ورد كاسوحة *
الآن وقد وضعت "حرب البارد" أوزارها، يمكن لتحليل بارد وهادئ أن يضعنا أمام جملة من الخلاصات والحقائق- غير النهائية بطبيعة الحال - من شانها إذا ما عولجت عقلانيا إسقاط منظومة كاملة من التخرصات الأيديولوجية والترهات السياسية التي رافقت الأحداث الدامية، وشكلت جزءاً لا يتجزأ من عدة الشغل فيها، وهذا يعني على أقل تقدير صيرورتها -أي المنظومة- وقودا فعليا لتلك الأحداث.
فقد تمّ "إسقاط" هذه المنظومة "المفهومية" المبتذلة بالكامل على مجريات المعركة، وتسويق نتائج هذه الإسقاطات لدى المواطن اللبناني، خصوصا في الشمال حيث موضع الجرح، على أنها الرواية الكاملة والوحيدة لما حدث، ما يستتبع طبعا الزعم بأن الباطل لا يأتيها لا من أمام ولا من خلف!
يصح ذلك على كافة الروايات التي شاعت في الشهور الثلاثة الماضية دون استثناء، بدءاً برواية "الآذاريين الاستقلاليين" عن العلاقة المزعومة التي تربط "فتح الإسلام" بالاستخبارات السورية، وبالتالي تحميل النظام السوري المسؤولية المباشرة عما حدث، على جاري عادة هذا الفريق منذ انقلب على راعيه السوري قبل سنتين من الآن، فيما يشبه دورة متصلة من العنف اللفظي الذي لا يتورع عن استخدام أقذع الشتائم، في سبيل تجريم الراعي القديم والخصم الجديد، مع ملاحظة تحول هذه الاتهامات في الفترة الأخيرة إلى مجرد زجليات قروية، لم تعد تنطلي على أحد، ولا حتى على أصحابهافي المقابل، يمكن القول إن حظ الرواية الأخرى، أي رواية فريق 8 آذار كان أفضل بقليل من حظ سابقتها، على اعتبار أنه انطلق -أي فريق 8 آذار- من فرضية مخالفة، أثبتت الوقائع اللاحقة صحتها النسبية، والكلام هنا يدور طبعا عن فرضية ارتباط جماعة "فتح الإسلام" بتنظيم "القاعدة"، وما يترتب على هذا الارتباط من تبعات، ليس أقلّها تحول "فتح الإسلام" إلى ذراع أخرى من شبكة أذرع "القاعدة" الممتدة في طول العالم وعرضه. وهذه الفرضية تنسب إلى "فتح الإسلام"منطقا عقائديا، هو أقرب ما يكون إلى منطق شبكات "القاعدة" العاملة في العراق والمغرب العربي، والمنتمية في معظمها إلى نسق "الإسلام"التكفيري أو الجهادي.
والأمر الذي ضاعف من نسبة "صوابية" هذه الفرضية هو تأكيد قائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان أن صلة وثيقة وأكيدة تربط ما بين المنظمتين الأصوليتين، أي "القاعدة" "وفتح الإسلام"، وهو ما عاد وأكده أخيراً مدير مخابرات الجيش في مؤتمر صحافي.
لكن، في المقابل، يمكن التأكيد أن بعض أفرقاء المعارضة لم يتورعوا في سبيل التسويق لروايتهم تلك - أي رواية "نهر البارد"- عن المزايدة على فريق الموالاة، وبالتالي الغرف من المرجعية اللبنانوية الضيقة ذاتها. وهي مرجعية تنسب لنفسها أوهاما أيديولوجية عريضة ذات صلة بمنطق الانعزال والحياد اللبنانوي "العريق"، فيما هي تمارس في واقع الأمر-أي المرجعية- سياسات ذرائعية رثة ومبتذلة، كان من نتائجها الكارثية أخيرا، تأليب الرأي العام اللبناني ضد اللاجئين الفلسطينيين في مخيم نهر البارد، على اعتبار أنهم "المسؤولون الأساسيون عن إيواء جماعة فتح الإسلام واحتضانها".
وهذه إذا ما صح التعبير "خطيئة أصلية" تحسب على المعارضة، وتتفرع عنها جملة من الأخطاء "الثانوية"، والتي يمكن إيجازها على النحو التالي:
1- الإسهام ولو غير المباشر في تكريس منطق العداء للفلسطينيين، وذلك عبر تسويق بعض أفرقاء المعارضة لفكرة الحسم العسكري، وبالتالي إسقاط مخيم نهر البارد وتدميره على رؤوس قاطنيه من اللاجئين الفلسطينيين. وهو أمر كان يمكن تفاديه لو اخذ شعار الخطين الأحمرين مأخذا جديا أكثر، أي لو تم التعامل مع دخول الجيش إلى المخيم وإخراج اللاجئين الفلسطينيين منه بحكمة ودراية اكبر. إذ لو تم ذلك لوفر اللبنانيون، وخصوصا في المعارضة، على الجيش والفلسطينيين معا كثيرا من التضحيات والمرارات وسوء الفهم المتبادل.
