strong>يسار أيوب *
بعد وفاة ياسر عرفات، خلفه في رئاسة السلطة روحي فتوح الذي دعا الى انتخابات رئاسية فاز فيها من بين سبعة مرشحين الرئيس محمود عباس بنسبة 62% تقريباً. أصدر عباس مرسوماً بإجراء انتخابات تشريعية في 25 كانون الثاني 2006 شكلت نقلة في حياة السلطة والنظام السياسي الفلسطيني.
بنتيجة الانتخابات فازت حماس بالأغلبية (74 مقعداً) وهي نسبة تؤهلها لتأليف الحكومة منفردة، غير أنها (لاعتبارات عديدة) دعت لحكومة وحدة وطنية فلسطينية في الساعات الأولى لصدور النتائج، فلم تلق دعوتها تجاوباً من فتح التي انكفأت لمعالجة أسباب خسارتها، وبالتالي فقدانها السيطرة للمرة الأولى على موقع قيادي فلسطيني منذ 1969، فيما طالبت القوى الأخرى بمواقع أو بتغييرات سياسية في برنامج حماس لم تستطع هذه الأخيرة لسبب أو لآخر تلبيتها. وفي النتيجة اضطرت إلى تأليف الحكومة منفردة برئاسة إسماعيل هنية، وحصلت على ثقة المجلس التشريعي بتاريخ 28/3/2006.
الأزمة خارجيّاً
بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية وتأليفها للحكومة الفلسطينية الجديدة، اجتمعت اللجنة الرباعية الدولية واتخذت قراراً بفرض حصار مالي وسياسي على الحكومة الفلسطينية، طارحة ثلاثة شروط لفك الحصار هي الاعتراف بإسرائيل، الالتزام بجميع الاتفاقات الموقّعة، ونبذ العنف والعمل المسلح، الأمر الذي رفضته حماس وأدى إلى حالة فلسطينية مأساوية، حيث ارتفعت معدلات الفقر والبطالة، وشحّت المواد الأولية، وعجزت الحكومة عن دفع رواتب الموظفين الذين أعلنوا إضراباً عن العمل شابته في كثير من الأحيان اختراقات وانتهاكات. وحتى بعد توقيع اتفاق مكة، ظلت اللجنة الرباعية على موقفها من أن هذا الاتفاق لا يشكل تلبية لشروطها. ومن وجهة نظر حماس، فإن تلبية هذه الشروط معناها التراجع عن برنامجها الانتخابي الذي طرحته والذي اختارها الناخب الفلسطيني على أساسه، ورأى أن ذلك لن يكون سوى مجرد تنازلات من دون مقابل إسرائيلي. فالاعتراف بإسرائيل والالتزام بالاتفاقات الموقّعة معها لم تحقق مكاسب وطنية ولم تدفع اسرائيل بالمقابل إلى احترامها، ويستشهدون كثيراً بالسنوات الأخيرة من عمر الرئيس عرفات التي قضاها محاصراً. أضف إلى ذلك أنّ الموقف الحمساوي ينطلق من خلفية دينية ترى في أرض فلسطين وقفاً إسلامياً لا يحق لأي كان التنازل عن أية قطعة منها، وهو ما سيكون في حال الاعتراف.
اعتقدت حماس أنها باقتراحها تقديم ضمانات بعدم استخدام المال المقدم للسلطة من قبل الحركة، وقبولها آلية مراقبة دولية أو أوروبية أو عربية للمساعدات، وحفاظها على الهدنة الميدانية المعلنة من جانب واحد، تستطيع إسقاط ذريعة الحصار من القوى الكبرى. بيد أنها بمرور الوقت أدركت أن الحصار ناتج من رغبة أوروبية أميركية في دفع حماس (وليس الحكومة فقط) للاعتراف بإسرائيل والتخلي عن العمل المسلح. وبهذا بدأت الالتفات نحو علاقاتها العربية والدولية البعيدة عن الغرب، كروسيا (التي زارها خالد مشعل للمرة الأولى في 3 آذار 2006)، إيران، سوريا، دول الخليج، ودول إسلامية أخرى. ونجحت بشكل جزئي في كسر الحصار المالي والدبلوماسي المفروض عليها، وتوفير إمكانيات مالية تستطيع من خلالها تسيير الوضع، وإن لم يكن بشكل كامل، من خلال دفع بعض رواتب الموظفين لأشهر قليلة.
الأزمة داخليّاً
إن نجاح حماس في الحد من تأثير الحصار المالي والسياسي بشكل جزئي، لم يمكّنها من تجاوز الأزمة ببعدها الداخلي. فالاشتباكات الداخلية أوصلت في نهاية المطاف إلى الصدام الشامل بين الحركتين، وتمكّنت حماس من السيطرة الكاملة على قطاع غزة، الأمر الذي استخدمه الرئيس عباس سبباً لإقالة حكومة الوحدة الوطنية التي رأسها هنية بعد اتفاق مكة، ورفضه الحوار مع «مجموعة الانقلابيين القتلة»، كما وصفهم، وتأليفه حكومة برئاسة سلام فياض حازت دعماً إسرائيلياً ودولياً كبيرين، تُرجم بالإفراج عن عدد من الأسرى وعن الأموال الفلسطينية المحتجزة ووقف ملاحقة بعض المطاردين، وبوصول المساعدات الأميركية والأوروبية إليها وموافقة اسرائيل على عودة عدد من القيادات الفلسطينية «المعتدلة» في مسعى اسرائيلي ودولي معلن يهدف إلى تقوية الرئيس عباس و«المعتدلين الفلسطينيين» في مواجهة حماس. ويمكن الحديث عن ثلاثة محاور تتوزعها أزمة حماس تبعاً لعلاقاتها بمحيطها:
أوّلاً، علاقة حماس وفتح:
توزّعت علاقة حركة حماس بحركة فتح عبر مسيرتيهما بين التعاون والتقاتل، وقد بدأت هذه العلاقة بعد بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وإن كانت في أساسها تعود لمرحلة بعيدة تبعاً لعلاقة فتح بالإخوان المسلمين.
تميّزت علاقة حماس وفتح في بداية الانتفاضة الأولى بتجاهل تام، الواحد للآخر، فرضته ظروف العمل الميداني والنظرة إلى الانتفاضة نفسها. ففيما ادّعت حماس أن الانتفاضة كانت من إنجازاتها الخاصة، رأت حركة فتح أنها كانت بانطلاقة عفوية، واستمرت هكذا إلى أن تشكلت القيادة الوطنية الموحدة. غير أنّه، وفي مجرى الانتفاضة، كانت هناك عمليات تنسيق ميدانية، ولم يحدث أن حصل احتكاك أو اقتتال داخلي واسع، على الرغم من حال التنافس بين الحركتين للسيطرة على الشارع الفلسطيني.
بعد توقيع أوسلو، تأزّمت العلاقات الميدانية بين الحركتين، وتطوّرت الأمور ليحصل أول اشتباك بين مقاتلي حماس وعناصر السلطة المحسوبين على فتح في 18/11/1994، ويتدشن بذلك بعد جديد للصراع بين حركة فتح وحماس للسيطرة على الشارع، وتعزز خصوصاً في قطاع غزة حيث تمتلك الحركتان قاعدة شعبية عريضة، وذلك حتى بداية الانتفاضة الثانية وعودة عرفات من مفاوضاته مع باراك الى فلسطين بطلاً، حيث شهدت العلاقة تحسناً ملحوظاً وجد ترجمته في التنسيق العالي بين القيادات العسكرية للحركتين، إلا أن ما أزّم الوضع عملياً هو اعتقال أجهزة أمن السلطة لقيادات عسكرية وسياسية لحماس.
وفي مجرى الصراع بين الحركتين منذ بداية الانتفاضة الثانية، ميزت حماس في تعاملها بين مراكز القوى داخل حركة فتح، ففيما بنت علاقات مميزة مع الأجنحة العسكرية الفتحاوية المتعددة، ومع بعض قيادات الصف الثاني، فإنها لم تدخل في علاقات جيدة مع فتحاويي أجهزة الأمن ممن تتهمهم بأنهم وراء اعتقال واغتيال وتسليم العديد من عناصرها، وهم بالذات من درجت على وصفهم خلال الأشهر الأخيرة بـ«التيار الانقلابي المتصهين» وأحياناً بـ«التيار اللحدي».
باختصار، وعلى رغم العلاقة المتذبذبة بين الطرفين، فإنّ صراعهما وتنافسهما كانا على مسألتين مهمتين: صراع على المكانة الجماهيرية، وصراع على المكانة السلطوية. ويبدو أن حماس التي استحوذت على غالبية مقاعد المجلس التشريعي بطريقة ديموقراطية ترى أن من الظلم التخلّي عن موقعها لأي كان. بينما فتح التي خسرت الغالبية التشريعية لا تقر بأنها فقدت جماهيريتها، منوهة في هذا السياق بتساوي الحركتين في مقاعد التشريعي وفق نظام القوائم، وهو ما يدل، بنظرها، على تقارب في شعبية الحركتين.
