عثمان تزغارت *
أشفقتُ على مغنّي «الراي» الجزائري رضا الطلياني من المأزق الذي يتخبّط فيه منذ أسابيع، على إثر واقعة تأييده ـــــ غير المقصود ـــــ لـ«مغربية الصحراء». عبثاً يحاول هذا الفنان الشعبي أن يشرح لمنتقديه أنه «غير مسيَّس» و«غير متعلِّم»، وأنّ ما حدث كان مجرّد «سوء فهم». لكنّ الصحف الجزائريّة ما تزال تصرّ على إخضاعه للتعذيب السَّادي، عبر مطاردته بالأسئلة الجيوستراتيجية، التي تتجاوز حدود فهمه، عن الموقف الوطني الأمثل حيال نزاع الصحراء الذي «تتلخّص فيه منذ جلاء الاستعمار كلّ تطلّعات المنطقة في الانعتاق والتحرّر من قوى الإمبريالية والاستعمار الجديد»...!
مَثَلُ الصحافة الجزائرية في ذلك مثل مذيع «الجزيرة» المغوار، الذي انبرى خلال اعتداء تمّوز لسؤال هيفاء وهبي عن مفهومها للمقاومة في الفن!
قرّاء «الأخبار» الذين سبق أن تابعوا بعضاً من فصول قضية الطلياني (راجع مقالات الزميلين ياسين عدنان وبشير مفتي ـــــ الأخبار ـــــ 3 و27 أيلول)، يذكرون، من دون شكّ، المقلب التراجي ـــــ كوميدي الذي وقع فيه خلال حفل أحياه في المغرب، حيث قام الجمهور المغربي بمشاكسة مطربه الجزائري المفضّل بصيحات «الصحراء مغربيّة»، وهو ما جرّ الطلياني، الذي لم يفهم أنّ الأمر يتعلّق بالصحراء الغربية، إلى مجاملة جمهوره بتحيّة عفويّة كان يعتقد أنّها ستكون عابرة، قائلاً: «في خاطر الصحراء
المغربية»!
قامت قائمة الصحف الجزائرية، والتأمت بسرعة جوقة التخوين المعتادة. لينتهي الأمر بقرار من مدير الإذاعة الوطنية الجزائرية، الشاعر عز الدين ميهوبي ـــــ الذي كان حتّى عهد قريب رئيساً لاتحاد الكتّاب العرب... قاطبة! ـــــ بحظر بثّ أغاني رضا الطلياني، حتى يتوب عن موقفه «المنافي للقيم الوطنية».
المؤيّدون للقرار ـــــ وهم كُثر ـــــ في الأوساط الإعلامية والثقافية الجزائرية، ضربوا مثلاً على ما يجب أن يكون عليه «الموقف الوطني» من مشكلة الصحراء برفض المطربة فلّة عبابسة المشاركة في مهرجان «العيون» الموسيقي، مبرّرة ذلك بقولها: «العيون» هي عاصمة الصحراء الغربية، التي هي محلّ نزاع بين المغرب والجزائر، «لذا لا يصحّ لي أن أغنّي هناك»!
صفّقت الصحف الجزائرية لموقف عبابسة وأشادت بـ«وطنيّتها» من دون أن ينتبه أحد إلى أن المطربة الجزائرية وضعت اليد ـــــ من حيث لا تدري ـــــ على النقطة الإشكالية التي هي مصدر كل القلاقل والمشاكل في علاقات الجزائر والمغرب، منذ ثلث قرن: هل النزاع في الصحراء صراع على الاستقلال بين المغرب وجبهة بوليساريو التى تحظى بدعم الجزائر من منطلق تأييد حقّ الشعوب في تقرير المصير؟ أم أنّه في واقع الأمر نزاع مباشر ـــــ وإن كان غير معلن ـــــ بين الجزائر والمغرب؟
ليس القصد هنا مناقشة «مغربية الصحراء» من استقلالها. فالمجال لا يتّسع لاستعراض الخلفيات التاريخية الشائكة لهذا النزاع الذي ما يزال مستعصياً على الحلّ، منذ ثلث قرن. بصفتي جزائرياً، يهمّني ـــــ أكاد أقول من «واجبي الوطني» ـــــ تسليط الضوء على مفارقة سياسية عجيبة تجعل تأييد الموقف الرسمي الجزائري من الصحراء الغربية واجباً مقدّساً و«فرض عين» على كلّ جزائري وجزائرية. من يجرؤ على مناقشته أو الاعتراض عليه، يجد نفسه عرضة للتخوين والتشكيك في وطنيته.
