يحيى فكري *
وسط الغليان الذي شهدته مصر في الشهور الأخيرة، وبينما تشتعل ثورة من التوقّعات في أذهان جميع المراقبين حول البدائل المحتملة، خرج الإخوان المسلمون أخيراً بما سموه نسخة أولية من برنامجهم السياسي. وقاموا بتوزيعها على عدد من السياسيين والكتّاب والمثقفين لاستطلاع آرائهم في ما احتوته، مؤكدين في كل دعايتهم أنها مجرد نسخة أولية قابلة للتعديل، وكأنهم يطلقون بالون اختبار لاكتشاف ردود الأفعال، من دون التورط في ما نص عليه «مشروع» البرنامج من مواد يراها الكثيرون نقيضاً لوعودهم السابقة بالدفاع عن الديموقراطية.
المفاجأة المدهشة هي ما تضمّنه البرنامج من فقرات تتعلّق بمسألة المرجعية الدينية. فقد نصّ على ضرورة تعديل الدستور بما يؤدي إلى تأليف لجنة من كبار الفقهاء تكون لها المرجعية العليا في مراجعة القوانين الصادرة عن البرلمان أو رئيس الجمهورية المنتخبين، وبحيث تضمن التزامها بالشريعة الإسلامية، وهي صيغة قريبة من صيغة ولاية الفقيه في إيران. وقد خرج الكثيرون من قراءتهم للبرنامج الذي تضمن، بالإضافة إلى مسألة المرجعية الدينية، تأكيد منع النساء والأقباط من تولّي منصب رئيس الجمهورية، بانطباع أن هناك تراجعاً في توجّهات الإخوان عن مواقفهم السابقة المعلنة، وهو ما حملته العديد من التحليلات المنشورة في الصحف المصرية، بينما الحقيقة (وعلى رغم غرابة الأمر) أن هذا التوجه من الإخوان يمثّل ميلاً في اتجاه اليسار لا اليمين.
لا يمكن تحليل وفهم مواقف الإخوان المسلمين من دون فهم طبيعة تركيبتهم المتناقضة. الإخوان هم المنظّمة الجماهيرية الوحيدة في مصر الآن، التي تضم داخل صفوفها مئات الآلاف من الأعضاء والكوادر ويلتف حولها ملايين الأنصار، والغالبية العظمى منهم تنتمي إلى الطبقات الوسطى، أما أنصارهم فجموع واسعة من العمال والفلاحين وعامة الفقراء.
شعبيتهم هذه التي حققوها في العقود الأخيرة لا تعود إلى تديّن الشعب المصري ـــــ كما يشيعون دائماً ـــــ بل إلى تواطؤ اليسار التقليدي مع نظام مبارك، ما أفقده تلك الشعبية التي كان يحوزها في السبعينيات. وهكذا صار الإخوان البديل الوحيد في أعين الجماهير لمواجهة ما تعانيه من فقر وقمع.
لكن هذا ليس الوجه الوحيد في الموضوع. فالإخوان يضمّون داخل صفوفهم أيضاً، قسماً من الرأسمالية المصرية، هؤلاء الذين كوّنوا ثروات ضخمة من العمل في بلدان الخليج، ويديرون الآن في مصر استثمارات ذات شأن. جماعة الإخوان إذاً تضم أقساماً من الجماهير الفقيرة إلى جوار أقسام من البورجوازية المصرية، ما يجعل قيادة الجماعة خاضعة دائماً لضغوط متناقضة تعكس تناقضات المصالح داخلها، وتدفعها إلى التذبذب في مواقفها.
وفي خضم معركة التغيير التي انطلقت في مصر عام 2005، سارع الإخوان إلى حشد الآلاف من كوادرهم في تظاهرات تطالب بالديموقراطية، إذ قرّروا الظهور كواحد من بدائل التغيير المحتملة. إلا أن تحدّيهم للنظام ظلّ متذبذباً ما بين قليل من المغامرة المحسوبة، وكثير من التردد والانكماش، وهو ما مكّن النظام بعد تراجع حركة التغيير، من الانقضاض عليهم بشراسة، واعتقال المئات من قادتهم وتحويل بعضهم إلى المحاكم العسكرية. ويعود السبب الرئيسي في هذا «التذبذب»، إلى هيمنة الأجنحة البورجوازية على قيادة الجماعة التي تقف دوماً حائلاً أمام استنفار جماهيرها الفقيرة في معارك مفتوحة ستؤدي حتماً ـــــ إذا ما تُركت لتطورها الطبيعي ـــــ إلى تهديد المصالح الرأسمالية.
وعلى هذه الحال ستجد دائماً جماعة الإخوان نفسها خاضعة لضغوط مركّبة، بعضها يأتي من أسفل عبر جماهيرها الفقيرة ما يدفعها لتحدّي النظام والحشد في مواجهته، بينما تكبتها ضغوط من أعلى تعبّر عن مصالح بورجوازيتها، وتميل إلى المهادنة وتبحث عن حلول ترضي أصحاب المصالح.
