strong>نسيم ضاهر *
أنجزت تركيا الخطوات الدستورية، وتجاوزت الاستحقاق الرئاسي بسلام.
سيشغل عبد الله غول، الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية، منصب جودت سيزر العلماني، للسنوات المقبلة، ويجلس في سدّة رئاسة الجمهورية الموروثة عن أتاتورك.
سلَّطت التعليقات والمراهنات الضوء على جانب من المسألة، محوره تحفّظ المؤسسة العسكرية حيال وصول شخصية إسلامية مرموقة إلى قمة الهرم السياسي في دولة علمانية، وما نجم عنه من امتعاض ومشاكسة، إلى أن حسم الأمر في الجمعية الوطنية تبعاً للأصول. الحاصل انتقال نظامي على خلفية علاقة صعبة مشوبة بالحذر والترقب، بانتظار المقبل من تطبيع في ضوء الممارسة وتوكيد التزام المبادئ التي أرساها مؤسِّس الجمهورية وسارت تركيا عليها منذ سقوط السلطنة والخلافة.
سارع غول، الأكاديمي زميل رجال الاقتصاد، إلى طمأنة هيئة أركان الجيش، حارس العلمانية التقليدي، معلناً حرصه على الطابع الجمهوري وتقيّده بالنصوص والأعراف التي ترعى فصل الدين عن الدولة، على هدى كمالية شكلت ـــــ قطعاً ـــــ مع مألوف العالم الإسلامي، وما زالت، تجربة يتيمة صامدة لعقود. ذلك لزوم، على صعيد إدارة الدولة، لا يلغي مشرب الرئيس الجديد العقيدي، ومساره برفقة أربكان سابقاً واتصال التيار الإسلامي الذي ينتمي إليه باللوحة الاجتماعية المحافظة. وقد تكون المساكنة القادمة، إذا استقرَّت على احترام متبادل ونهوض بالمهام والصلاحيات في كنف الدستور وحمايته، فاتحة نموذج يُحتذى به، يؤطِّر الإسلام السياسي المعتدل ويصالح الأحزاب المنبثقة منه مع المنهج الديموقراطي ومنطق تداول السلطة، على غرار الجناح الديموقراطي المسيحي العامل في أوروبا نتيجة ترسيم الحدود بين الديني والزمني.
غير أن غول الخارج من صفوف المحافظين لن يألو جهداً في التجاوب مع الأوساط الأكثر حداثة، قاطرة التحولات الاقتصادية، ولناحية القراءة المتأنية لحاجات المواءمة بين القديم والجديد. فثنائي العدالة والتنمية الممسك بالسلطة الإجرائية مدعو إلى مزيد من إصلاح في بنية الاقتصاد، وإلى قطع المسافة التي تفصل تركيا المتوثّبة عن النادي الأوروبي، عبر التأقلم طرداً مع لوائح الاتحاد الأوروبي واكتساب شروط العضوية الكاملة، ووليمة قياس الخطوات ووتيرة التحولات، بما يرضي المؤسسة العسكرية ويهدّئ مخاوفها على الأمن القومي في الداخل، ويكسب سياسة الانفتاح الحصانة الشعبية في المدن والأقاليم.
تواجه تركيا مشقة الانسجام مع المعايير الأوروبية في حقول شتَّى، أبرزها منظومة الحريات وحقوق الفرد والأقليات، بعنوان كردي عريض لا يخلو من المصادمات الدموية وحملات التأديب. كما تعاني، رغم قدرتها التنافسية في قطاعات صناعية إنتاجية، من تقادم منشآت ذات غلاف تقليدي وتفاوت ملحوظ بين المدن والريف، ودورة اقتصادية بطيئة محدودة في نواحٍ معزولة عن ركب العمران، وزخم ديموغرافي وقوالب معدومة التماس مع
المعاصرة.
