strong>طوني صغبيني*
عندما كثُر الكلام عن مخطّطات تقسيم العراق، كان النقّاد يضعون ذلك في إطار مخلّفات فكر «نظرية المؤامرة»، حتى جاء قرار مجلس الشيوخ الأميركي الأخير ليضع النقاط على الحروف في كشف مشروع واشنطن.
ورغم كثرة التحليلات التي تناولت القرار المذكور، فإن دراسة التحولات في قواعد اللعبة على الساحة الشرق أوسطية، التي سمحت للقرار أن يخرج من الكواليس إلى المؤسسات السياسية الأميركية، بقيت خجولة، وطغى على الصورة طريقة تحميل الأجنبي المسؤولية عن الكارثة العراقية، مع أن الجزء الأكبر من المسؤولية يقع على العراقيين أنفسهم.
عندما وصلت القوات الأميركيّة إلى الحدود العراقية عام 1991، إثر «عاصفة الصحراء»، تفاجأ الكثيرون بعدم دخولها الأراضي العراقية وإسقاط النظام، واعتقدوا أن الاستراتيجية الأميركية تقضي بإسقاط النظام من الداخل عبر دعم انتفاضة الجنوب «الشيعية» وثورة الشمال «الكردية». لكنهم كانوا مخطئين؛ فالبيت الأبيض كان يدرك جيداً أن حظوظ إسقاط صدام حسين بتلك الطريقة تكاد تكون معدومة، وكان هدفه هو السماح للنظام بالبقاء لتأدية دور إضافي بهدف تأمين الانهيار العراقي التام.
وكان المطلوب وقتها حصول مواجهة دموية كبيرة تظهر على أنها صِدام سني ـــــ شيعي وعربي ـــــ كردي لكي تتمكّن واشنطن من الدخول في عصر تغيير الخارطة الديموغرافية للمشرق، بعدما غيّر أسلافها الاستعماريون الخارطة السياسية منذ نحو تسعين عاماً.
ومذذاك الوقت دأبت الولايات المتحدة على ترسيخ الواقع الإثني ـــــ المذهبي على أنه الإطار الجديد الذي يحدّد قواعد اللعبة السياسية، حيث فرضت حظراً جويّاً على شمال العراق وجنوبه، وحرصت على إظهار جميع النزاعات في المنطقة على أنها بين الجماعات الدينية والعرقية، مؤجّجة الصراع تحت عناوين مختلفة، منها حماية التعدّد الثقافي والأقليات والديموقراطية... في ظلّ تشديد الحصار على العراق بهدف إضعاف الدولة المركزية إلى الحدود القصوى.
واستغلّت واشنطن غباء النظام لتستدرجه إلى سياسات من شأنها أن توقد الجمر تحت الرماد. ولعلّ الشأن الكردي هو أقرب مثال في هذه الحال. فمع الأكراد، وارتكازاً على مخاوف ديموغرافية غير مبرّرة، لم يشبع الحكم من معاملتهم كمواطنين من درجة ثانية، بل عاملهم كـ«لا مواطنين» على الإطلاق، عبر «كتم قيدهم» وحرمانهم من الجنسية والتعلّم والتملّك والتوظيف والحقوق الإنسانية... حيث أضحى من المنطقي بعد ذلك أن تتقدم القوى الكردية للمطالبة بالانفصال النهائي.
واستمرّ تفكيك المجتمع والدولة العراقيين، تارة بأيادٍ داخلية، وطوراً بأيادٍ من الخارج، حتى جاء اليوم الذي اجتمعت فيه عواقب سياسة التمييز مع الاندفاع الإثني ـــــ الديني الكبير الذي شهده العالم في التسعينيات، لكي تتقدّم الحركات المذهبية وتحتل الساحة السياسية على حساب الحركات العلمانية والوطنية.
وبعد تمهيد الأرضية للانقسامات العرقية والمذهبية، دخلت القوات الأميركية إلى بلاد الرافدين، وأمسكت بالكلمة الفاصلة في توزيع السلطة، وجعلت من تلك الحركات المذهبية الطرف الأساسي والوحيد في العملية السياسية.
بدأت موجة الاغتيالات عقب الغزو مباشرة، فطالت معظم الشخصيات المعروفة بوطنيتها وعلمانيتها، ولم توفّر أساتذة الجامعات والعلماء والمفكّرين والصحافيّين وضباط الجيش، حيث جرى بذلك إبعاد الجزء الأكبر من النخبة الفكرية والسياسية والعلمية المتنوّرة بالقتل والتهجير، والتي كانت من الممكن أن تكون سداً منيعاً في وجه التفتت العراقي، وجرت محاولات استبدالها بنخبة آتية من خلفيات دينية وإثنية وعنصرية، ومن أوساط الحكام أصدقاء الأميركيّين. إضافة إلى ذلك، موّلت القوات الأميركية في بداية الغزو عدداً من الجماعات التي نفذت التفجيرات العشوائية، كما استدرجت عدداً من المجموعات المتطرفة من أمكنة مختلفة من العالم الإسلامي، وأفلتتها في الساحة العراقية تعيث قتلاً على أساس طائفي لتصعيد الاحتقان الشعبي، فتصاعد العنف، حتى أضحت الصدامات الطائفية تملك محرّكها الذاتي المستقل عن قوة الدفع الأميركية.
