فنسان الغريّب *
إنّ السؤال المطروح بقوّة اليوم هو ما إذا كان الرئيس بوش الابن سيأمر بتنفيذ عملية قصف جوّي مكثّفة ضدّ إيران، أم بكل بساطة سوف يصعّد المواجهة الخطرة معها من خلال تنفيذ عمليات سريّة وزيادة العقوبات الاقتصادية تجاهها. إلا أنّه، ومهما تكن الخطوة التالية التي ستتّخذها إدارة بوش ضدّ إيران، يجب ألّا تخدعنا التأكيدات التي يطلقها أعضاء تلك الإدارة بأنّ المشكلة مع إيران تكمن في سعي تلك الأخيرة الحثيث لامتلاك السلاح النووي.
إنّ إيران لن تمتلك السلاح النووي قبل عقد من الآن. هذا ما تؤكّده تقارير وكالة الاستخبارات الأميركية. وعلى الرغم من كل الكلام والانتقاد الموجّه ضدّ النظام الإيراني الذي غالباً ما تصفه الإدارة الأميركية بـ«الثيوقراطي»، إلّا أنّ السبب الحقيقي وراء الخلاف الأميركي مع هذا النظام يكمن، بحسب الكاتب روبرت درايفوس، في «جيوسياسات الغاز». فبالإضافة إلى امتلاك إيران نسبة واحد على عشرة من احتياطيات النفط العالمية، وواحد على ستّة من احتياطيات الغاز الطبيعي، فإنّ هذا البلد يحتلّ موقعاً جغرافياً استراتيجياً متقدّماً يتيح له مراقبة مجمل منطقة الشرق الأوسط والنقاط الاستراتيجية في الخليج العربي (بما فيها مضيق هرمز)، وكذلك لدى إيران نفوذ قويّ على شيعة المنطقة (من العراق الى المملكة العربية السعودية وبلدان الخليج كافة). أما حدودها الشمالية (حيث تشهد الأراضي العقارية هناك تنافساً حاداً عليها)، فهي تمتدّ من القوقاز الى بحر قزوين وآسيا الوسطى.
الخطير في الأمر يكمن في أنّ المنطق الذي يتحرّك ضمنه الرئيس بوش، من الصعب إيقاف مساره التوسّعي. إن هذا المنطق الذي ينطلق ضمنه فريق المحافظين الجدد يقوم على المرتكز التالي: إن الولايات المتحدة هي، ويجب أن تبقى، القوة العظمى الأولى والأقوى في العالم. ويجب استخدام القوّة العسكرية الأميركية الهائلة (عند الضرورة)، للحفاظ على هذا الموقع المتفوّق أطول فترة ممكنة. إن القوّة الأولى (من بين القوّتين اللتين تستطيعان منافسة الولايات المتحدة)، أي الصين، يعتمد اقتصادها بشكل حيوي على منطقتي الخليج العربي ووسط آسيا لإمداده بالنفط. أما القوّة الثانية، أي روسيا، فإنّ مصالحها مرتبطة بقوّة بكل من إيران ومنطقتي وسط آسيا والقوقاز. وبالتالي، إذا تمكّنت الولايات المتحدة من توفير موقع مسيطر لها في منطقة الخليج العربي، فإنّ ذلك سيوفر لها مكسباً كبيراً في مواجهة منافسيها المحتملين. أي بكلام آخر، يقوم المنطق الأميركي على القاعدة التالية: إنّ أيّ خسارة لمنافسينا هي مكسب لنا.
إنّ فكرة الخليج العربي كـ«بحيرة أميركية»، ليست بجديدة، إلا أنّ الأساليب المستخدمة اليوم تشكّل انطلاقة جديدة كلياً. فالإدارات الأميركية السابقة كانت تستند في سياساتها الى التحالفات الثنائية والعلاقات الحمائية للحاكمين المحليين، حيث كان الوجود العسكري الأميركي يبقى، في معظم الأحيان، وراء المسرح وخلف البحار، حيث كانت القوات العسكرية دائمة الاستعداد للتدخّل عند حصول أي أزمة في المنطقة. أما اليوم، فإنّ الرئيس بوش قد قام باحتلال مباشر لبلدين في المنطقة، وهو يقوم بتهديد بلد ثالث، مع إصراره على شنّ حرب إقليمية شاملة، على ما كان قد أطلق عليه تسمية «الإسلام الفاشي»، بالترافق مع ما أعلنه حول هدفه في إحلال (أو بالأحرى فرض) ديموقراطية السوق «الحرّة» وفق النموذج الأميركي في منطقة جنوب غرب آسيا والشرق الأوسط. وهو يكون بذلك قد اعتمد، وفق درايفوس، مقاربة «يوتوبية» أقرب الى مفهوم الإمبريالية منها الى سياسات توازن القوى التقليدية.