إن هذه الأورام، مجتمعة، تلقي بثقلها على المشروع الإنمائي وتعوق بلورة صيغة متوازنة ومستدامة له، فيما تقف مانعاً أمام التكيّف العضوي مع الحداثة وتصفية مخلّفات الماضي في الثقافة ونمط الحياة المجتمعية. بدوره، يلعب الفكر الديني دوراً مُحرّكاً ومؤثراً في مناحٍ عديدة، يرفع وريث حزب الرفاه بقيادة أردوغان وغول إلى المصاف الأول ما دام قد عبَّر عن تمثيل الحاضنة المحافظة في وجه التغريب ودعاة العلمنة المتشددة، وقد يكون عامل فكاك أو انكفاء عن تأييد حزب العدالة والتنمية إذا ذهب بعيداً في مسعى الأوربة وعكف على إنبات نموذج خالص المعالم التجديديَّة المغايرة للموروث والتقاليد.
انضمت تركيا باكراً إلى الحلف الأطلسي، واستمرت على عضوية فاعلة مكّنت بناء جيش قوي مرهوب الجانب ومَشتلٍ للنخب العسكرية صاحبة الباع في الشأن القومي. لكنها اليوم، أمام خيارات تقتحم البُنى الاجتماعية برمّتها، وتستدعي محاكاة شعبية بلغة الميزات التفاضلية والأرقام والمنافسة في إطار العولمة، تتخطَّى التماثل الفوقي النخبوي القائم على موازين القوى وحيازة مقومات الطرف الإقليمي الفاعل إلى صميم الاندماج «الحضاري» واتباع أساليب عمل وعيش ونشاط ومعايير قيمية تؤهل أوسع الأوساط لقفزة نوعية غير مسبوقة. هنا منشأ الأعطاب المحتملة، وهنا محك نجاح الحزب الإسلامي في ردم الهوة الفاصلة والهبوط الآمن في المقلب الأوروبي. وما من شكّ في أن حزب أردوغان وغول سوف يحرص على التعددية واللعبة الديموقراطية لابتعاده عن انقلابية لدع منها وخبر مساوئها، إنما يطرح السؤال ويستوي في الوصل بين المساحيق والمضامين وبيان المفاهيم التحديثية رافعة للحراك السياسي والدعاوة التعبوية، أي ترتيب البيت الداخلي على قاعدة المواطنة والتنافس المُتكافئ، ومجانبة امتياز الحصرية بثوب إسلامي، وإخراج السياسة من الحقل الديني. تلك محدِّدات أساسية لا تشطب المرجعية الثقافية والانتمائية، بل تتفاعل معها على وجه سليم معلن، وتصنع لبنات التصالح التاريخي مع العلمنة، لا مسايرتها واحتواءها على معنى الاتقاء الانتهازي
والظرفية.
من البداهة أن التجربة التركية، في لحظتها ومستقبلها المرئي، جديرة بالمتابعة وحافلة بالدروس والخلاصات الموضوعة في رسم سائر الدول الإسلامية للمعاينة والاقتباس والعبرة. ولقد كشفت فصولها الأولى عمق الإشكاليات والتجاذبات، من تدارك لمصادمة المؤسسة العسكرية وانفتاح على المكوِّنات السياسية، على مثال انتخاب رئيس «محايد» للجمعية الوطنية، مروراً بالمفهمية الجمهورية التي تمسك بها غول فور إعلان انتخابه والتزم طقوسيتها، وصولاً إلى مسألة حجاب السيدة الأولى خير النساء وكيفية عصرنة ملامحه وارتدائه ومقاييسه. إن هذه الوقائع، على تنوّعها ووجاهتها، مقدمات تشي ببلاغة الموجبات التي تتناول العناوين والتفاصيل، وتتطلب قدراً عالياً من المرونة والاحتراز، حيث تفتقر جعبة الحركات الإسلامية بعامة إلى عقاقير شافية ومضادات للعوارض مضمونة ومجرّبة في ظروف نقلة من الصعوبة انسيابها طبيعياً وتلقائياً. وبالتالي فإنها تستدعي دفعاً ذاتياً من القائمين على السلطة ومقداراً من التطويع والقسرية للملاءمة بين الوكالة والتغيير وابتكار وسائل من صنع وطني تواكب التحديث وتحفز المتابعة.