2- الاستخدام المتكرر من قبل المعارضة لمصطلح "الحرب ضد الإرهاب" في معرض تطرقها إلى أحداث "نهر البارد" أوحى بما يشبه التواطؤ بينها وبين الموالاة على تسويق المنطق الذي يقول بأن معركة "نهر البارد" إنما هي جزء من "الحرب ضد الإرهاب الدولي"، أي بكلام آخر هي فرع من فروع "حرب أميركا ضد الإرهاب في العالم"!
وهذا يحيل إلى ازدواجية ما في تعاطي طرف لبناني مع نزوع دولي وأميركي معلن إلى تصفية مواقع "الممانعة" لنفوذه في الشرق الأوسط والعالم. ومن جملة هذه المواقع المستهدفة الطرف اللبناني أعلاه، والمتمثل في أطياف المعارضة وعلى رأسها "حزب الله"، حيث لا تزال تراجيديا حرب تموز طرية وماثلة في الأذهان.
3- افتراض أطراف أخرى في المعارضة حسن نية مسبقا تجاه النظام في سوريا. وهذا يعني إسقاط أي فرضية تدلل ولو من بعيد على احتمال تورط الاستخبارات السورية في أحداث "نهر البارد"، حتى لو كان هذا الاحتمال مسنودا بوقائع من قبيل : العلاقة السابقة التي ربطت شاكر العبسي قائد جماعة "فتح الإسلام" بالاستخبارات السورية، عندما كان سجينا في سوريا قبل سنوات.
هذا نهج من شأنه إذا ما ساد إضعاف صدقية المعارضة، والتشكيك المتزايد في روايتها، بدليل العلاقة الوطيدة التي تجمع بعض أطرافها بالنظام السوري، وبالتالي نزوعها -أي المعارضة- التلقائي جراء هذه العلاقة إلى التقليل من شان الدور السوري في لبنان. و لا يفيد كثيرا في هذا الصدد واقع انحسار النفوذ السوري المباشر بعد إخراج سوريا من لبنان،
طالما أن الضرر قد وقع وانتهى الأمر. والضرر هنا كناية عن فداحة الخسارة التي ألحقتها الهيمنة السورية السابقة بالذاكرة الجمعية اللبنانية طيلة عقود ثلاث، وهو الأمر الذي سهّل إقالة اللبنانيين من مهمة وعي طبيعة الصراع، وتاليا استسهال إلقائهم التهم جزافا ورميها على كاهل "السوري" و "الفلسطيني" و....الخ، كلما تعرضوا- أي اللبنانيين- لمحنة أو لحرب أو لحادث أمني ما.
لذلك نقول: كان يمكن المعارضة أن تمنح روايتها صدقية أكبر، لو أقدمت على تحليل وافٍ لطبيعة المرحلة التي أعقبت خروج السوريين من لبنان، معطوفا على نقد جذري لعلاقتها السابقة معهم، من دون أن تغفل أمرا جوهريا آخر- وهي لم تغفله على أي حال-، ومفاده تورط الولايات المتحدة الأميركية في تمويل " فتح الإسلام"، بالأصالة عن نفسها، وبالوكالة عن أنظمة إقليمية عربية وغير عربية (منظومة الاعتدال العربي).
وهنا يمكن للمشككين في هذه الرواية الرجوع إلى شهادات وتحليلات سياسية وصحافية رصينة وذات شأن، كتلك التي أوردها سيمور هيرش في "النيويوركر"، أو التي ساقها الأمير الحسن ولي عهد الأردن سابقا، في معرض حديثه إلى محطة "الجزيرة" الفضائية قبل أشهر.
تجدر الإشارة أخيرا إلى الدور المحوري الذي اضطلع به بعض الإعلام اللبناني والعربي في تصوير طبيعة الصراع في "نهر البارد" على غير ما هو عليه حقيقة. أي إدراجه في سياق "الحرب الأميركية على الإرهاب"، مع ما يقتضيه هذا الإدراج من إغفال متعمد ومقصود لأوجه الصراع الحقيقية، في العراق وفلسطين وأفغانستان و... لبنان.
وهذا يعني على أقل تقدير أن الإعلام العربي- مع استثناءات قليلة - استعاض عن عملية إنتاج الحقيقة وتظهير الوعي بها بعملية أخرى، تتمثل في التسويق الرخيص لروايات، أقل ما يقال فيها إنها تبسيطية ومبتذلة وفاقدة الصلة بالواقع اللبناني المعقد، وهو واقع لا يمكن في حال من الأحوال اختزاله إلى معادلات ريفية ومركنتيلية بائسة، حتى لو امتلكت هذه المعادلات قدرة فائقة على قلب الحقائق وتزييف الوعي، وبالتالي تصوير مآل حرب عبثية كحرب "البارد" على أنها "نصر مبين" "وفتح ما بعده فتح"!
* كاتب سوري