خورشيد دلي *
اتّسمت العلاقات العربية التركية طوال العقود الماضية بالسلبية والخلافات، وصولاً إلى أجواء التوتّر في العديد من اللحظات التاريخية. ولعل سبب هذه السلبية هو العديد من العوامل الأيديولوجية التاريخية والسياسية، إذ انطلقت النخب التركية العلمانية الحاكمة في سياساتها تجاه دول الجوار العربي بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 من كونها تقدّم نموذجاً طوّرته خصيصاً ليناسب التطوّر العقائدي والسياسي والاقتصادي في المنطقة العربية. ولعلّ جذور هذه النظرة ترجع إلى نزعة الاستعلاء التركية على أساس أن الأتراك كانوا أصحاب الأمجاد التاريخية، وإلى تعامل العرب مع القوى الاستعمارية لتقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية. أمّا العرب فيرون أنّ سبب تخلّفهم الحضاري والتقني هو الحكم العثماني للدول العربية الذي دام أربعة قرون، وأنّ العروبة ظهرت بشكلها العنيف في بداية القرن الماضي بسبب النزعة التركية الطورانية التي هدفت إلى تتريك الشعوب غير العربية تحت شعار وحدة الدين.
في التجربة التاريخية، رافق البعد الأيديولوجي القومي بعد سياسي تجلّى في المساومة التركية مع الدول الغربية تجاه دول المشرق العربي، كما حصل في قضية سلخ لواء الإسكندرون عن سوريا عام 1938، وقبل ذلك في قضية الموصل مع العراق، وفي ما بعد في اتّباع سياسة إقليمية مناصرة لإسرائيل تجاه قضية فلسطين. فقد كانت تركيا أوّل دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1949، وعقدت معها في ما بعد سلسلة من الاتفاقات التجارية والمالية والدبلوماسية.
هذا البعد السياسي التركي الإقليمي دعمه بعد سياسي دولي تجلّى في انضمام تركيا مبكراً إلى الحلف الأطلسي وقيادتها لمشاريع الغرب في المنطقة كحلفي بغداد والسنتو في الخمسينيات، وممارسة سياسة قوامها التوتر والضغط والاستفزاز للدول العربية المجاورة، عندما كانت هذه الدول تابعة استراتيجياً للاتحاد السوفياتي في إطار الصراع السابق بين المعسكرين (الاشتراكي والرأسمالي). وكثيراً ما وصلت حدّة الحشود العسكرية التركية على الحدود السورية إلى حدّ أجواء الحرب، كما حصل أثناء العدوان الثلاثي على مصر، وكذلك عام 1957 عشية الوحدة بين سوريا ومصر. وتكرّرت هذه المواقف أثناء إنزال القوات الأميركية في لبنان بنقل هذه القوات من قاعدة «أنجرليك» التركية مباشرة. وعلى خلفية هذه السياسة، تحوّلت القضايا الخلافية كالمياه والأكراد والعلاقات العسكرية مع إسرائيل... إلخ إلى قضايا ساخنة في العلاقات العربية التركية كادت أن تنفجر في أية لحظة، وخصوصاً مع سوريا.
في الواقع، قبل الانتقال إلى آفاق العلاقات العربية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية، ينبغي القول إن تركيا لم تنظر بجدية إلى مسألة إقامة علاقات متوازنة مع الدول العربية إلا بعد بروز عاملين. الأوّل: بروز دور النفط وأهميته في العلاقات الدولية وحياة الدول. والثاني: الأزمة القبرصية عندما وجدت تركيا نفسها معزولة إقليمياً ودولياً بسبب غزوها العسكري للجزء الشمالي من قبرص عام 1974. وانطلاقاً من المعطيات السابقة في السياسة التركية تجاه العرب، تعاملت الدول العربية مع السياسة التركية بقلق وحذر وشكّ، وفي الوقت نفسه بنوع من الحرص على عدم الانجرار إلى صدام منشود معها على خلفية القضايا الخلافية.