لا يقتصر الأمر فقط على مغنّي «الراي» رضا الطلياني. فحتّى وزير الدفاع السابق، الجنرال خالد، «الرجل القوي» في المؤسّسة العسكرية الجزائرية، الذي كان من صلاحياته المعلنة «صناعة الرؤساء» ـــــ وعزلهم ـــــ في حقبة التسعينيات، تعرّض لحملة تخوين مماثلة، بسبب مشكلة الصحراء الغربية، وهو ما عجّل بأفول نجمه، بعدما كان الشخصية الأحبّ لدى الصحف «المستقلّة» ذات التوجّه «العلماني»، والأحزاب «المعارضة» المنضوية في «التيار الديموقراطي»، التي كانت ترى فيه بطلاً في مقاومة التطرّف والإرهاب، وحامياً لقيم الجمهورية والديموقراطية (يجب الاعتراف هنا بدورنا الريادي نحن الجزائريّين، فنحن كنا سبّاقين في ابتكار مفهوم الديموقراطية المحمولة على ظهور الدبابات، قبل عقد كامل من بزوغ نجم «المحافظين الجدد» الأميركيّين!)
لماذا «سقط» الجنرال نزار، ولم يعد صوته مسموعاً؟ لأنه تجرّأ، سنة 1999، على المطالبة بوقف الإنفاق العسكري الجزائري المرتبط بنزاع الصحراء الغربية، قائلاً: «لقد كلّفنا هذا النزاع 200 مليار (دولار أم دينار، سيدي الجنرال؟) منذ 1975، فهل نحن مستعدّون لإنفاق مائتي مليار أخرى من أجل حلّه؟».
قبل ذلك، حاول الرئيس محمد بوضياف، مطلع التسعينيات، أن يعيد النظر في الدوغما التي تتحكّم بموقف المؤسّسة العسكرية الجزائرية من نزاع الصحراء، في الوقت نفسه الذي سعى فيه لوضع حدّ للفساد واحتكار الريع النفطي، الأمر الذي عجّل بسقوطه على يد أقرب حرّاسه العسكريّين في «حادثة المنصّة» الشهيرة في عنّابة. وقد أدّى تخلّي الرئيس بوضياف العلني عن دعم جبهة بوليساريو، دوراً لا يقلّ أهميّة عن ملفّ الفساد في التعجيل بتلك القطيعة الدموية بينه وبين المؤسّسة العسكرية الجزائرية، التي كانت قد نصّبته رئيساً ـــــ من دون انتخابات ـــــ قبل ذلك بأقلّ من ستة أشهر.
أراد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بدوره، بعد ذلك التاريخ بقرابة عقد من الزمن، أن يبرهن ـــــ كما قال ـــــ أنّه ينتمي لصنف من الرجال لا يمكن أن يقبل بأن يكون «ثلاثة أرباع رئيس». فأمسك بملف العلاقات الجزائرية ـــــ المغربية، وشرع في التعامل بواقعيّة وتبصّر مع مختلف الإشكالات العالقة بين البلدين، من قضية الحدود المغلقة إلى نزاع الصحراء. لكن، ما أن احتدم الصراع بين الفريق الرئاسي والمؤسّسة العسكريّة، حتى عاد الرئيس بوتفليقة لاستعمال تكتيك قديم شكّل لازمة في السياسة الجزائرية منذ الأشهر الأولى للاستقلال، وهو الالتفاف على المشاكل الداخلية عبر تعمّد إعادة إشعال فتيل الخلافات مع الجار
المغربي.
ما أن استقلّت الجزائر صيف 1962، حتى احتدم صراع «الإخوة الأعداء» بين قادة الثورة. زحف «جيش الحدود» إلى العاصمة، وقام بتنحية «الحكومة المؤقّتة للثورة الجزائرية»، واستولى على السلطة، منصّبا أحمد بن بلّه رئيساً على ظهور الدبّابات، وهو ما فجّر الصراع بينه وبين اثنين من أبرز رفاقه، حيث غادر حسين آيت أحمد المجلس الوطني التأسيسي، ليقود تمرداًَ عسكرياً على «النظام المركزي» في جبال القبائل، وانشقّ محمد بوضياف عن «جبهة التحرير»، التي كان مؤسّسها الأول، وألّف حزباً معارضاً سرّياً سمّاه «حزب الثورة الاشتراكية».
