ندى معتز
طلال أسد يعرّي الخطاب الليبرالي


إنّها لمن الصدف الغريبة أنّ ما يوصف بكلّ دقة في الإعلام العربي بـ(Suicide Bombing) ويعتبر مرتبطاً بالإسلام بشكل خاص، لا يملك مصطلحاً واحداً موحّداً في اللغة العربية، لغة القرآن. فيمكن ترجمة Suicide Bombing بانتحاريّين، استشهاديّين أو مجاهدين. وفيما يدلّ هذا الأمر على عدم دقّة الخطاب الغربي، وحتى إلى عدم صحّته، فإنّ لمن الضروري خوض مجهود تحليلي من نوع آخر، لتفسير رواج هذا الخطاب، وهو مجهود يربط فعالية الخطاب بتأثيره في السلطة وصلاحيات الدولة، وكذلك العنف الذي يبرّره. هذا ما يقوم به طلال أسد، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة مدينة نيويورك في كتابه الجديد (Suicide Bombing On) الذي يرتكز على سلسلة من ثلاث محاضرات كان قد ألقاها في جامعة كاليفورنيا في إيرفاين.
موضوع الكتاب وغرض التحليل هو الخطاب الليبرالي الغربي، وخاصة في الولايات المتحدة، الذي يتناول العمليات الانتحارية، ولا سيما في فلسطين المحتلّة. أسد لا يسعى إلى تبرير هذه العمليات، ولا إلى إدانتها، ولا يحاول كشف الدوافع إليها، إنّما يقدّم عملاً نقدياً يعمد إلى قراءة دقيقة لنصوص، وإلى كشف فرضيات، وإلى تعميق تحاليل ساذجة.
يتطرّق الكتاب إلى سمتين من الخطاب الليبرالي الغربي عن العمليات الانتحارية: حججه والهلع الذي يرافقه. يعتبر هذا الخطاب أن الفروقات القانونية بين الحرب والإرهاب ــــ إذ إن الحرب تخاض بين دول، أمّا الإرهاب فليس إلا فعل أشخاص ـــــ تستتبع فروقات خُلقية وقيميّة بينهما! تقوم هذه الفروقات، بناءً على هذا الخطاب، على الضرورة، وإقحام الخوف في الحياة اليومية ونيّة القتل.
في الفصل الأوّل، يشير طلال أسد إلى أنّ حجّة الضرورة التي تستخدم لشنّ الحروب تحتاج دائماً إلى تبرير وليست حقيقة مبتوتة، ويمكن استخدام حجّة الـ«لا خيار آخر» التي تقدّم عادة للحروب، من قبل الإرهابيّين أيضاً. ليست الضرورة إذاً سوى حجّة لارتكاب الجرائم. ويشير أسد إلى أنّ الحروب التي تخوضها الدول، كتلك القائمة في العراق، بواسطة التقنيّات الجديدة التي تعتمد القصف الجوي، وبواسطة الاستراتيجية الجديدة كضرب معامل الكهرباء وغيرها من الأهداف التي يحتاج إليها الإرهابيون (والمدنيّون!)، تثير، هي الأخرى، الذعر في الحياة اليومية.
أخيراً، يلفت أسد نظرنا إلى أنّ التفاوت القانوني النظري الذي يعتبر الدول مسؤولة عن أفعالها خلال الحرب وعرضة للمحاسبة، لا يطبّق فعلياً، إذ إنّ الدول القوية والظافرة لا تحاسب على العنف والمجازر التي ترتكبها خلال الحروب.
لكن، على رغم كلّ هذه التناقضات، لا يزال الخطاب الليبرالي مصرّاً على التمييز بين الحرب والإرهاب، لأن هذا الغرض الجديد ــــ الإرهاب ــــ يبرّر توسيع سلطات الدولة والعنف المقبول (المشروع) عبر إيجاد مجال أمن قومي (Homeland Security) مثلاً.