متغيّرات العلاقة
على رغم أنّه يمكن القول إنّ العلاقات التركية العربية، وتحديداً السورية، دخلت مرحلة جديدة بعد توقيع الجانبين السوري والتركي على اتفاقية أضنة صيف عام 1998 بعد أزمة عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، إلا أن الملامح الحقيقية لعلاقة تركية عربية جديدة بدأت مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة إثر انتخابات عام 2002. فقد أثارت مواقف حزب العدالة والتنمية ذات الخلفية الإسلامية، وسياساته القريبة من النسيج الحضاري لشعوب المنطقة ودولها، ارتياحاً بشّر بالتخفيف من البعد الغربي في سياسات تركيا لمصلحة سياسات ومصالح إقليمية تصب في دائرة الانتماء الحضاري. وقد كانت للزيارات المتتالية لكلّ من رجب طيب أردوغان وعبد الله غول إلى دول المنطقة أثر كبير في زرع الثقة ببناء علاقات إيجابية مع تركيا. وجاء موقف البرلمان التركي الرافض لوضع الأراضي التركية تحت تصرّف القوات الأميركية لشنّ الحرب على العراق عام 2003 بالتزامن مع فتور في العلاقات التركية بكلّ من إسرائيل والولايات المتحدة بمثابة محطة تاريخية لتطوير العلاقات التركية بدول الجوار العربي والإسلامي. ثمّ وجدت هذه العلاقات نفسها بعد احتلال العراق أمام تحديات مشتركة، منها ما يتعلّق بالموقف من وحدة العراق ومستقبله، ومنها ما يتعلّق بمخطّطات السياسة الأميركية التي لا تريد دولاً إقليمية مؤثّرة في منطقة يراد ترتيبها من جديد باسم الشرق الأوسط الكبير، ومنها ما يتعلّق بالعلاقة الأميركية التركية التي تراجعت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي...
وكنتيجة لكلّ هذا، شهدت العلاقات العربية التركية تحسّناً ملحوظاً في السنوات الأخيرة. وعليه، فقد أثار وصول عبد الله غول إلى الرئاسة التركية بعد معركة شاقة ارتياحاً كبيراً في العالم العربي. إذ بادر معظم الزعماء العرب إلى الاتصال به وتهنئته بالفوز الكبير متمنّين أفضل العلاقات بين الدول العربية وتركيا.
في الواقع، لم يكن مثل هذا التحسّن ممكناً في العلاقات العربية التركية لولا المتغيّر الداخلي التركي الذي أحدث تحوّلاً نوعياً في سياسة تركيا تجاه الدول العربية والإسلامية. وقد دفع هذا المتغيّر التركي بالشارع العربي إلى إعطاء المزيد من الاهتمام بالتجربة التركية التي نجحت في تقديم العديد من الأجوبة عن الأسئلة المثارة عربياً حول الإسلام ودوره في الحياة السياسية وعلاقته بالدولة والمجتمع والآخر، فضلاً عن إشكالية التوافق بين التقليدية والحداثة، وبين الدين والعلمانية.
وإذا كان هذا التحول التركي قد نقل العلاقات التركية ـــــ العربية من مرحلة السلبية إلى إطار من التعاون الإيجابي والتكامل الإقليمي سواء على صعيد العلاقات الثنائية أو تجاه القضايا السياسية في المنطقة، فإنّ الدول العربية ترى في وصول غول إلى سدة المشهد السياسي التركي فرصة تاريخية، سواء على صعيد تصحيح النظرة التاريخية لكل طرف إلى الآخر، أو على صعيد الدخول في منظومة إقليمية متكاملة من النواحي الاقتصادية والسياسية. فبعد قرن من الزمن، يدعو الأتراك العرب إلى تجاوز تلك الرؤية التي تقول إن الدولة العثمانية كانت سبب تخلفهم، بينما يدعو العرب الأتراك إلى تجاوز مقولة تحميلهم مسؤولية انهيار الدولة العثمانية والدخول في علاقات تكامل إقليمي.
ومع هذا النقاش الباحث عن التوافق، يأمل العرب في ألا تبقى صورة تركيا في أذهانهم صورة الدولة الأطلسية المتحالفة مع أميركا وإسرائيل، كما كانت الحال خلال القرن الماضي. ويأملون، في المقابل، أن تنخرط تركيا إيجابياً في محيطها العربي والإسلامي بحثاً عن الاستقرار والسلام والتكامل الاقتصادي، حيث يمكن تركيا أن تؤدي أدواراً قوية في هذه المجالات نظراً إلى موقعها وثقلها وإمكاناتها وعلاقاتها الإيجابية مع مراكز القرار الدولي. ولعل هذا هو مصدر الترحيب، بل البهجة العربية الكبيرة، بوصول غول إلى سدة الرئاسة التركية. مشهد يبدو معه وكأن العرب والأتراك يكتشفون بعضهم من جديد بعد نحو قرن من السلبية!
* كاتب سوري