يعلم قادة تركيا الجدد أن صيغة الدولة المدنية قلما تجد جذوراً أو مسوّغات في الفضاء الإسلامي الفسيح، لأسباب راكمها التاريخ واجتهادات فقهية غالباً ما لفظتها بحجة كفاية الأمة وذريعة رفض المستورد والنيل من الهوية والوحدة الكيانية. إلا أن أتاتورك، باني تركيا الحاضرة، قطع شوطاً معتبراً وسار على عكس التيار السائد، ممهّداً الطريق من عوائق وحواجز، ومخوّلاً ورثته الاعتماد على حصيلة كفاحه وإنجازاته.
لـذا، ينعم حزب العدالة والتنمية في سعيه نحو التوفيق بين الطابع الدولتي/ التركة ومفكرته الإسلامية، بواقع الرصيد الدستوي العلماني الذي يضعه عملياً في منتصف الطريق ويعفيه من مسؤولية قطع حاسم سبق لأتاتورك تحمل أوزاره بشجاعة وإقدام. وإزاء تفهُّم المؤسسة العسكرية، المؤتمنة على إرث أتاتورك، لانتقال السلطة، ورضوخها لمآل الدستور، ينبغي لقادتها تثمين خطوة درع النظام، وإن على مضض وتسليم بعد مشاكسة، ومحاذرة مناوشتها والاشتباك معها، ظناً أنها قد احتجبت أو انكفأت نهائياً عن الساحة ورمت قفازها. على هذا المحمول، من غير المستحيل بناء علاقة تواصل وتكامل، تتحلَّى بسمات تجربة رائدة، وتسير وفق معارج المعطى التركي المتميِّز عن جيرانه الأوروبيين في مناخه وتوليفته الدينية وتقاليده، بلوغاً للدولة الديموقراطية العصرية والفصل الحقوقي الكامل بين المؤسسات.
إن هذه المعادلة كفيلة بإزالة رواسب الخصومة الدهرية وترسيخ الهدنة القائمة بين الجيش والسلطة الحالية، في مرحلة أولى، تمهيداً لصياغة علاقة متبادلة ايجابية. فإلى أمد، سوف تطبع الديموقراطية، على الطريق التركية، بلون خاص، إذ لا يمكن التفلّت من حقيقة التوازنات والمواقع، والخلاص من ميراث جعلَ رئاسة الأركان حارس الهيكل وفوَّض إليها شأن العلمنة لعقود. أما الجوهري، فهو في خلع المتأصِّل الاحتجاجي الشعبوي بلباس إيماني الكامن وراء تمدد حزب العدالة والتنمية، ومصارحة فئات المجتمع التركي كافة بخطاب موزون صادق يطرح بشفافية العقبات والمعوِّقات التي تحول دون انتساب تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والإصلاحات المنوي السير بها تحقيقاً للغاية. هذا يستدعي بادئاً النظر في أمر الحزب الرسالي وأدائه العابر للقوميات وتطوير وعي مناصريه، وتغليب مرجعيته الديموقراطية المؤتلفة مع المنشأ الإسلامي عبر إشاعة الثقافة المدنية في بيئته، ومقاربة الاقتصاد والتعليم السياسي من منظور حداثي يعنى بالأصالة ولا ينفر أو يرتاب من التشبه والتثاقف والمقارنة مع النموذج الأشمل الذي تتشارك فيه الأمم السبَّاقة في الأسرة الدولية، وتجد من خلاله مصدر تقدّم ورخاء.
* كاتب لبناني