إن الرؤساء الأميركيين كافة (من فرانكلين روزفلت الى دوايت آيزنهاور مروراً بجيمي كارتر ووصولاً الى بوش الابن)، قد قاموا جميعاً (بالمعنى الحرفي أو المجازي للكلمة)، بزرع العلم الأميركي في قلب منطقة الخليج العربي. وكان الرئيس روزفلت (الذي التقى الملك السعودي على متن بارجة حربية أميركية عام 1945)، قد أعلن أنه يجد أن الدفاع عن المملكة العربية السعودية هو أمر حيوي بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية وبمثابة الدفاع عن بلاده نفسها. أما الرئيس كارتر فقد أعاد صياغة هذه العقيدة بقوّة أكبر حين أعلن بشكل واضح وصريح أن أي محاولة، من قبل قوة خارجية، للسيطرة على منطقة الخليج العربي (أو الفارسي)، سوف تعتبر، من قبل الولايات المتحدة، اعتداء على المصالح الحيوية الأميركية.
منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى التسعينيات منه، دُعّمت تلك العبارات بالعضلات الأميركية، حيث أقيمت عدة تحالفات عسكرية تصل الى منطقة الشرق الأوسط (من ضمنها مع حلف شمال الأطلسي)، وقد انتشرت مجموعة من القواعد العسكرية الأميركية في كل من إفريقيا الشرقية، المحيط الهندي والخليج العربي. وأنفقت واشنطن، بحسب درايفوس، مليارات الدولارات على المساعدات العسكرية وأبرمت عقود مبيعات أسلحة ضخمة مع دول المنطقة، وأنفقت عشرات المليارات من الدولارات على المستشارين العسكريين للعمل في هذه المنطقة الحيوية من العالم. وأُنشئت قوات التدخّل السريع (وبعدها القيادة العسكرية الأميركية الوسطى). وأقام الأسطول الخامس مركز قيادته في دولة البحرين في منطقة الخليج. كل ذلك كان قد سبق اندلاع حرب الخليج الثانية عام 1991، وهي الحرب التي أدّت الى توسّع هائل للوجود العسكري الأميركي في المنطقة.
منذ عام 2001، أعاد الرئيس بوش النظر في قواعد اللعبة بشكل جذري. فمنذ البداية، خطّط المحافظون الجدد (وهم مهندسو سياسات بوش التوسّعية)، لشنّ الحرب التي بدأت في أفغانستان وامتدّت الى العراق، والتي كان مخطّطاً لها أن تتوسّع، بفعل عامل الدومينو، كي تشمل تغيير الأنظمة القسري وافتعال الأزمات والثورات الداخلية (وحتى الحروب الأهلية)، وذلك في كل من إيران، سوريا، المملكة العربية السعودية وغيرها من بلدان المنطقة. الفكرة الرئيسية كانت تتركّز على أنه مع تغيير الولايات المتحدة للنظام العراقي وإقامة نظام في بغداد تحت حكم الأكراد والشيعة الموالين لواشنطن (أو الدمى بأيديها)، تكون إيران قد حوصرت من قبل القوات الأميركية لجهة الغرب (العراق) والشرق (أفغانستان). وبما أن للشيعة والأكراد حلفاء داخل إيران، ومع وجود علاقات وثيقة ما بين المراجع الدينية الشيعية العراقية والطبقة الدينية الإيرانية الحاكمة، فإنه سوف يكون بإمكان الولايات المتحدة، برأي بوش الابن ونائبه ديك تشيني، تغيير النظام الإيراني بسهولة...
