محمد الأمين ولد أباه *
منذ سقوط نظام ولد الطايع في آب 2005، والخريطة السياسية الموريتانيّة يغلب عليها الغموض وعدم وضوح الرؤية. فأحزاب الغالبية التي ساندت هذا النظام طويلاًً، كانت أول المتبرئين من سيئاته وخطاياه، وأحزاب المعارضة التي سعت طوال عهده إلى إسقاطه، وجدت نفسها عاجزة عن تصوّر دور آخر غير المعارضة.
أصبح من الثابت الآن أن الدور الذي أدّاه بعض ضباط المجلس العسكري، كان أهم الأسباب التي أدت إلى فوز الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله في انتخابات 2006. وقد تمثّل هذا الدور في دفع أركان النظام السابق إلى مساندة هذا المرشّح واستخدام الترغيب والترهيب والمنح والمزايا من أجل التأثير على الوجهاء ورؤساء القبائل ورجال الأعمال ودفعهم إلى مساندة سيدي ولد الشيخ عبد الله.
ولم يحتج ضباط المجلس العسكري إلى كثير من الجهد، فقد كان الأمر أشبه بالدقّ على باب مفتوح لأن هذه الفصائل راهنت منذ البداية على استحالة أن يحتفظ ضبّاط المجلس العسكري بحيادهم حتى النهاية، وظلت تبحث في الأفق عن علامة انحياز إلى أحد المرشحين.
فالقاعدة القديمة التي تنصّ على أن من يملك السلطة لا يمكن أن يهزم، جعلت الطبقة السياسية، وخصوصاً التقليدية (رؤساء القبائل والوجهاء)، يعلّقون اتخاذ قرارهم بمساندة أحد المرشّحين حتى تتّضح لهم ميول المجلس العسكري الحاكم.
وانتهت الانتخابات بفوز سيدي وتسلّمه السلطة بعد أن سانده في الدور الثاني، المرشّحان اللذان احتلّا المرتبة الثالثة (الزين) والرابعة (مسعود)، مقابل منصب الوزير الأول للزين ورئاسة البرلمان للثاني. وظهرت أصوات في تحالف المستقلين تطالب بإنشاء حزب سياسي يضمّ كل الذين ساندوا الرئيس، بمن فيهم أنصار الوزير الأول الزين الذين لم يكن يجمعهم إطار سياسي. ولم تُستقبَل هذه الدعوة بحماسة من الأحزاب التي كانت موجودة على الساحة، والتي ساندت ترشّح الرئيس سيدي، وخصوصاً حزب الدولة السابق (الحزب الجمهوري) وحزب التحالف الشعبي الذي يرأسه مسعود ولد بولخير. فقد كانت هذه الأحزاب تأمل أن تستطيع اكتساب مناضلين جدد إذا ما حُلّت منسّقية المستقلّين. وعبّرت أحزاب المعارضة عن تخوّفها من إنشاء حزب سيحتل المكانة نفسها التي كان الحزب الجمهوري يحتلّها زمن ولد الطايع. وسارعت بعض الأحزاب التي ساندت ترشّح سيدي إلى إدانة الفكرة وإعلان معارضتها لتأليف حزب سياسي باسم الرئيس أو باسم من ساندوه، مذكّرةً بالعواقب الوخيمة التي خلّفها ترابط الحزب والسلطة في الزمن السابق.
وخلال لقاء مع زعماء المعارضة، بادر الرئيس إلى إعلان نيّته احترام الترتيبات الدستورية التي تحظر عليه الانتماء إلى أي حزب وتلزمه بتأدية دور الحكم بين الأحزاب. إلا أنه عبّر في الوقت نفسه، عن رغبته في أن تنتظم الحركات والأحزاب التي ساندت برنامجه في إطار سياسي يضمن لها ممارسة دورها كغالبية سياسية. وقد انتُدب الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية من أجل التنسيق بين هذه التيارات.
فشلت المعارضة في الحفاظ على وحدة صفّها وفرض التغيير في موريتانيا. وكان لانسحاب بعض أحزابها القوية (مثل حزب التحالف) والتحاقها بمركب المرشّح سيدي ولد الشيخ عبد الله، أثر كبير في الهزيمة التي مُنيَت بها في الانتخابات.
وإذا كانت المضايقات الكثيرة التي تعرّضت لها زمن ولد الطايع قد أرهقتها، فإنها أيضاً لم تستطع ترجمة رغبة الموريتانيّين في التغيير إلى واقع ملموس. فإضافة إلى الخلافات الشخصية بين زعماء أحزاب المعارضة، لم تكن هناك خطة واضحة المعالم لإزاحة بقايا النظام السابق ومنع رؤوس الفساد من استخدام نفوذهم وأموالهم للرجوع إلى السلطة، بل وصل الحدّ بغالبية أحزاب المعارضة إلى استقبال بعض هؤلاء الرموز في أحزابهم بعدما غادروا الحزب الجمهوري الذي كانوا يحكمون من خلاله.
وبخلاف الانتخابات التشريعية التي حافظت أحزاب المعارضة على حد أدنى من التعاون فيها، لم تستطع هذه الأحزاب الاتفاق على مرشّح واحد للانتخابات الرئاسية، ولم تتفق في الدور الثاني على مساندة أحمد ولد داداه ضد مرشّح الغالبية السابقة.
وأملت المعارضة بعد الشوط الثاني أن يقوم الرئيس سيدي بتأليف حكومة وحدة وطنية تترجم النسب المتقاربة التي حصل عليها الطرفان، (52 و47 في المئة)، وهو ما لم يحصل. فقد فضّل الرئيس الوفاء بتعهّده للمرشّح الزين ولد زيدان وتعيينه وزيراً أول واختيار غالبية وزراء الحكومة من التكنوقراط، وهو ما أثار حفيظة جميع السياسيين بمن فيهم بعض الذين ساندوا الرئيس سيدي. وعندما بدأت الدعوات من أجل تكوين حزب سياسي للغالبية، بادر رؤساء أحزاب المعارضة إلى شجب الفكرة والتحذير من الرجوع إلى الماضي، إلا أن كل ذلك لم يخفِ واقع أن المعارضة نفسها كانت بحاجة ـــــ حسب البعض ـــــ إلى غالبية منظّمة تتولّى مباشرة إدارة الأمور وتكون الحكومة التي تؤلّفها مسؤولة سياسياً عن برنامج حزبي تستطيع المعارضة على أساسه محاسبتها. فالواقع أنّ ضبابية الساحة السياسية اليوم تمنع المعارضة من أن ترى غريمها بوضوح، والغالبية التي انتصرت في الانتخابات لا تمثّلها حكومة التكنوقراط.
وعندما ينقشع الغبار، ويُؤلَّف الحزب السياسي الجديد، فسيكون على الرئيس سيدي، إذا كان حريصاً على مستقبل الديموقراطية الموريتانية، أن ينأى بنفسه عن استخدام منصبه من أجل التأثير في الحياة الحزبية، وعليه الحفاظ على دوره الدستوري بوصفه الحكم الأعلى بين جميع مكوّنات الطبقة السياسية.
وسيكون على المعارضة الموريتانية الرجوع إلى تقاليدها لما قبل سقوط نظام ولد الطايع، وإعادة محاولة فرض التغيير لمصلحة موريتانيا.
* محام وصحافي موريتاني