ثانياً، علاقة حماس بالقوى الأخرى
ترتبط حماس بعلاقات قوية مع الفصائل القريبة من سوريا وإيران والمنضوية تحت مسمّى «تحالف القوى الفلسطينية»، كالجهاد الإسلامي والقيادة العامة، وترتبط بعلاقات أقلّ مع الفصائل الأخرى. وقد حاولت حماس استثمار علاقاتها لتجاوز أزمتها في السلطة، غير أنها وقعت تحت صدمة عدم التعاون، بل والرفض الفصائلي القاطع للمشاركة في حكومة مع حماس لأسباب متباينة. فـ«الشعبية» و«الديموقراطية» الممثّلتان في المجلس التشريعي رفضتا تماماً المشاركة على خلفية موقف الحركة من م.ت.ف، و«الجهاد الإسلامي» رفضت التعاون بسبب رفضها المطلق لأوسلو وإفرازاته ومن بينها السلطة. وهكذا لم تنجح حماس في استثمار علاقاتها الفصائلية أو علاقاتها بالدول الداعمة لهذه الفصائل من أجل تأليف حكومة مشتركة معها، وحتى مع حليفها الأول، القيادة العامة، واجهت حماس خلافاً انتخابياً، عدا عن كون هذا التنظيم غير ممثل في المجلس التشريعي. بعد توقيع اتفاق مكة، شاركت بعض هذه الفصائل في حكومة الوحدة الوطنية. غير أنّ إقدام حماس على السيطرة على غزة، وما تبعه من خطوات وإجراءات، ساهم في تأزيم علاقاتها بجميع القوى الرئيسية التي دعتها إلى إعادة النظر والتراجع عن هذه الخطوة، الأمر الذي رفضته حماس، وبذلك وجدت نفسها شبه وحيدة.
ثالثاً، علاقة حركة حماس بمنظمة التحرير الفلسطينية
في ميثاقها الأساسي اعترضت حماس على ما دعته «علمانية» المنظمة، ولم تعترف بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وقد حاولت عام 1988 في ما عرف بمحادثات الخرطوم مع وفد «م.ت.ف»، بحضور عرفات نفسه، وقبل إعلان الاستقلال، الدخول الى م.ت.ف. والتمثّل في مؤسساتها، غير أن المفاوضات تلك لم تصل إلى نتيجة بعد إصرار حماس على إجراء تعديلات على ميثاق المنظمة، وطلبها الحصول على 40% من مقاعد المجلس الوطني الفلسطيني.
وبعد مشاركتها في الانتخابات، وقعت حماس في مأزق تنظيمي تمثل في أن أعضاء المجلس التشريعي هم تلقائياً أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني، وبالتالي فإن هناك 74 عضواً من حماس هم أعضاء طبيعيون في «م.ت.ف». أعتقد أن حماس بموافقتها على الدخول في الانتخابات كانت بالتأكيد تحسم أمرها من موضوع المشاركة في المنظمة، وإن كان الموضوع بنظرها مرتبطاً بإصلاحها، وهو الشعار الذي رفعته جميع الفصائل الفلسطينية المعارضة لاتفاقات أوسلو كلياً أو جزئياً، واتُّفق عليه في حوارات القاهرة. فمشاركة حماس في المنظمة يعطيها من جهة كتلة مهمة في المجلس الوطني الفلسطيني تمكّنها من فرض رؤيتها بالاعتماد على حلفاء لها في المجلس، ويسبغ عليها من جهة ثانية شرعية المنظمة نفسها. ولكن، بالمقابل، ستقوم بالقفز عن ميثاقها وقبول الدخول في المنظمة قبل تحويلها الى منظمة إسلامية. انطلاقاً من بُعدَيْ الأزمة، يمكن القول إنّه لن يكون من السهل على حماس تجاوزها والوصول إلى صياغة سليمة للعلاقات الداخلية الفلسطينية، وخصوصاً بعدما ارتدت لباساً دموياً وبعد القطيعة التامة مع حركة فتح وغيرها من الفصائل، وبعد التداخل الحاد للعوامل الداخلية والخارجية ودورها في إنتاج وإعادة إنتاج الصراع الداخلي الذي يسير في اتجاه معاكس تماماً لمصلحة القضية الوطنية، ولمجرى الصراع المصيري مع المحتل.
* باحث فلسطيني