ليس من المستغرب أن يكون لكل من روسيا والصين نظرة مختلفة للأمور. وعلى الرغم من رفض كل من موسكو وبيجينغ امتلاك إيران السلاح النووي، إلا أنهما، في الوقت نفسه، لا يريان أي تهديد آتياً من طهران. فبالنسبة إليهما، وجود احتياطيات هائلة من النفط والغاز الطبيعي في هذا البلد، يجعل منه حليفاً طبيعياً لهما. لقد كانت شركات النفط الروسية والصينية قد أبرمت عقود تطوير وإمداد ضخمة مع بغداد في ظلّ نظام صدام حسين، قبل الغزو الأميركي للعراق. لذلك لا تستطيع اليوم تحمّل فكرة تكرار المشهد العراقي نفسه مع إيران (أي تعرّض هذا البلد لغزو أميركي على غرار غزو العراق)، مع وجود مصالح اقتصادية ضخمة لكل من روسيا والصين في إيران.
بالنسبة الى مستقبل الصين الاقتصادي، فإن كلاً من إيران ومنطقة الخليج العربي ذات أهمية قصوى. حتى عام 1992، كانت الصين بلداً مصدّراً للنفط. إلّا أنها، ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت مستورداً نهماً للنفط والغاز. لقد أبرمت الصين عقوداً ضخمة مع إيران (بما فيها عقد بين إيران وشركة النفط الصينية المملوكة من الدولة سينوبوك يمتدّ الى خمسة وعشرين عاماً مقبلاً بقيمة مئة مليار دولار). إن الصين قد شرعت، بالتعاون مع كل من صناعة النفط الروسيّة ومصدّري النفط في آسيا الوسطى، في بناء شبكة خطوط أنابيب للنفط والغاز يمتدّ ليشمل المنطقة بكاملها. وكان الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني هو جينتاو، قد جعلوا من مسألة الطاقة، حجر الأساس في العلاقات الروسية ـــــ الصينية. وكانت نشرة أخبار آسيا تايمز قد أشارت الى صعود «مثلث استراتيجي» يشمل الثلاثيّ الصين، إيران وروسيا.
منذ عام 2001، نظرت كل من روسيا والصين الى وضع اليد الأميركية «الغليظة» على منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا بريبة وحذر. وقد قامت، بالتعاون مع أربعة بلدان أخرى في آسيا الوسطى (وهي كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان وأوزباكستان)، بتأسيس منظمة شنغهاي للتعاون (وهي عبارة عن جسم أمني إقليمي قام أساساً كردّ فعل وكمحاولة لإقامة توازن مع مشروع الهيمنة الأميركية في المنطقة). وبالفعل، فقد صدر إعلان عن المنظمة يطالب بسحب القوات الأميركية من منطقة آسيا الوسطى. ومع نهاية عام 2005، قامت أوزباكستان بإقفال قاعدة كارشي ـ خاناباد الجويّة الأميركية، وكان مقرّراً أن تقفل قرغيزستان قاعدة ماناس الجويّة، وهما بلدان تعتبرهما واشنطن أساسيين بالنسبة إلى مشروع الهيمنة الأميركية في منطقة آسيا الوسطى. ووافقت منظمة شنغهاي على طلب انضمام إيران إليها.
في الوقت نفسه، قاربت العلاقات الأميركية مع كل من روسيا والصين حدود الكراهية القصوى. مع بيجينغ، حافظت الإدارة الأميركية على علاقات الصداقة، نظراً إلى وجود مصالح تجارية أميركية كبرى مع الصين. إلّا أن لدى معظم أعضاء إدارة بوش الابن عدم ثقة متأصّلة بالصين، وخاصة لدى نائب الرئيس ديك تشيني الذي شارك بعض مساعديه عام 2001 في اللجنة المعادية للصين في الكونغرس الأميركي، والتي اتهمت بيجينغ بسرقة أسرار الدولة أثناء ولاية كلينتون الرئاسيّة. كذلك قاد تشيني حملة ضدّ روسيا أثناء قيامه بزيارة لليتوانيا في منطقة البلطيق ولكازاخستان في قلب منطقة آسيا الوسطى (المليئة بحقول النفط والغاز)، حذر فيها بوتين من مغبّة استخدام النفط والغاز كأدوات للضغط والابتزاز تجاه الغرب. وكذلك حذر فلينت ليفيريت، الذي عمل سابقاً في مجلس الأمن القومي الأميركي، من أن الصراع الأميركي ــــ الإيراني قد يؤدّي الى نتائج عكسية، أي الى تقارب روسي ـــــ صيني ـــــ إيراني أكبر. وقد رأى ليفيريت أن المحور النفطي الروسي ـــــ الصيني الصاعد سوف يلقى دفعاً قوياً ويزداد متانةً بفعل السياسات الأميركية المتّبعة.