وعندما استقرّ الرأي داخلهم على طرح أنفسهم بديلاً، كان رهانهم الرئيسي هو التحلّي بمظهر يكون مطمئناً للبورجوازية المصرية، وأيضاً الإمبريالية، أي تأكيد مواصلة مسيرة الخصخصة وانتهاج الليبرالية الجديدة، وتأكيد احترام الحريات وحقوق الأقباط... وهكذا تدافع الكثير من قادتهم لإعلان تلك المواقف، والتقوا أعضاء من الكونغرس الأميركي ووفوداً غربية، وصار الخطاب الرئيسي للجماعة يميل إلى الأفكار الحداثية، ويشبه إلى حد كبير النموذج الإسلامي التركي.
لكن بقيت معضلة لا حل لها هي موقفهم من القضية الفلسطينية، فالإمبريالية ما كانت لتقبل أن تمنح الإخوان ضوءاً أخضر للصعود إلى السلطة في مصر من دون رضوخ واضح من جانبهم لاتفاقيات كامب دايفيد، وتخلٍّ لا لبس فيه عن دعمهم لحركة «حماس»، وهو موقف لو اتخذه الإخوان لفقدوا شعبيتهم بين ليلة وضُحاها. لذا انتهى الأمر بتخلي الإمبريالية عن مشاريعها «الإصلاحية» المزعومة، وبدلاً من إعطاء الضوء الأخضر للإخوان، أعطته لديكتاتورية نظام حسني مبارك للعصف بهم. وبالطبع كان الحدث المفصلي الذي حسم الأمر هو فوز «حماس» في الانتخابات الفلسطينية مطلع العام
الماضي.
إلا أن تحولات الواقع في مصر لا تسير على هوى الإمبريالية. فالتجذير السياسي الحادث منذ سنوات يتحوّل إلى مدّ في الصراع الطبقي وتصاعد للحركات الاحتجاجية، كان آخرها الإضراب الثاني خلال أشهر لسبعة وعشرين ألف عامل في المحلّة، الذي استمر ستة أيام، وأجبر الحكومة المصرية على الرضوخ لمطالب العمال. وأدى هذا الزخم دوره في تمييل التوازنات داخل الإخوان. فبعد فشل الرهان على رضا الإمبريالية، أدى الضغط من أسفل داخل صفوفهم لاتخاذ مواقف أكثر جرأة ضدّ ما تعرّضوا له من قمع خلال العام الماضي، بالإضافة إلى تصاعد حركات جماهيرية ينخرط فيها بلا شك جمهور من أنصارهم، إلى الميل يساراً، وإن كان بالطبع في حدود التذبذب نفسها. هكذا نص برنامج الإخوان على طرح اتفاقيات كامب دايفيد للاستفتاء واتخاذ موقف بناءً على نتائجه، وهو ما يعني نقض الاتفاقيات. واشتمل على درجة من التشدّد ضدّ الليبرالية الجديدة بمراجعة برامج الخصخصة، والحفاظ على ملكية الدولة للقطاعات الخدمية والبنوك، وضمان التعليم المجاني والتأمين الصحي...
إنها بالتأكيد لمفارقة كبيرة أن يقابل الميل يساراً في القضايا الوطنية والاجتماعية، تشدّد رجعي في قضية الحريات السياسية. لكنها الطريقة الوحيدة التي مكّنت قيادة الإخوان من الحفاظ على التفاف أعضاء الحركة وأنصارها حولها في لحظة عاصفة، أي العودة لثوابت الجماعة ممزوجة بحلم «المجتمع العادل» و«الوطن الأبي»، وخصوصاً إذا ما كان البرنامج لن يتجاوز حدود الورقة الدعائية في الوقت الراهن. لكن هل سيرضي ذلك جماهير الإخوان المندفعين الآن، مع باقي فقراء مصر، إلى البحث عن حلول جذرية لما يعانونه؟ لا يمكن الجزم بإجابة، لكن المؤكّد أن مجموعات عديدة من شبابهم أبدوا تذمرهم من تردّد الجماعة وميولها المهادِنة، وأعلنوا رفضهم للبرنامج بسبب قصوره عن تحقيق طموحاتهم. وربما تفرز الاحتجاجات المتصاعدة الآن في مصر حركة جماهيرية جديدة تجمع في حزمة واحدة، الحريات من جهة، مع المطالب الديموقراطية والاجتماعية والوطنية من جهة ثانية.

(من المحرر: لمزيد من التفاصيل حول الموضوع، يمكن للقرّاء مراجعة الملف الذي نشره موقع إسلام أون لاين:
www.islamonline.net)
* صحافي مصري