وجدت البلاد نفسها على حافّة الحرب الأهلية، فخرج الشعب إلى الشوارع رافعاً شعار «سبع سنين بركات» (تكفي معاناة سبع سنوات من حرب التحرير). كيف عالج الرئيس بن بلّه تلك الصراعات الداخلية؟ لجأ إلى افتعال «حرب الرمال» ضدّ المغرب. ونجح بذلك في إسكات كلّ الأصوات المعارضة، بحجّة ضرورة رصّ الصفوف داخلياً لمواجهة الخطر الخارجي الذي يحدق بالبلاد ويهدّد وحدتها
الوطنية.
بعد ذلك التاريخ بقرابة أربعين عاماً، لجأ الرئيس بوتفليقة ـــــ الذي كان أحد أقطاب تلك الأوركسترا العسكرية (التي ستُعرف لاحقاً باسم «حلف وجدة») التى نصّبت بن بلّه رئيساً، قبل أن تنقلب عليه في حزيران 1965 لاستعادة التكتيك ذاته. لكن، هذه المرة، لمراضاة خصومه من قادة المؤسّسة العسكرية الذين رفض بعضهم تزكية ترشيحه لولاية رئاسية ثانية.
كانت حجّة الرئيس بوتفليقة لتبرير وضع حدّ لشهر العسل القصير مع المغرب، مزاعم أمنية بأنّ جماعات إرهابية (جزائرية) كانت تنطلق من الأراضي المغربية لتدبير تفجيرات في الجزائر. أما السبب الفعلي، فكان مردّه إلى خبرة بوتفليقة المطوّلة في التعامل مع المؤسّسة العسكرية الجزائرية التي انحدر في الأصل من صُلبها، وإن اختلف معها لاحقاً. لذا فقد كان يَعرف أفضل من غيره أنّ الدفع باتجاه احتقان العلاقات مع المغرب خير وسيلة لكسب ودّ جنرالات الجزائر.
السرّ في ذلك أن المؤسّسة العسكرية الجزائريّة ترى قضية الصحراء الغربية من «الثوابت الوطنية»، وتصنّف إدارة هذا الملف ضمن صلاحيات «الجيش الوطني الشعبي» التي لا يجوز أن تُطاولها المساءلة أو تكونَ عرضة للنقاش أو التشكيك من أحد، تماماً مثل صلاحيّات إدارة ـــــ أو بالأحرى تقاسم ـــــ الريع النفطي، وصلاحيات «صناعة» رؤساء الدولة حسب الحاجة، وعزلهم عند الحاجة!
وما دمنا قد بدأنا هذه المقالة بالمقلب التراجي ـــــ كوميدي الذي واجهه المغنّي رضا الطلياني، فلا بأس من سرد واقعة صادفتني شخصياً، من تلك الشاكلة ذاتها التي قالت فيها العرب قديماًَ «شرّ البلية ما يُضحِك».
في أواخر التسعينيات، حين أطلقت صحيفة «إنترناشونال هيرالد تريبيون» طبعتها الإقليمية الخاصة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أُوكل إلى مجموعة من الكُتّاب والإعلاميّين العرب، كان من بينهم الراحل جوزف سماحة، تحرير صفحات الرأي الخاصّة بهذه الطبعة. وطُلب منّي أن أكتب مقالة أسبوعية في شؤون المغرب العربي. فكان أن كتبتُ، ذات أسبوع، عن الموقف الدوغمائي للجيش الجزائري من قضية الصحراء الغربية.
فوجئتُ بردّة فعل غريبة، حين زرتُ الجزائر بعد أشهر من نشر تلك المقالة، حيث جاءني صديق صحافي قائلاً بأن ضابطاً سابقاً يودّ دعوتي إلى فنجان شاي. ويجدر التوضيح هنا أنّنا في الجزائر تعوّدنا أن نخاف من الضبّاط السابقين أكثر من الذين ما يزالون في الخدمة! مع ذلك، لبّيتُ الدعوة بدافع الفضول. فأنا أمارس الصحافة منذ ما يربو على عشرين سنة، في الجزائر بدايةً، ثم من باريس منذ العام 1992. وأفكاري المعارضة لسطوة المؤسّسة العسكرية على الحياة السياسية والاقتصادية في الجزائر معلنة ومعروفة منذ الثمانينيات. لذا، فقد قلتُ في نفسي: إن كان القصد مناقشة كتاباتي التي لا تروق للعسكر، فلن تكفي جلسة عتاب واحدة حول كأس شاي.
