strong>غالب أبو مصلح *
منذ بداية انفجار الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة الأميركية، ظن العديدون أن هذا الانفجار سيلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الأميركي ويدفعه إلى ركود كبير، مثل الذي أصابه سنة 1929، واستمر لنحو عشر سنوات. لم تخرج الولايات المتحدة من هذا الركود إلا بفعل الحرب العالمية الثانية، التي زادت الطلب على السلع والخدمات الأميركية، لتغذية آلة الحرب الأميركية، كما آلة الحرب لدى حلفائها، وخاصة الحليف البريطاني.
كان سبب دخول الولايات المتحدة في ركود كبير تضافر عدة مؤشرات اقتصادية أساسية، تتجمع اليوم لتنتج ما أنتجته في الماضي على رغم تطور السياسات النقدية لدى المصارف المركزية، وعلى رغم التطورات الهائلة التي شهدتها بنية الأسواق المالية والنقدية، وتعدد أدوات هذه الأسواق والبضائع المتداولة فيها. فقد شهدت العشرينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة نمو القدرات الإنتاجية المعطلة، ونمو الفروقات الطبقية، وجمود الأجور الحقيقية للقوى العاملة على الرغم من نمو الناتج المحلي، ما عنى إعادة اقتسام الناتج المحلي لمصلحة رؤوس الأموال، وعلى حساب مصالح القوى العاملة. وشهدت تلك المرحلة نمو فقاعة الأسهم وانفجارها، وارتفاعاً كبيراً في الديون التي موّلت الاستهلاك، وشهدت أيضاً نمواً في معدلات البطالة.
وتشهد السوق الأميركية اليوم الظواهر المرضية والمؤشرات الاقتصادية نفسها. فقد ارتفعت الديون الأميركية، الخارجية والداخلية، لدى قطاعات الاقتصاد كافة (القطاع العام، قطاع رجال الأعمال، القطاع المنزلي) فوصلت حتى الآن إلى أكثر من 40 تريليون دولار، ونمت سنوياً بما يقارب تريليون دولار. وشهدت سوق العمل تراجعاً في الأجور الحقيقية للقوى العاملة كافة، من أصحاب الياقات الزرقاء إلى طبقة المهندسين والأطباء وخريجي المعاهد العليا. بدأ هذا التراجع بشكل خاص مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في بداية الثمانينيات، وتبنّيهم لأفكار الليبرالية الجديدة التي تطلق العنان لتحكم آليات السوق على كل الصعد الاقتصادية والاجتماعية، وتدعو إلى تفكيك دولة الرعاية وتجريد الطبقات العاملة من مكتسباتها السابقة وأطر حمايتها. وكذلك تدعو الليبرالية الجديدة إلى انسحاب الدولة من ملكية وسائل الإنتاج السلعية والخدماتية، حتى الاستراتيجية منها، وإعادة توزيع الأعباء الضريبية بين رؤوس الأموال والأجور والرواتب، لمصلحة رؤوس الأموال. وتدعو إلى تحرير «سوق العمل»، أي إلغاء الوظيفة الدائمة وتعميم التوظيف غير الدائم أو المياوم، وتسهيل الصرف من العمل. وقد أدت هذه السياسات إلى خفض الأجور الحقيقية لكل القوى العاملة، وأصبح 1% من السكان الأثرياء يحوز أكثر من 28% من الناتج المحلي، مع ارتفاع معدلات الفقر. ونمت معدلات البطالة الحقيقية، التي تطمسها الأرقام الرسمية، إذ إن أرقام البطالة المعلنة لا تشمل من يعمل لبعض الوقت، ولا تشمل من هم عاطلون عن العمل لأكثر من ستة أشهر، ولا تشمل المرتزقة الذين يجنّدهم البنتاغون، ويدفعهم طعاماً للمدافع في العراق وأفغانستان بشكل خاص.
وأنتجت السياسات النقدية التي اتبعها البنك المركزي الأميركي بغية إطفاء انفجار فقاعات ظهرت في السوق، مثل انفجار فقاعة أسهم قطاع التقنيات العالية، عبر ضخ الكثير من السيولة في السوق، إلى تكوين فقاعات أكبر وأشمل، مثل فقاعة سوق المنازل الحالية.
أما الأسواق المالية والنقدية، فشهدت تطورات هائلة خلال السنوات الـ25 المنصرمة، ونتيجة التراكم المتزايد لرؤوس الأموال الفائضة عن طلبات التوظيف المنتج، خُلق فلك خاص تدور فيه رؤوس الأموال مستقلةً عن سوق تبادل السلع والخدمات. فقد بلغت المضاربات اليومية على العملات عند نهاية سنة 2006 أكثر من 1.9 تريليون دولار، وبلغت التجارة بالمشتقات أكثر من 1.2 تريليون دولار، وتحول العالم، أو بالأحرى أسواق المال العالمية، إلى سوق هائلة للمقامرة، وشُتّتت المخاطر بحيث لا تستطيع أفضل الشركات والمؤسسات المالية تقويم المخاطر التي تتعرض لها توظيفاتها في العديد من البضائع المرتفعة المردود التي توظف فيها أموالها. فالمشتقات المالية مثلاً والمرتكزة على موجودات حقيقية، والتي جرى تشميلها وتوريقها ووضعها خارج موازنات المصارف، مثل سندات الرهن العقاري، أصبحت منتشرة في كل الأسواق العالمية، وكبّدت العديد من المؤسسات المالية والبنوك خسائر تقدر بمئات مليارات الدولارات حتى الآن، ولا يستطيع أحد من مالكي مثل هذه الأوراق المالية تقدير خسائره الحقيقية المتنامية. فالأسواق الحديثة شتّتت المخاطر، ولكنها لم تلغها، وربما ضاعفت من آثارها، وخاصة بسبب سياسات البيع على الهامش Leveraged. وسياسات المصارف المركزية لم تمكّنها من تجاوز الدورات الاقتصادية، ومن «تنفيس» الفقاعات المتكونة في بعض قطاعات الاقتصاد، بل راكمتها وضخّمتها ومنعت انفجارها إلى حين.
