إسكندر منصور *
قرأت سلسلة مقالات للأستاذ وسام سعادة في صحيفة «السفير» يعبِّر بعضها عن هواجس مشروعة قابلة للنقاش والبعض الآخر يعبِّر عن فكر يصحُّ فيه قولٌ كثيرٌ ما عدا الوضوح.
لقد استُفِزّ وسام سعادة لأنّ هناك من لا يزال يعادي أو يعارض السياسة الأميركيّة في لبنان، ودعا لإجراء «مسابقة وطنيّة لتحديد السبب السياسي اللبناني الوجيه الذي على أساسه يمكن أن يُصار إلى قذف السياسة الأميركيّة بكيت وكيت وكيت» (السفير 27/9/2007).
وقبل أن يتسلم أجوبة المسابقة، وضع شروطاً على الذين قرّروا المشاركة فيها بأنه «لا يمكن أن يتمثّل الجواب الشافي في دعوة عامّة للنظر في متاهات الوضع العراقي... وليس كافياً كذلك الأمر البناء على «المعيار البروتوكولي» وحده عند تقويم ما يحقّ وما لا يحقّ لسفير دولة عظمى. الموقف السياسي من دولة عظمى له أن يُبنى بالحجج وبالإسناد، وبتقديم معيار المصلحة فوق كل معيار آخر». طبعاً يحاول وسام سعادة أن يجرّد خصمه الفكري والسياسي من ذخيرة حيّة في جعبته وهو الحرب الأميركيّة على العراق التي أدّت حتى الآن إلى تهجير حوالى 3 ملايين عراقي وقتل نحو مليون ضحيّة وإطلاق العنان لقوى ظلاميّة تعمل فتكاً وتدميراً في كل مقوّمات هذا البلد. طبعاً اللبناني العربي لا يحقّ له بنظر وسام سعادة أن يكون حذراً من إدارة ضربت عرض الحائط بكلّ المواثيق الدوليّة، وبنت حججها على تقارير كاذبة صيغَت لغاية الحرب وللحرب فقط. هذه أوراق لا يحقّ للبناني أن يقرأها ويدرسها ويبني سياسة في ضوئها يكون معيارها مصلحة لبنان فقط. على رغم ذلك، سوف أشترك بالمسابقة وفق دفتر الشروط المنشور في المقال. فـ«كيت وكيت وكيت» التي يريد أن يعرف وسام سعادة ما هي، أو أنّه يعرفها ولكنّه تجاهلها، ما هي سوى أسئلة ليست مستعارة من الكتب والخطب ونصوص أهل «الممانعة» التي تتحمّل مسؤوليّة كل ما جرى ويجري في العالم العربي، وخصوصاً لبنان، حسب مقولات وسام سعادة وحازم صاغيّة على سبيل المثال. فعلى حدّ قول الأوّل «المانع الأكبر لحريّة التفكير في العالم العربي يبقى رهن ثقافة الممانعة». وبكلمة موجزة، لولا أهل «الممانعة»، لكان العالم العربي من الخليج إلى المحيط واحة من الديموقراطيّة تُصان فيها حقوق المواطنين، وخصوصاً المواطنات، تملؤها الجامعات ومراكز الأبحاث العلميّة وتوظَّف الثروة في القطاعات الإنتاجيّة والأبحاث. الليبراليّون الجدد يحجمون عن طرح السؤال الحقيقي. ما الذي يجري في عالمنا العربي ولماذا، ومن المسؤول؟ وسام سعادة يدافع عن عدم طرح هذه الأسئلة لأنّه، على حدّ قوله، «ليس على المثقّفين الديموقراطيّين والليبرليّين العرب أن يشعروا بنقص فظيع إن كان لالتزامهم الثقافي معقوليّته السياسيّة التي تميّز في الراهن نفسه بين لحظات ومستويات» (السفير 11/10/2007). وهكذا يوظَّف العقل في لجم السؤال، ويُفصل بين الثقافي والسياسي، ونتيجة هذا الفصل يبرّر إحجام الليبراليين العرب عن نقد نظام الحكم والمجتمع في السعوديّة وفي بلدان عربيّة أخرى. الذين يتعاطون السياسة اليوميّة يفصلون بين الثقافي والسياسي لأسباب تكتيكيّة. أما وسام سعادة فيفضّل أحياناً الفصل بين الثقافي والسياسي ليبرّر صمت الليبراليّين العرب والمثقّفين عن القيام بدورهم، وأحياناً يرفض هذا الفصل حين يكون الموالون للغرب ثقافياً يرفضون السياسة الأميركيّة. لنقرأ ما يقول: «ما تطالب به الممانعة أخصامها من فئة العناصر الموالية ثقافياً للغرب، هو أن ترفع هذه العناصر من درجة تمايزها أو إعراضها عن الالتحاق بسياسات دول الغرب تجاه بلدان الشرق، إلى درجة لا يعود فيها من كبير فرق بين اتجاهين، أحدهما يوالي الغرب ثقافياً ويواجهه سياسياً، وثانيهما يواجه الغرب ثقافياً وسياسياً في آن». (السفير 6/10/2007). أما المطلوب بنظر الكاتب هو أن تكون الموالاة ثقافيّاً وسياسياً للغرب.