وفي ظلّ هذه الفوضى، كان من السهل إمرار الدستور العراقي الفدرالي شكلاً، والتقسيمي مضموناً، فأحكمت بذلك قواعد اللعبة: من جهة أولى القوى السياسية الفاعلة هي مذهبية وإثنية، ومن جهة ثانية الإطار الدستوري والقانوني والإداري يمنحها الأفضلية على حساب القوى الوحدوية.
بعد أعوام معدودة على الاحتلال، تجلّت إذاً القواعد الجديدة بأوضح صورها، وهي لا تختلف عن الفلسفة الاستعمارية السابقة، التي تتلخّص بأن نجاح أي مشروع لا يقاس بقوّته هو فقط، بل بالمقارنة مع فاعلية القوى المواجهة له.
وعند النظر إلى التاريخ السياسي الحديث للمشرق العربي، تظهر ثلاث مراحل كانت كفيلة بتحويل قواعد اللعبة إلى الأسوأ. الأولى كانت عبر اتفاقية سايكس ـــــ بيكو التي سهّلت إقامة دولة إسرائيل، حيث استدرجت التجزئة الكيانية تفتّت القوى الحية في المجتمع، مسهّلة بذلك الاستفراد بكل كيان سياسي على حدة. إذ بعدما فرضت الحدود الجديدة نفسها على أرض الواقع، لم يعد من الممكن مثلاً أن يظهر «يوسف العظمة» جديد ليجمع جيشاً من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين ليقاتل الاحتلال في العراق، لأن الحدود «الدولية» تجعل من اللبناني والسوري والفلسطيني الذين يشاركون العراقي مقاومته، مقاتلين أجانب وإرهابيين «دوليين».
وتبدّلت القواعد مرّة أخرى بعد أن تجزّأت القوى الحية مجدداً إلى قوى مذهبية وإثنية محلية، محقّقة بذلك الانتصار الثاني للأعداء. وكما كان من المستحيل مواجهة التقسيم الكياني بقوى منقسمة كيانياً، فمن المستحيل أيضاً محاربة التقسيم المذهبي بقوى منقسمة مذهبياً. وجلّ ما كانت تستطيع هذه القوى المذهبية أن تقوم به هو التكتل في جبهة سياسية، كما هو المرجّح أن يحصل على الساحة العراقية، لكنها ستكون أقرب إلى لوحة الموزاييك المعرّضة للبعثرة إلى ملايين القطع في أيّة لحظة.
والمرة الثالثة التي تبدّلت فيها الموازين إلى الأسوأ، كانت عندما بدأت العلاقة بين هذه القوى المذهبية تبدو كأنها علاقة صدام وموت فقط، وهي مسك الختام في المشروع الأميركي الذي سيجهد ليُظهر أن المخرج الوحيد من الأزمة هو التقسيم.
وهنا لا بد من تسجيل ملاحظتين. الأولى هي أنه لا يمكن تشبيه التقسيم السياسي القديم بالتقسيم المذهبي الجديد، لأنّ الأخير يتغذّى من الانقسامات الموجودة على أرض الواقع، ويملك بالتالي دينامية خاصة تجعله يولّد نفسه باستمرار ليكون مدخلاً لمزيد من التقسيم، سيترددّ صداه في كل أنحاء الشرق الأوسط الذي تحكم دوله أيضاً القوى المذهبية والعرقية غير القادرة بطبيعتها على مواجهة أي تجزئة.
والملاحظة الثانية بهذا الخصوص، قديمة ـــــ جديدة، مفادها أن تقسيم العراق هدف إسرائيلي معروف، يسعى إليه الصهاينة، لا خوفاً من قوته وتسهيلاً للانقضاض عليه فحسب، بل لكي تصبح المنطقة بأكملها على صورة دولتهم العنصرية. هذا الأمر سيجعل إسرائيل شرعية أمام العالم من الناحية الأخلاقية، حيث سيبدو وجودها كأنه لا يخالف طبيعة الشرق الأوسط الحافل بالنزاعات المذهبية ـــــ الدينية ـــــ العرقية. ستظهر «إسرائيل» الجماعة الدينية «الأكثر تحضُّراً، التي تناضل كغيرها من الجماعات في هذا الشرق للدفاع عن حقوقها». وهنا الخسارة الأكبر.
وهذه الخسارة الكبيرة المتوّجة بقرار تقسيم العراق، قد لا يمكن تعويضها إلا إذا استطاع العراقيّون تغيير الواقع الدستوري والسياسي والإداري والثقافي والشعبي العام الذي قاد إليها، لأن العراق ليس بحاجة إلى لاعبين جدد يدخلون اللعبة القديمة، هو بحاجة لقلب قواعد اللعبة من أساسها.
* من أسرة الأخبار