ويتحدث الجميع، وخاصة في الدول الغربية، عمّا أحدثه انفجار الفقاعة العقارية من أزمات وترددات على صعيد الأسواق المالية: خسائر شركات الرهن العقاري وإفلاس نصف هذه المؤسسات في أميركا، وهبوط أسعار أسهم النصف الثاني من هذه الشركات بمعدل يزيد على 30%، خسائر كبيرة لدى المصارف والمؤسسات المالية من أميركا وأوروبا إلى اليابان والصين، فقدان السيولة في الأسواق نتيجة انتشار الخوف بين المصارف وصناديق التمويل من النقص في السيولة، بسبب ارتفاع حجم المخاطر وغموضه. ولكن قلة قليلة من المعلقين الاقتصاديين يتكلمون على معاناة الجماهير الضعيفة التي فقدت وستفقد وظائفها وملكياتها للمنازل لترمى في الشارع، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، ناهيك بآثار هذا الانهيار الاقتصادي الذي سيمتد إلى كل قطاعات الاقتصاد، على قدرات الإمبريالية الأميركية وعدوانيتها وإرهابها للعديد من شعوب العالم. هل سيدفع هذا الانهيار الاقتصادي المتوقع الإمبريالية الأميركية إلى الانكفاء والانزواء، أم إلى مزيد من الشراسة والعدوانية، وإلى مزيد من المغامرات الخارجية، وخاصة في إفريقيا، لتعوض بالعدوان عن ضعفها الاقتصادي؟
فالانهيار في قطاع المنازل، الذي سبب كل هذا الذعر في أسواق الأسهم والسندات، وأنتج أزمة انعدام السيولة (الناتجة من تقلص سوق الطلب على الأسهم والسندات) ما زال في أوله. فحتى شهر حزيران من هذه السنة، هبط معدل أسعار المنازل في المدن العشر الكبرى في الولايات المتحدة، خلال الأشهر الاثني عشر المنصرمة، بنسبة 4.1% حسب مؤسسة «ستاندارد إند بورز». أما تقديرات هبوط أسعار المنازل المتوقعة فأكثر بكثير. فاقتصاديو «جي بي مورغان» يتوقعون انخفاض أسعار المنازل، بالإضافة إلى انخفاضها السابق، بنسبة ما بين 7.5% و15% حتى نهاية سنة 2008. ويتوقع اقتصاديون آخرون في «غولدمان إند ساخس» أن تنخفض أسعار المنازل ما بين 15 و30% خلال السنوات القليلة المقبلة. وتقول مجلة الـ«إيكونوميست» إن حوالى 60% من الذين سيُعاد احتساب معدلات الفائدة على رهونات منازلهم في السنة المقبلة، لا يتجاوز صافي ملكيتهم للمنازل (قيمة المنازل ناقص قيمة الدين) 15% من قيمة المنازل، ما يعني أن هؤلاء معرضون لخسارة منازلهم إذا ما هبطت أسعار المنازل بنسبة 15% أو أكثر.
إن انهيار أسعار المنازل سيخفض الاستهلاك العام بمعدلات يصعب تقديرها، وسيرمي ملايين العائلات إلى الشارع. والاستهلاك هو وقود النمو الاقتصادي الأميركي، وشكل الاستهلاك عبر الديون، وخاصة الديون الناتجة من رفع الرهونات على المنازل التي كانت أسعارها ترتفع باستمرار، محرك هذا الاقتصاد في العقود الأخيرة. وانخفاض الاستهلاك يعني بدوره مزيداً من الخفض في المداخيل الحقيقية للقوى العاملة. بكلام آخر، إن خفض الاستهلاك بنسب مرتفعة يعني دخول مرحلة ركود اقتصادي طويلة وعميقة، تظهر طبيعة الأزمة البنيوية للرأسمالية العالمية في مرحلتها الأكثر احتكارية وعولمة. وتظهر عدم قدرة الليبرالية الجديدة على خلق اقتصاد مستقر ومجتمع آمن، بل تظهر قدرة هذه الليبرالية الجديدة على خلق نظام رأسمالي أكثر وحشية واضطراباً. هذا النظام لا يولد مزيداً من التناقضات داخل المجتمعات الرأسمالية المتطورة فقط، بل إنه يولد أيضاً مزيداً من حدّة التفاوت والتناقض بين دول المراكز الرأسمالية والأطراف وداخل هذه الدول، حيث تتماهى الطبقات الحاكمة وتلتحق بالطبقات الحاكمة في مراكز النظام الرأسمالي العالمي.
* كاتب لبناني