strong>ورد كاسوحة *
يبدو أن رهان صانعي مسلسل «الملك فاروق» على إعادة الاعتبار إلى حقبة ما قبل ثورة تمّوز في مصر كان في محلّه تماماً، بدليل النجاح الكبير الذي يحقّقه المسلسل هذه الأيام على شاشات التلفزة في شهر رمضان. وهذا ما يُستدَلّ عليه من الإقبال الجماهيري الكثيف على مشاهدته، ما يعني أنّ صنّاع المسلسل والجهات المنتجة نجحوا تماماً في اللعب على تناقضات صورة فاروق السائدة والشائعة، وبالتالي إعادة إنتاج هذا البورتريه على نحو مقلوب، لا يعود معه أمر اجتذاب تعاطف المشاهدين وفضولهم متعذّراً كما في السابق حينما كانت أسماء محمد علي وفؤاد وفاروق مدعاة للنفور والريبة. وهذا هو ما توخّته أساساً الجهة المنتجة للمسلسل (وهي جهة سعودية) لأغراض سياسية، لا يخفى على أحد نزوعها المعلن لتصفية الحساب مع الإرث الناصري الوحدوي. فالصورة التقليدية التي راكمناها طيلة عقود عن فترة حكم أسرة محمد علي لمصر بدت مختلفة تماماً عن تلك التي رسمها لنا كلّ من كاتبة السيناريو المصرية لميس جابر في نصّها التلفزيوني عن «فاروق الأول» آخر ملوك مصر والوريث الأخير لسلالة محمد علي، والمخرج السوري حاتم علي في رؤيته السينمائية المتلفزة لهذا النص.
وهذا أمر كفيل وحده بإثارة ارتياب شرائح واسعة من المصريّين والعرب، ترى إلى مرحلة حكم الملك فاروق كمرحلة فساد وهزائم ودسائس ومؤامرات والتحاق غير مسبوق بالاستعمار البريطاني.
ولا تكتمل صورة فاروق الأول في الذاكرة الجماعية لعموم المصريين والعرب ما لم تقترن بهذه الصفات، وبغيرها من الطبائع الرخوة للحكم «الدستوري» الصوري، الذي لم يعدُ وقتها كونه واجهة للاحتلال البريطاني لمصر ولنزعته الكولونيالية. وما صفقة الأسلحة الفاسدة والأداء الباهت لجيش الإنقاذ المصري بعد النكبة عام 1948 إلا دليل بيّن وشبه أكيد على البنية المهترئة والفاسدة للحكم المصري في ذلك الوقت بجناحيه الملكي متمثّلاً «بسلطة» الملك فاروق، والدستوري متمثلّاً بسلطة حزبي الوفد والأحرار.
هذا التوصيف لحقبة ما قبل الثورة في مصر ينسحب على آراء الشرائح الشعبية التي وقفت إلى جانب الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر في انقلابهم على الملكية، وارتضت بروايتها الرسمية عن المرحلة التي سبقت قيام الثورة، وهي الرواية التي تمّ بموجبها إغفال الوجه الملكي الدميم لمصر، والاستعاضة عنه باللجوء إلى «حكمة المنتصرين» وعرفهم السرمدي لدى انتهاء الحروب والنزاعات والانقلابات وتجييرها لمصلحتهم. و«الحكمة» هذه يمكن التعبير عنها بطريقة واحدة: ليّ عنق التاريخ المعاصر لأرض الكنانة وقصره على مرحلة الثورة وما بعد الثورة، فيما يشبه إتياناً كاملاً على إرث أسرة محمد علي وتاريخها. وهو إرث بائس على أية حال، لا يمكن للمدقّق فيه أن يقع على أية لحظة تأسيسية أو نهضوية، باستثناء بعض الالتماعات الاستقلالية والوحدوية التي حفل بها حكم المؤسّس الأول محمد علي باشا. والحال أن مياهاً كثيرة جرت منذ ذلك التاريخ، أي منذ تاريخ 23 تمّوز 1952، وهذه المياه كناية عن محطات مفصلية في تاريخ مصر والعرب عموماً، تبدأ من وفاة جمال عبد الناصر بطريقة مريبة وإسقاط الثورة، ولا تنتهي عند سيناريو التوريث الحالي، والذي يعد بمثابة «خريطة طريق» حقيقية لإدخال مصر في حظيرة «الجمهوريات» الملكية والعشائرية والعائلية القابضة على حياة المواطن العربي ولقمة عيشه من الخليج إلى المحيط.
ويمكن في هذا السياق التاريخي التوقّف عند نقطة أساسية تمثّلت وقتها في صورة الحلف العضوي ما بين مصر والسعودية في المرحلة التي أعقبت وفاة عبد الناصر. وهو حلف من النوع الذي يؤالف ما بين الليبرالية الاقتصادية المتوحّشة من جهة، والأصولية السياسية المفرطة والناقضة أساساً لمنظومة التقدم والتنمية الوطنية ومناهضة الهيمنة «الامبريالية» بنسختها الأميركية من جهة ثانية.