وكان سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، وبعد حضوره اجتماعاً للأمم المتحدة في نيويورك، قد أعلن أن الأمور تسير على الشكل الذي سارت فيه قبل الغزو الأميركي للعراق، ملمّحاً الى أن الولايات المتحدة قد تقوم بضرب إيران. فإضافة الى تضخيمها الموضوع النووي الإيراني، اتهمت واشنطن طهران بإيواء أعضاء من تنظيم القاعدة على أراضيها، ودعم نشاط أسامة بن لادن «الإرهابي»، على الرغم من عدم وجود إثباتات على اتهاماتها تلك، وهو ما يذكّرنا بالاتهامات التي سيقت ضدّ العراق قبيل الغزو. وكما فعلت مع العراق أيضاً، تضخّ واشنطن، بحسب درايفوس، ملايين الدولارات على العمل الدعائي والمجموعات الإيرانية في المنفى. واستناداً الى مخطّط توجيهي صدر أخيراً عن الحكومة الأميركية، تقوم الولايات المتحدة بإنشاء مراكز تجسّسية وتنظيمية لتلك المجموعات في عواصم آسيوية وأوروبية عدة. أما ابنة نائب الرئيس، إليزابيت تشيني (وهي موظفة كبيرة في الإدارة الأميركية)، فهي تشرف على برنامج إنفاق خمسة وثمانين مليون دولار لدعم المنشقّين داخل إيران ولتمويل الدعاية المعادية لإيران في الخارج، وهي ترأس كذلك ما أطلق عليه تسمية «مجموعة العمل الإيرانية ـــــ السورية».
وكما كانت الحال مع العراق، يتحدّث المسؤولون الأميركيون (على الرغم من إدراكهم أن دعم الأمم المتحدة لهم إذا تقرّر شنّ الحرب على إيران، سوف يكون منعدماً)، بشكل علني، عن تجاوز تلك الهيئة الدوليّة وإقامة «تحالف دولي جديد» لمواجهة إيران. كما كانت الحال مع العراق، سوف نشهد تقهقراً في الخطاب، من الحديث عن وضع كل الخيارات على الطاولة (وهي إشارة ضمنية الى إمكانية استخدام الخيار العسكري)، إلى أخبار القوات العسكرية الخاصة التي شرعت فعلاً بالعمل على تشجيع وافتعال الصراع الأهلي داخل إيران (وفق الإذن الممنوح لها من الرئيس بوش).
لقد صرّح الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بأن الولايات المتحدة قد خسرت معركتها في المنطقة، وبأنه يجب على إيران، بالتعاون مع قوى أخرى، ملء الفراغ الذي سوف يتركه تقهقر القوة العظمى الأميركية وانسحابها من المنطقة بأقل خسائر ممكنة، فيما لا يزال الرئيس بوش يتحدّث عن أن الصراع الأيديولوجي بين الغرب و«الإرهاب» لا يزال في بداياته. من المؤكّد أن واشنطن لن تسمح بقيام تحالف روسي ـــــ إيراني ـــــ صيني متين، لأن هذا التحالف الأوراسي سوف يشكّل تهديداً مباشراً لموقعها المهيمن على الصعيد العالمي. أما طريقة تعاطيها مع هذا التهديد فهي التي سوف تحسم الصراع في النهاية، لناحية تربّع القوّة الأميركية على رأس النظام الدولي لعقود عديدة مقبلة، أو بروز عالم متعدّد الأقطاب أكثر توازناً. إلا أنه من المؤكّد أن الولايات المتحدة لن ترضخ للواقع الدولي الجديد، ولن تقبل، بشكل سلمي، بانتزاع موقعها الأحادي من قبل أي قوة أو تحالف قوى آخر. لذلك لا تزال الخيارات العسكرية مشرّعة على مصراعيها، بانتظار الحسم.
* كاتب لبناني