هشام نفاع *
في 27 أيار 2005، توصّلت غالبية من المشرّعين الإسرائيليين إلى طريقة جديدة للتخلّص من ثمن آثام جهاز احتلالها في الضفة الغربية وقطاع غزة. لم يقرر المشرّعون (بعد!) وقف الموبقات ولا تفكيك الجهاز الكولونيالي طبعاً، بل بادروا إلى سن قانون يحرّر الدولة من دفع تعويضات لمدنيين فلسطينيين عن الأضرار التي سبّبتها لهم قوى الأمن الاسرائيلية حتى خارج «العمليات القتالية»، أي منع التعويض عنهم أيضاً مقابل ممارسات مثل: نهب جنود أغراضاً من منازلهم، والتنكيل بهم عند الحواجز، وإطلاق النار العشوائي وحتى عن عمْد، والتخريب غير المبرّر للممتلكات، والإصابة بذخيرة حيّة خلال تدريبات عسكرية للجيش بمحاذاة مناطق مأهولة، وحتى حوادث الطرق. فالحديث ليس عن رفض للتعويض العام عن سنوات الاحتلال ضمن اتفاقات سياسية، بل عن حالات إجرامية عينية فيها جندي معتدٍ ومدنيّ معتَدى عليه.
تبدو كلمة أضرار أنيقة جداً قياساً بما تحيل عليه. فهي لا تعني بعض الأضرار والخسائر المادية المتفرّقة فقط، بل حالات القتل والإصابات التي تسبّبها قوات الاحتلال في صفوف مدنيين فلسطينيين غير مقاتلين أيضاً. مثلاً: يُمنع تعويض فلسطيني أصيب برصاص وهو داخل صالون بيته خلال أحد الاجتياحات المتكررة. ما هو المبرر لذلك التشريع: قانون التعويض لا يسري على مناطق تُعلن «مناطق أمنية». ومن الذي يعلنها هكذا؟ الجيش الاسرائيلي نفسه الذي يكون جنوده هم من ارتكب الجُرم!
قد يتساءل البعض إن كان يجب توقّع أمر غير هذا من جهاز كولونيالي يحكم بالقبضة الحديد. لكن السؤال يجب أن يوجَّه في الاتجاه الثاني: هل يجب ترك هذا الجهاز والمسؤولين عنه يتصرفون كما يحلو لهم خارج أية رقابة دولية وإنسانية؟ إن ملاحقة الاعتداءات والمعتدين قضائياً هي أداة ناجعة لتوسيع دائرة الرقابة (المحدودة) على الممارسات الكولونيالية الاسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة. كذلك دعاوى التعويض من شأنها أن تؤلم سلطات هذا الجهاز، والدليل محاولتها التنصل من التزامها. يبدو أنهم في الطوابق الحاكمة العليا يعرفون حجم الموبقات التي ارتُكبت وتُرتكب، وبالتالي الثمن المالي الباهظ الذي ينتظرهم.
هذه المحاولات الاسرائيلية الرسمية للتنصل مما اقترفته أيدي الجيش الذي أرسلته لتطبيق سياسة الاحتلال، لم تبدأ اليوم. مشروع القانون الأول لم يأت في أعقاب الانتفاضة الثانية (أيلول 2000)، بل يعود الى عام 1997، أي في سنوات أوسلو السعيدة ... لا بل إن المذكرة حدّدت حينئذ الفترة التي ينطبق عليها منع التعويض: من 9 كانون الأول 1987 حتى 13 كانون الأول 1993، أي فترة الانتفاضة الفلسطينية الأولى. لم تخرج تلك المبادرة من مجموعة محدودة من أعضاء الكنيست المتطرفين، بل من أروقة الحكومة نفسها، من وزارة القضاء (تلك التي يخطئ البعض بتسميتها «وزارة العدل»).
بالمناسبة، ليست هذه التسمية خاطئةً بالنسبة إلى إسرائيل فحسب، بل كل دولة مهما كان نوع نظامها وشكله. فالدول تطبق قوانين ولا تقيم عدلاً. يجب برأيي التخلص من هذا الخطأ الشائع والفادح.
قبل إنشاء هذه الحالة القانونية التي تصل بالقمع حدوداً جديدةً من العبث، سبق أن اعترف جهاز القضاء الاسرائيلي، هنا وهناك، بحق فلسطينيين مصابين تعسفاً في تلقي تعويض. هكذا مثلاً حين دخلت قوة عسكرية اسرائيلية في ليل التاسع من تموز 1988 قرية عرورة شمال رام الله، واقتحمت بيت مواطن يدعى عبد الرحمن، وسحبته من فراشه، ثم أخرجته من بيته تحت الضرب والتنكيل وساقته الى الشارع العام مقيّداً في عنقه، ثمّ ألقاه الجنود على قارعة الطريق فتناول أحدهم حجراً كبيراً وشجّ رأس عبد الرحمن. بعد إجراء فحوص له في مستشفى رام الله تبيّن أنه مصاب بشلل مدى الحياة.