«الكيت وكيت وكيت»

أما الـ«كيت وكيت وكيت» التي يطرحها الأستاذ وسام ولا يعرِّفها، ولكنّه يريد أن يسمعها من الذين يعارضون السياسة الأميركيّة، فهي أسئلة اللبناني العادي التي تقول: ألا يحقّ للبنانيّين أن يعادوا أو يعارضوا سياسة أرادت أن تجعل من حرب تدميريّة عليهم وعلى أطفالهم «ولادة شرق أوسط جديد»؟ هل يتذكّر وسام سعادة تصريح وزيرة الخارجيّة الأميركيّة؟ ألا يحقّ للبنانيّين الذين ما زالوا يموتون من جرّاء أكثر من مليون قنبلة عنقودية صنعت في الولايات المتحدة وألقيت على قراهم، وخلافاً للمواثيق الدوليّة وأيضاً خلافاً للشروط الأميركية لبيعها، أن يعادوا إدارة بوش الراهنة؟ ألا يحقّ للبنانيّين أن يعادوا سياسة إدارة وقف رئيسها في حديقة البيت الأبيض يرفض وقف إطلاق النار على بلد دُمِّرت كل مقوماته الحياتية من كهرباء وماء وأدوية وغذاء؟ ألا يحقّ لشعب أن يعادي أو يعارض سياسة إدارة أرسلت في عز الحرب القنابل الذكية لإسرائيل مكافأة على قتل أطفال قانا للمرة الثانية؟ ألا يحقّ لشعب أن يغضب من إدارة (كلينتون) رفضت التجديد لبطرس بطرس غالي لكونه أجرى تحقيقاً في مجزرة قانا 1996 أدّى إلى تحميل المسؤوليّة إلى إسرائيل؟ ألا يحقّ لشعب أن يعادي أو يعارض سياسة إدارة دمّرت برجاً في الضاحية، وفي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي قتلت 80 مدنياً من أجل اغتيال زعيم ديني لبناني؟ (راجع بوب وودوورد). ألا يحقّ لشعب لبناني أن يعادي سياسة تريد توطين الفلسطينيّين في لبنان على حساب حقّهم في فلسطين أوّلاً وعلى حساب لبنان ثانياً؟ ألا يحقّ لشعب أن يعادي سياسة لم تفوِّت فرصة إلّا وأعلنت تأييدها لإسرائيل في احتلال جنوب لبنان من عام 1978 حتّى 20000، ولا تزال تتهرّب من وعودها للسنيورة المتعلقة بمزارع شبعا؟ وأخيراً، ألا يحقّ لشعب أن يعادي ويعارض سياسة إدارات أميركيّة لزّمت لبنان إلى سوريا لسنين وسنين؟ هذا غيض من فيض. لم أتناول حبوب محو الذاكرة بعد. ولكوني أحاول أن أتحرّر من عبء الذاكرة بما يخدم مصلحة لبنان، أتّفق مع وسام سعادة على أنّ أميركا دولة عظمى وعلى اللبنانيين أن يبنوا سياسة معيارها الوحيد مصلحة لبنان. لهذا أتساءل: ألا يحق لشعب أن يكون حذراً ومعارضاً لسياسة إدارة تمنع على اللبنانيين الاتفاق والتوافق، وبشكل علني وواضح تريد رئيساً غير مقبول على الأقل من نصف اللبنانيين، وبالتحديد من أكثريّة المسيحيّين. أليست هذه وصفة لحرب أهلية. نعم، المعيار الوحيد هو مصلحة لبنان، ولذلك يصبح السؤال الآن: هل في الانصياع إلى السياسة الأميركيّة (وخصوصاً الإدارة الحاليّة) ومطالبها مصلحة لبنانيّة؟
أوافق الأستاذ وسام سعادة على أنه لا مصلحة للبنان في أن يعادي أميركا وهي دولة عظمى، ولا مصلحة لأيّ طرف لبناني في معاداتها. ولكن أيضاً لا مصلحة للبنان في أن يكون مسرح تجارب لحرب أميركيّة مع إيران. علينا ألّا نقبل بأن تحارب إيران أميركا في لبنان، وهذا ما أشار إليه وسام سعادة في مقالاته وهو صحيح. ولكن ما لم يشر إليه أنه بالمنطق نفسه والحسّ والحذر والمصلحة، لا يجوز أن نقبل بأن تحارِب أميركا إيران في لبنان أو أن تُحارَب إيران في لبنان من أي طرف. هذا ما حصل، وهذا ما قد يحصل ثانية. على الأقل هذا ما أشار إليه الكثير من المعلّقين الأميركيّين المقرّبين من دوائر القرار.

في الثقافة والسياسة والغرب

بعد هذه المسابقة، ينتقل وسام سعادة إلى بيت القصيد من مقالاته. إنّ شرط التوافق، بنظره «هو التحرُّر من ثقافة الممانعة، والعودة إلى بعض ما ميّز السيرة السياسيّة لهذا البلد منذ نشأته، فهو وإن لم يكن جزءاً عضوياً متمّماً شروطه في الحضارة الغربيّة، إلا أنه بلد لا يمكن أن يستمر لحظة واحدة على قاعدة ممارسة التضادّ الثقافي والسياسي مع الغرب» (السفير 27/9/2007).
الذين يقاربون الثنائيّات ويعزِّزون حضورها، وإن تعارضوا شكلاً، ينتمون إلى البنية الفكريّة نفسها، نمط التفكير نفسه والرؤيا نفسها للذات والعالم والآخر. فالذين يقولون بثنائية الغرب والشرق، المتحضّر والمتأخّر، المعاصرة والتراث، والمسيحيّة والإسلام، يقرأون في الكتاب عينه وينهلون من المصدر عينه الذي يقولب العقول ويمترسها ويقول بعدم التقاء «النقيضين» (هذا التعبير لوليد جنبلاط وحقوق الطبع محفوظة لمساهمته في علم الديالكتيك). إنها مدرسة المنطق الأرسطي المبني على معادلة «إما أو». فمهمّة العقل النقدي خرق الثنائيات والخروج من كمين التضادّ إلى عالم التحوّل وفتح الإمكانيات على مصراعيها للانتقال إلى عالم جديد بدل التنقّل من متراس إلى نقيضه.
أرفض أن أُسجَن. أطمح إلى الحريّة، والحريّة ليست حقّ الاختيار بين الثنائيّات بل العمل على المفاهيم وتحويلها إلى إمكانات مفتوحة وآفاق جديدة للتفكير والعطاء.
إنّ القول إنّ لبنان قريب سياسياً وثقافيّاً من الغرب، كما يقول وسام سعادة وغيره من قبله وهم كثيرون، لا يجعل منه واحة للحريّة والعقلانيّة ولا منارة لفكر نيّر ينتمي بجذوره إلى عصر الأنوار. كيف يكون لبنان غربي الانتماء (ومفهوم الغرب مفهوم ملتبس وغير واضح) والطائفيّة إحدى مفاخره. أين نحن من العلمانيّة الغربيّة والديموقراطيّة «الغربيّة»؟ حتى الديموقراطيّة التوافقيّة، الصاعق المؤقّت، أصبحت حلماً. عن أيّ غرب يتحدّث الأستاذ وسام سعادة؟ هل هو غرب عصر الأنوار؟ أم غرب نيتشه وهيدغر؟ أم الغرب الذي أنتج النازيّة فكراً وحلماً وحضارة؟ أم الغرب الإمبريالي صاحب الحرب العالميّة الأولى والثانيّة وما بينهما وما بعدهما من مجازر، في أوروبا والجزائر وآسيا وإفريقيا؟ أم الغرب صاحب الحرب العالميّة الرابعة على حدّ تعبير نورمن بودورتز صاحب كتاب: «الحرب العالميّة الرابعة والكفاح الطويل ضد الإسلام الفاشي»؟ طبعاً الخيار ليس أصوليات هائجة ولا شعار «الموت لأميركا» و«أمريكا هي الشيطان الأكبر». وإن كان لا بدّ من غربٍ، فهو غرب الفكر الناقد لتراثه الفكري والديني ولماضيه وحاضره الفكري والسياسي، المتحرّر من «مركزيّته»، والمنفتح على أبنائه من المسلمين وغيرهم. والغرب ليس وحدة فكريّة وسياسيّة. الغرب ليس صنماً لنعبده وعابدوه كثر. لا فرق بين عابد للشرق وعابد للغرب فكلاهما استقال من التفكير ووضع مستقبله في أيدي المعجزات والشعوذات.
إن في «الغرب» لشعوذات ومعجزات تفوق «معجزات» نعمة الله الحرديني والقديسة رفقا وعجائبهما، وأيضاً تفوق «معجزة» (بالإذن من المقاومة) «النصر الإلهي». أما سمعتم بأن الله تكلّم مع جورج بوش؟
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة