الشيخ أحمد قبلان *
إنّ عنف الخلاف بين مكوّنات القوى اللبنانية أضحى يطال رأس هيكل النظرية المركزية لتعريف حدود لبنان السياسية والأمنية على رغم ما يعنيه من كارثة لا هوادة فيها بخصوص هوية لبنان وشروط قيامه واستمراره!
ففريق السلطة يرى أنّ لبنان جزء محوري من منظومة واشنطن وسياساتها الأساسية. وعليه فمن البديهي أن تتوالى زيارات رموز فريق السلطة إلى واشنطن لتعلن من هناك مفهومها للبنان السياسي والأمني. وبالتالي، ما قامت به واشنطن إبّان حرب تموز 2006 عبر قيادتها المركزية التي تجلّت بجورج بوش وتشيني ورايس ووزير الدفاع وقيادة البنتاغون من شحن أخطر القنابل والصواريخ الاستراتيجية لتل أبيب بهدف سحق لبنان المقاومة، هو فعل صديق وحليف، ولو من باب الدبلوماسية المجتزأة. وعليه، وفقاً لنظرية «لبنان جزء من الأمن القومي الأميركي»، صوّت مجلس النواب الأميركي على قرار أعلن فيه حصرية الامتياز اللبناني له، مُخرجاً أحزاب المعارضة من الصيغة اللبنانية، مع أنهم يشكلون أكثر من 70 في المئة من المكوّن الديموقراطي اللبناني، وذلك تزامناً مع زيارة وليد جنبلاط، بهدف تزخيم الإشارات (المطلسمة) في اتجاه حلفائهم قبل الخصوم، بالإضافة إلى رسائل الجنرالات من طراز القيادة المركزية العالمية للجيش الأميركي التي بدأت تتوالى على لبنان والمشاريع الافتراضية عن القواعد العسكرية، بهدف تركيب هوية جديدة للجغرافيا الأمنية والسياسية للبنان.
كان يفترض بالقوى اللبنانية تحديد المسار وفق بنية تؤكد طابع الأمن اللبناني بضمانة مقاسات وطنية، وإلا فإن سياسة الإلحاقات تعطي الأميركي أفضلية المناورة، لكنها لا تعطيه أفضلية الفعل. وفي الوقت نفسه تجزّ ما بقي لهذا الفريق السلطوي من قدرة على نشل وزنه الغارق في الذوبان. على أنّ مكوّنه يعيش ظاهرة الفوارق، فتيار المستقبل من مصلحته الحيوية الدخول في شراكة وطنية، فيما الحزب التقدمي والقوّات اللبنانية يعانيان بشدة خفة الوزن، لذلك عمدت صناعة القرار في الحزبين إلى طي سياسة اللبننة لتضخ كل إمكاناتها التعبوية في الدفاتر الوازنة لرموز السلطة حتى تمنع أي مشروع تسوية. من هنا نفهم منشأ الأزمة المتجددة التي تصر على قصف أي تسوية، بل هذا سبب زيارة وفود القوى والرموز لواشنطن. ولهذا تتردد فكرة الخيارات الأمنية والتي على أثرها نُقلت ملفات كبيرة جداً لصنّاع القرار في واشنطن، هدفها طبخ مشاريع أمنية وحض عقول الأساطيل على ابتكار معادلة جديدة في ما بقي من شرق ديموقراطي عظيم، كما هي تسمية أحد كتّاب رسائل التهويل لواشنطن. والأكيد أن هناك من طلب من واشنطن فعلاً أمنياً كبيراً، هدفه تغيير هوية لبنان، والسير بخيارات غير مسبوقة بما فيها التطبيع مع تل أبيب وبناء قواعد عسكرية أميركية ضخمة ونفضة ديموغرافية!
ويبدو أن البعض انقطع عن الواقع بحيث أضحى يعيش في الحقائق الورقية وأرجوحة الأماني، وقد أسرّ (هذا البعض) في زمن مضى ـــــ قبل حرب تموز ـــــ لمقرّبين منه أنّ الإعصار العسكري قادم، وقد خاب أمله، ودخل مرحلة يأس صريحة تكسرت على وجهه ولغته، فيما الأميركي العملاق يتخبط بشدة مثيرة خشية إغلاق حدود تركيا مع العراق، ما يقطع الوريد المركزي لتموين جيشه. ومع ذلك، تجد رموز فريق السلطة في بلدنا يستنجدون بالأميركي لكي يزجّ بطاقاته لتغيير موقع لبنان بشكل لا سابق له. ومع أنّ كلفة هذا الخيار كبيرة جداً، إلا أن هناك من غرق في التزاماته إلى حدّ لا يُصدَّق، حتى وصل الأمر به أن يسوِّق من واشنطن دعاية مفادها أن حزب الله عميل لإسرائيل! وبناءً عليه:
أولاً، إذا مشت الموالاة بخيار الانقلاب على الدستور عبر انتخاب رئيس بالنصف زائداً واحداً، فهذا سيمُكّن المعارضة من إدارة الحياة السياسية بشكل دستوري كامل، عبر الحكومة الانتقالية التي ستبسط سلطتها على الغالب الأعظم من الأراضي اللبنانية.
ثانياً، إنّ التعويل على فعل أمني أو عسكري يغيّر الواقع اللبناني هو مجرد وهم أسطوري، فضلاً عن انعدام حظوظه من المؤشرات الحقيقية، في حين أن لبنان يتمتع بأعلى جاهزية للردع والمواجهة.
ثالثاً، إن أي قلب للطاولة على شكل مقاطعات ميليشياوية، يعني أن واشنطن تنحر حلفاءها وتعلن تخلّيها الفعلي عن الملف اللبناني.
من يراقب واشنطن وهي تنتحب فشلاً في ميانمار، وتختبئ وراء الجيش العراقي خشية من تدخل تركي في شمال العراق، وتتلطّى ذليلةً وراء فريق الوحدة الإفريقية في دارفور، وتصرخ يائسةً في ملف كوسوفو، وتتوسل الأطلسي أن يبادر إلى زيادة قواته في أفغانستان خشية من انهيار الهيكل الأمني ككل، فضلاً عن صراخ جورج بوش ومناشدة قادة العالم لكي يمنعوا إيران من امتلاك القدرة النووية، وإعلان بوتين شراكة في كل القطاعات مع طهران، وسط أزمة مكتومة بين بكين وواشنطن وسعي محموم بين قوى آسيا المركزية أو بعضها للتعبير عن القارية العالمية التي لها حق الإدارة الوازنة لشؤون العالم. كل ذلك مضافاً إليه الكارثة الكبرى التي منيت بها واشنطن إبان حرب تموز، يعطينا دروساً صريحة هائلة لفهم التخبط الأميركي في لبنان، حتى لا يسقط البعض في لعبة مقامرة لن يخسر فيها إلا المقامرون
فقط.
* المفتي الجعفري الممتاز