في الفصل الثاني، يبحث أسد في خصوصية نوع محدّد من الإرهاب، ذاك المرتكز على العمليات الانتحارية. فيشير إلى تعقيدات النوايا والدوافع وراء هذه العمليات، وعدم إمكانية تحديدها بدوافع دينية أو سياسية أو ثقافية وحسب. ففي بعض الأحيان، تكون دوافعنا غير واضحة بالنسبة إلينا. وفي أحيان أخرى، نقوم بأفعال تؤدّي إلى نتائج غير تلك التي نويناها. يلاحظ أسد أنّه على رغم ذلك، فإنّ «التحاليل المرتكزة على دوافع دينيّة (الإسلاميّة منها بشكل خاص) هي المحبّذة، وذلك لأنّها تقدّم نموذجاً يمزج عناصر بسيكولوجية وأخرى ثقافية، وهو نموذج ملائم لخطاب الدفاع عن الحضارة (حبّ الحياة) ضدّ التخلّف والهمجية (حبّ الموت)». إنّه خطاب شبيه بذاك الذي برّر عنف الاستعمار. لذلك، عندما تستعمل فئة من «العالم المتخلّف» تدّعي أنّها تحبّ الحياة، هذا الخطاب ضد فئةٍ أخرى، علينا أن نتساءل أي نوع من العنف يبرّره خطابها هذا.
ننتقل هنا الى فارق آخر في هذا الخطاب بين السياسة والعنف، إذ يفترض أنّ العنف خارج السياسة وأنّ مهمة الدولة إبعاد العنف عن السياسة وعزله في الحروب، فيشير أسد هنا الى أن العنف متأصّل في السياسة، والدول والأمم مبنية أصلاً على الحظريّة (Exclusion)، والحياة السياسية ترتكز على حق الدولة في استعمال العنف للدفاع عن شروط الحياة اللائقة. يأخذ أسد هذه الحجة الى أبعادٍ ثانية، فيظهر أن هذا الحق في الدفاع عن نمط من الحياة ليس مجرّد حق، بل هو حرية مطلقة في عهد الرأسمالية الصناعية. فمع العولمة، بدا أنّ ما يحصل في جميع جهات العالم يؤثر على الدول الغربية الليبرالية ومصالح شعوبها. كذلك يقتضي حق الدفاع عن النفس تدخّل هذه الدول خارج حدودها. لا يذهب أسد أبعد من التلميح الى العلاقة بين الحرية والرأسمالية والعنف، والأرجح لأنّه تاريخ لا يزال يحتاج الى التفكير والتدوين.
استعرضت حتى الآن نقد طلال أسد للسمة الأولى من الخطاب الليبرالي الغربي عن الإرهاب المرتكز على العمليات الانتحارية، وهي الحجج التي يستخدمها هذا الخطاب. سأتطرّق الآن الى السمة الثانية منه، وهو الهلع (الصادق) الذي يرافقه. في هذا المجال غير المطروق إلا قليلاً من الناحية الأنثروبولوجية، يبدو أسد مبتكراً. ولكن، كما يقول، تبقى تفسيراته لهذا الهلع تجريبية، منها تعطيل الحياة اليومية وتفتيت الحياة البشرية، ومنها استحالة التفريق بين الجرم والعقوبة بسبب موت الإرهابي، ومنها تشويش التناقضات الليبرالية التي يعتبرها أسد من خصوصيات الذاتية الحديثة، كتلك التي تعد بالخلاص من الخطيئة عبر الموت، لأنه في العمليات الانتحارية يبدو الموت كالحقيقة الوحيدة. يعتبر أسد أنّ هذا التشويش يمكن أن يزعزع مَن ترعرع في التقليد اليهودي ــــ المسيحي، حيث يمثّل صلب المسيح أحد هذه التناقضات. هل يعطي أسد هنا تحليلاً كالتحاليل التي ينتقدها، وهي التي تعتمد على تفسير أقوال وأفعال بناءً على الدين؟
أسد يقلب ظهراً على عقب، الادّعاء بأنّ الإرهاب المبني على العمليات الانتحارية هو من مزايا الدين الإسلامي. فهو يبرز أن الحرب النووية التي قد تقضي على العالم أجمع هي ممكنة ومشرّعة في «التقليد الغربي الحديث للنزاع المسلّح للدفاع عن جماعة سياسية حرة». من هذا المنظار، تبدو الحرب الانتحارية جزءاً من التقليد والخيال الليبرالي. عبر هذا الانقلاب، يُظهر أسد أنّه عبر «أعمال إرهابية مطلقة الشر»، أو عبر «حروبٍ عادلة»، فإنّ المجازر نفسها هي التي ترتكب.
* باحثة لبنانية



العنوان الأصلي
On suicide Bombing
الكاتب:
طلال أسد
الناشر
مطبوعات جامعة كولومبيا