كنتُ متحرّقاً لمعرفة الموضوع الذي جعلني أتشرّف بلقاء حضرة الضابط السابق. جلستُ قبالته، وكنتُ ـــــ مثل غالبية الجزائريين ـــــ أعرفه بالاسم فقط، ولم يسبق أن قابلتُه أو رأيتُ صورةً له. إلا أنّ صوته لم يكن غريباً عنّي، فقد سبق أن هدّدني هاتفياً بالسجن، عام 1990. لعلّ تلك المحادثة النارية المتوتّرة هي التي جعلتني، طيلة سنوات، أتصوّره نحيفاً، عبوساً، قصير القامة. فإذا به أمامي بشوشاً، سميناً، ضخم الجثّة!
بعد عبارات الترحيب المعتادة، بدأ موّال العتاب. وكما توقّعتُ، قال لي الضابط السابق: «أنت قلم نعتزّ به، ونتابعُ بفخر ما تكتُبه في الصحافة الدولية. وأنا شخصياً أقدّر كثيراً مواقفك وأفكارك، وإن كنت لا أتّفق معك دوماً. لكنني بصراحة أصبتُ بخيبة أمل كبيرة أخيراً... لم أكن أتصوّر يوماً أنك تفتقر للحسّ الوطني إلى هذا الحدّّ»!
يا إلهي! «الحسّ الوطني»، هكذا، دفعة واحدة؟ صُعقتُ! وخُيِّل إليَّ، للحظة، كأنّني أنا ـــــ لا الشخص الجالس قبالتي، وجماعته ـــــ المسؤول عن مقتل 200 ألف جزائري! لكنّني تمالكتُ، وسألتُ حضرة الضابط عمَّا يتحدث بالضبط؟ فقال: مقالتُك عن الصحراء الغربية... كيف استطعت؟ (?comment tu as pu).
حدّقتُ في حضرة الضابط مطوّلاً، وأنا مندهش: ما علاقة الموقف من الصحراء الغربية بحسّي الوطني الجزائري! بهدوء أخرجتُ من جيب المعطف جواز سفري، وناولتُه إياه. ارتبكَ، فاهتزّت كأس الشاي في يده، وكادت تقع. لم يفهم قصدي. قلتُ: هل يمكن أن تقرأ ما هو مكتوب على الصفحة الأولى. هل المكتوب «الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية» أم «الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية»؟
عبثاً حاولتُ أن أفهم من حضرة الضابط أيّ منطق هذا الذي يبيح لي أن أشتم الجزائر، شعباً ودولة، لو أردتُ. وأن أنتقد الحكومة والجيش، أو أسبَّ رئيس الدولة شخصياً، كما تفعلُه صحافة الجزائر كلّ يوم. أما أن أكون عديم «الحسّ الوطني» إلى درجة أن أنتقد الموقف الرسمي من الصحراء الغربية، فللصبر حدود!
من أغرب ردود الفعل الأخرى التي أثارتها مقالتي تلك عن الصحراء الغربية أن رئيس تحرير صحيفة جزائرية اتصل بي، بعدها بأشهر، مُلتمساً أن أساعد صحافياً أوفده إلى باريس لإجراء حوار مع وزير الداخلية المغربي (الراحل) إدريس البصري، الذي كان قد لجأ آنذاك إلى فرنسا، إثر تنحيته من جانب الملك محمد السادس.
طُلب منّي ذلك خدمةً ودّية باسم الزمالة، فبذلتُ ما في وسعي. وتمّ اللقاء. بعدها بأيام، فوجئتُ باتصال هاتفي من رئيس التحرير المذكور، واعتقدتُ أنه يريد أن يشكرني على ما بذلتُه من جهد. لكنه بالعكس قال: الآن فهمتُ! وضحكَ ضحكة غامضة طويلة. فقلت: خير، واشْ فهمت؟ قال: فهمتُ لماذا كتبتَ مقالتك ضد البوليساريو... لأنّك صديق شخصي لإدريس البصري!
حاولتُ أن أشرح له، بما أمكن من هدوء، أنني لم يسبق لي «شرف» لقاء الوزير البصري أيام كان في الحكم، ولا بعد لجوئه إلى باريس. لم تجمعنا سوى محادثة هاتفية يتيمة، عن طريق ناشري الفرنسي، الذي كان مهتمّاً بنشر مذكّراته. ولم تكن لتلك المحادثة أيّ صلة بالصحراء الغربية. كلّ ما هنالك أنني طلبتُ من إدريس البصري إجراء حوار صحافي معه، فاعتذر قائلاً إنّ الظروف لم تنضج بعد لإجراء أحاديث. ويبدو أن سمعتي لديه لم تكن بأحسن من سمعتي لدى نظرائه من الضبّاط الجزائريين، حيث لم تكد تمرّ أسابيع قليلة، حتى قرأتُ له أحاديث صحافيّة عديدة...

* كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس