاستخدامه إسرائيلياً معبراً إلى الخليج والعراق، وهو ما يحصل الآن اقتصادياً، ويبدو أن خط تل أبيب ـــــ عمان ـــــ بغداد، لن يكون فقط فاصلاً بين بلاد الشام ومصر، لكن أيضاً بينها وبين بلاد الرافدين وبلدان الخليج والجزيرة العربية، وهو ما توحي به كل الإشارات إلى أنه سيكون من مستتبعات احتلال العراق، إن نجحت الخطط الأميركية هناك ولم تصل إلى الفشل.
اليوم، مع اقتراب الذكرى الثلاثين لخروج مصر من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي عبر زيارة السادات إلى القدس وما تبعها من اتفاقات «كامب دافيد» في 17أيلول 1978، والمعاهدة المصرية ـــــ الإسرائيلية في 26آذار1979، يبدو الجسم العربي في حال متسارعة الاتجاه نحو الوصول إلى حال فراغ القوة، فيما كان وضعه، خلال الفترة الفاصلة عن عام 1977حتى احتلال العراق في عام 2003، في حال انحدارية، حيث أدى سقوط بغداد بيد الأميركي إلى جعل العرب في حال أسوأ من انحدار القوة، ليصلوا إلى حال فراغ القوة، ليصبح الوطن العربي الآن بمعظمه ملعباً للآخرين أو ميداناً لسيطرتهم: كيف يمكن للعرب أن يتجاوزوا وضعهم الراهن؟
* كاتب سوري