تندرج في هذا الإطار فكرة المزاوجة القسرية ما بين الانفتاح «الساداتي» والفورة النفطية الخليجية، مع ما أنتجته هذه المزاوجة من مفاعيل غير متكافئة وتدميرية على البنية الاقتصادية لمصر وسواها من الدول العربية الفقيرة التي رهنت ولا تزال اقتصادياتها الهشة بمفهوم الريع النفطي، إلى حدّ لم يعد معه من مجال لمقاومة سطوة هذا الفائض النفطي الخليجي. وقد أدّى هذا العامل إلى تمدّد الريع النفطي إلى كل الأنشطة الرديفة والموازية للفعل الاقتصادي العربي عموماً، من إعلام وإعلان وصحافة وسينما وتلفزيون... من هنا يمكن فهم المآل الذي أفضت إليه حال الإعلام العربي الفضائي هذه الأيام، في ظل السطوة الخليجية والسعودية، وخصوصاً على مجاله الحيوي، واستطراداً يمكن إلى حد ما «تفهّم» الدوافع التي حدت بمبدعي عمل الملك فاروق (أي لميس جابر وحاتم علي) إلى اللجوء للتمويل الخليجي لمشروعهما المشترك، والذي تقول عنه جابر إنه بقي في أدراج قطاع الإنتاج ومدينة الإنتاج الإعلامي في مصر لمدة عشرة أعوام، قبل أن يفرج عنه ويرى النور لكن بتمويل سعودي، لا يمكن في حال من الأحوال تبرئته من دوافع الثأر السياسي من البروباغندا الإعلامية للحقبة الناصرية.
وبالعودة إلى موضوع المسلسل، أي شخصية الملك فاروق على الصورة التي تمّ رسمها عنه من خلال نصّ جابر (الحاذق والمتقن) ورؤية علي الإخراجية (ذات الصلة الوثيقة بمدرسة الواقعية الإيطالية)، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولاً، يسجَّل لهذا العمل رغم انحيازه المسبق للحكم الملكي إنصافه لشخصيات تاريخية، ذات شأن في تاريخ العملية السياسية المصرية، مثل مصطفى النحاس الزعيم التاريخي لحزب الوفد بعد المؤسس سعد زغلول، ومكرم عبيد القطب الوفدي صاحب الأصول القبطية، وعلي ماهر العضو الفاعل في جمعية «مصر الفتاة»... وهذه شخصيات لا يمكن إغفال تأثيرها في الحراك الوطني والاستقلالي المصري خلال مرحلة الانتداب البريطاني. وجاءت هذه الإضاءة بعكس الطمس الذي مارسته أدبيات ثورة تمّوز تاريخياً وشطبها من الذاكرة الجماعية المصرية. والدور الريادي الذي أدّته هذه الشخصيات لا ينفي أنّ العديد منها كان ذات ميول توفيقية ومهادنة للاحتلال، وبالتالي متصالحة معه ومع نهجه الكولونيالي التوسعي. فهذا كما هو معروف تاريخياً ومنذ بدايات القرن العشرين، جسّد نهج الأحزاب التقليدية ذات النزوع البورجوازي الليبرالي، مثل الوفد والأحرار الدستوريين في مصر، والكتلة الوطنية وحزب الشعب في سوريا .... في التعامل مع الاحتلالات المتعددة التي مرّت على هذه الأرض، سواء العثمانية منها أو الإنكليزية أو الفرنسية أو الإيطالية.
ثانياً، يُحسب للمسلسل نصاً وإخراجاً تصويره لشخصية فاروق على نحو مفارق تماماً للرواية الواقعية والتوثيقية التي تقول ـــــ بمعزل عن تأثير البروباغاندا المبتذلة للحكم الناصري ـــــ إنّه كان شديد الولاء لسلطات الاحتلال البريطاني، وهذه صيغة لغوية منقحة وشديدة التهذيب عن الأصل المصري الشعبي، الذي كان يدلّل عليه المصريّين بالقول «داه عميل الإنكليز».
لا يعود هناك والحال كذلك من معنى يذكر لكل التخرّصات الأيديولوجية الفاشية والمعادية للاحتلال الانكليزي، والتي نسبها صناع العمل إلى الملك فاروق فيما يشبه جهداً متصلاً وإن يكن يائساً من قبلهم لإظهاره بمظهر الملك الحاذق صاحب النزعة الاستقلالية والشخصية القوية المناهضة للوجود الاستعماري. ومن ضمن ما يعنيه هذا الأمر، محاولة نزع صفة الملك ـــــ الدمية التي التصقت به طوال فترة حكمه لمصر واعتلائه عرشها، خلفاً لوالده الملك فؤاد.
ثالثاً، إنّ نقطة قوّة إضافيّة تُسجَّل لهذا العمل، ألا وهي الاختيار الموفَّق للممثّل الذي يُفترَض به أداء شخصية الملك فاروق، إذ إن انتقاء حاتم علي للممثل السوري الشاب تيم حسن أنقذ المسلسل من مطبّات كثيرة كان من المحتمل أن يقع فيها لولا دقة الاختيار ذاك. وكان أداء تيم حسن التلقائي والدينامي والجذاب جداً لشخصية فاروق، كفيلاً بإخراجها ـــــ أي الشخصية ـــــ من الحالة المتحفية لملك لم نره إلا في الصور والأفلام الوثائقية ولم نعرف عنه إلا سلوك المجون والفساد والهوس بالنساء، إلى حالة أخرى أكثر حميمية ودفئاً ومعاصرة، الأمر الذي جعل منها ـــــ أي الشخصية ـــــ أقرب ما تكون إلى وجبة رمضانية خفيفة، لا تلبث أن تجد طريقها إلى قلب المشاهد وعقله من دون كثير عناء، وهذا لسوء حظنا وحسن حظ الجهة المنتجة ما حصل فعلاً.
أخيراً، يمكن الزعم أن هذه هي أفضل وصفة لتلميع صورته.
* كاتب سوري