عبد الرحمن حظي باعتراف بحقه في التعويض، ولكن بعد المغامرة التشريعية الرسمية الجديدة، يكفي أن يعلن ضابط عسكري أن «المنطقة أمنية» حتى يُشطب حق المُعتدى عليهم فيها بالتعويض. لذا كان لا بدّ من مواجهة هذا التصعيد اللاأخلاقي الاسرائيلي بوسائل احتجاج عدة، إحداها المواجهة القانونية. وفعلاً، بعد دعوى قضائية تقدم بها مركز «عدالة» (المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في اسرائيل) ومعه تنظيمات أخرى لحقوق الإنسان ضد القانون المذكور، باعتبار أنه قانون غير قانوني بحد ذاته، قررت المحكمة الاسرائيلية العليا إلغاء تلك الخطوة التشريعية، ما يعني فتح المجال أمام فلسطينيين للتقدّم بدعاوى تعويض. وما أكثر تلك الحالات... لكن المسائل لم تتوقف هنا، فقد خرجت في أروقة البرلمان الاسرائيلي مجدداً حملة للالتفاف على قرار المحكمة، ورفض تعويض الضحايا الفلسطينيين.
في مذكرة قانونية صدرت أخيراً عن مركز «عدالة» المذكور ومركز إسرائيلي لحقوق الانسان (هموكيد)، وردت الأسئلة التالية: «ما هي غاية الدولة من وراء إلغاء قرار الحكم؟ هل الهدف هو منح السلطة التنفيذية وقوات الأمن مكانة فوق القانون، وإعفاؤها من نقد المحاكم في اسرائيل ومن مسؤوليتها عن أفعالها (ما دامت تجري في المناطق المحتلة أو ضد من يُنظر إليه كـ«آخر»)؟ أو لربما الهدف هو تعزيز قوة المناكفة تجاه المحكمة واستفزازها والتمرد على صلاحيتها؟ هذان الهدفان يسيران جنباً الى جنب: المشترك بينهما هو منع النقد القانوني لانتهاكات السلطة لحقوق الانسان».
من دون الخوض في التفصيل القانوني الجاف، يصحّ توضيح الأسلوب الذي يعتمده الساسة الاسرائيليون الرسميون لفرض محاولتهم إبقاء الجرائم من دون محاكمات: فالمحكمة ألغت بنداً (البند رقم 7) «يُلغي المسؤولية المتعلقة بالأضرار عن كل ضرر تسببه قوات الأمن في منطقة مواجهة، حتى في أثناء الممارسات التي لا تتم عبر عملية حربية». من جهتهم، أكد المعارضون أن هذا توسيعٌ لتغييب مسؤولية الدولة، وهو إجراء غير قانوني، سواء أكان وفقاً للقانون الدولي والانساني أم حتى بموجب قانون التعويضات الاسرائيلي نفسه. وكما يبدو، فإن القانون، حتى قانون دولتهم، هو شيء لا يشفي غليل غلاة الكولونيالية الاسرائيلية تجاه تعميق قمع الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة.
في مذكرتهم، أورد المعارضون مواقفَ لخبراء قانون اسرائيليين، أحدهم اريئيل بورات، العميد السابق لكلية الحقوق في جامعة تل أبيب والخبير في أحكام الأضرار والتعويض، إذ قال أمام جلسة للجنة الدستور والقانون والقضاء البرلمانية: «إن الوضع الذي يُسمح فيه للجنود، من ناحية قانونية، بالقيام بكل ما يحلو لهم من دون أن يدفع أحدٌ ثمناً، هو وضع أعتقد، في حال حصوله، أنه يوجب على كل واحد منا ببساطة أن يشعر بالعار». وأضاف «لا تدَعوهم يحكون لكم حكايات عن وجود قانون من هذا النوع في أية دولة في العالم. فلا يوجد قانون كهذا في أي مكان في العالم».
إن الصوت الطاغي والحاكم في اسرائيل ليس هذا الصوت النقدي، بل صوت سياسات لا تزال ترفض حتى الاعتراف بما اقترفته أيديها من جرائم. وكذلك صوت حكومة أطلقت أخيراً ضجيجاً يصم الآذان من «المبادرات السلمية»، بينما تواصل أيديها في الحقيقة ممارسة مختلف أشكال القمع. وللأسف، ففي حال انعقاد «سيرك بوش» في تشرين الثاني المقبل، فلن تُسمع شكاوى عشرات آلاف الفلسطينيين الذين اعتُدي عليهم تعسفاً، بل كلام السلام الفارغ الذي لا يقوم على التزام الحقوق المشروعة للشعوب، والذي ربّما يُراد له أن يكون مجرّد غطاء لحرب أميركية قريبة مقبلة في مشرقنا.
* صحافي فلسطيني