محمّد سيّد رصاص *
عندما قام مؤسس الاتجاه الاشتراكي الديموقراطي إدوارد برنشتين، عام 1898، بمراجعته «التحريفية» للماركسية، وصل إلى استنتاجات جذرية مع الحفاظ على الثوب الماركسي: رفض النزعة الديالكتيكية الآتية من الفلسفة الهيغلية، نبذ مفهوم «الثورة» لمصلحة «الإصلاح»، التخلّي عن نظرية «الإفقار المتزايد» التي اعتبرها الماركسيون ملازمة للتطور الرأسمالي، وعدم اعتبار التطور الاجتماعي محكوماً بغائية تاريخية يمكن تحقيقها عبر «الإرادة الثورية».
لم يستطع أشد خصوم برنشتين جذرية في الوسط الماركسي ـــــ روزا لوكسمبورغ ولينين ـــــ اتّهامه بالخروج عن الماركسية، بل اعتبروه تحريفياً، وذلك على رغم تلك الخلاصات الجذرية التي قدمها عبر أبحاث راجعت الماركسية في مجالات الفلسفة والاقتصاد والاجتماع، ليخلص عبرها إلى استنتاجات سياسية كبرى، قادت بالمحصلة إلى تأسيس تيار ماركسي، وضع نفسه في مواجهة التيار الماركسي الآخر، أي البلشفي، طوال القرن العشرين.
لا يلاحظ عند الماركسيين العرب مراجعات كهذه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بل جمود عند المواقف القديمة، أو مراجعات خجولة، عند المحتفظين بماركسيتهم، فيما يلاحظ انعدام المراجعات عند المتحولين من الماركسية نحو الاتجاه الليبرالي (وهم مثَّلوا في الفترة الأخيرة نسبة كبيرة من الماركسيين العرب، وكان من بينهم رموز سياسية ومثقفون ذائعو الصيت). لم يقدّم هؤلاء الأسس الفكرية للتخلي عن الثوب القديم (كما فعل روجيه غارودي في تسويغ تحولاته) أو لإصلاحه (كما قام الياس مرقص وياسين الحافظ في محاولاتهما لتعريب الماركسية ونزع الستالينية عنها)، ليكتفوا بمسوغات، مثل «نهاية الأيديولوجيا» و«عدم ربط الاتجاه السياسي بمصدر معرفي واحد». كان من الواضح أنّ هذه المسوغات ما هي إلا البهار، وليست الطعام في عملية تحولهم من موقع إيديولوجي ـــــ سياسي إلى آخر.
ما يلفت النظر في هذا الانتقال التحوّلي الذي نقل ماركسيين عرباً من مواقع ستالين وسوسلوف ليصبحوا عند مواقع جون ستيوارت ميل، أن طرق وآليات ومحتويات التفكير القديمة عندهم لم تتغير، بل احتُفظ بها في الموقع الجديد الذي ارتدوا من خلاله رداءً جديداً بدلاً من القديم: الاعتماد في بناء السياسة المحلية على مركز عالمي، حيث يلاحظ أن طريقة مراهناتهم المستجدة على واشنطن تشبه تلك التي كانت على الكرملين، انعدام الاستقلالية الفكرية والسياسية وعدم الإيمان بأنه يمكن أخذ المصدر المعرفي لتبيئته محلياً ـــــ كما فعل ماو تسي تونغ وغرامشي ـــــ من دون الخضوع لإملاءات «الفاتيكان»، الإيمان بأن كعكة الحقيقة المطلقة في جيبهم، النزعة الإقصائية والإلغائية الذهنية التي تتعامل مع المخالفين الفكريين والسياسيين بمنطق لا يختلف عن منطق سيد قطب الذي حمل الكثير من نزعاته تلك من مرحلته الشيوعية السابقة (وهو أمر يلاحظ الآن عند الدكتور الماركسي السابق محمد عمارة في قطعياته الإسلامية الإلغائية للآخرين المخالفين له)، الرؤية السلبية للثقافة المحلية وخاصة للإسلام والعروبة، النزعة النخبوية في النظرة إلى المجتمع ليُستبدل عبرها مفهوم «الطليعة» الماركسي القديم بمفهوم «التنوير» في مرحلتهم الليبرالية الجديدة، حيث يُتعامل مع الأفكار بالحالتين وكأنها «ستنزل» من عندهم إلى المجتمع بالباراشوت.
هنا، يلاحظ في حالة المتمركسين العرب السابقين، المنتقلين في السنوات الأخيرة نحو الليبرالية، الحفاظ على طريقة التفكير السابقة التي تتضمن النظرة نفسها للذات والمجتمع والعالم، مع مجرد مرافقة ذلك باستبدال العناوين الفكرية ـــــ السياسية. إلا أنّ اللافت للنظر هو حصول النزعة الاستبدالية في داخل مجتمع، كالمجتمع العربي، مفتقر إلى الديموقراطية والشفافية، حيث يشعر المتحوّل الفكري ـــــ السياسي المستبدل لقميصه بأنه في وضعية، هي شبيهة بوضعية الحاكم المستبد، يستطيع من خلالها تجاهل عملية الرجوع للجسم الاجتماعي الذي يشكِّل (في حالة الحاكم والمعارض والمثقف والمفكر في المجتمعات الديموقراطية) المرجعية للحكم على معيارية وقيمة ومردودية الفكر والسياسة في المجتمع المعني.
* كاتب سوري