اسكندر منصور *
أسعد أبو خليل من الأصوات العربيّة المميّزة على الساحة الأميركيّة وخارجها. فهو حاضر في أغلب جامعاتها، وقد ظهر في أكثر برامجها التلفزيونيّة والإذاعيّة. كاتب بارع ومقنع، وقدرته على الأقناع ليست نتاج مهارة في استخدام اللغة، وإن كانت هذه من إحدى ميزاته لا نتيجة إنجازات وبحوث أكاديميّة وهي كثيرة، بل هي نتيجة التزامه الصادق بما يقول. مثقف مشاكس يقول كلمته دون مهادنة أو مواربة. ليس هناك من وقت للّف والدوران والمواربة. خسرنا القرن العشرين ونحو عشر القرن الحالي وما زلنا نطرح الأسئلة نفسها ونجترّ الأجوبة نفسها. زهقنا التكرار. لهذا جاء نص أسعد خارجاً عن النصّ. «أعور... أعور بعينك». هذا هو أسعد.
قرأت مقالته المنشورة في «الأخبار» بتاريخ 4 أيلول 2007 تحت عنوان «إلى أهالي نهر البارد... إلى اللاجئين مرّتين». هزّني هذا المقال واستفزّني في الوقت نفسه. استفزّني لأنّه مليء بالألم والخيبة والصدق. فأعدت قراءته مرة ومرتين وثلاثاً. وما يأتي ليس ردّاً على أسعد، بل قراءة رابعة للنصّ.
«كذابون، نحن. لا تصدقونا. متملقون، نحن. لا تثقوا بنا. صغار النفوس، نحن. ننحني أمام القوي المسلح، ونعتدي على الفقير الأعزل... ماذا نقول لكم: خدعناكم وصدقتمونا. خذلناكم، وغفرتم لنا لا لشيء بل لأنكم عنيتم كلمات الصداقة والأخوة بينما كنا نحن نفعل ما نجيد: كذب ومراوغة وخداع... كل ما قلناه عن فلسطين، لم نقصد منه كلمة واحدة. كنا نمزح»
هكذا يعترف أسعد باسم اللبنانيين جميعاً، وبكل صراحته المعهودة وبغير تردّد، بأنّـ(نا) كذّابون، متملقون، صغار النفوس... مراوغون وخدّاعون... لا نقصد ما نقول... لكن يا أسعد من هي هذه النحن التي تتكلم عليها؟ وضعت كل لبنان واللبنانيين في سلة واحدة.
نعم التاريخ يُزوّر ويُكتب من جديد. تاريخ لبنان يُزور ويكتب من جديد. كم أنت محق. «لاموا الضحايا» وشهداء بوسطة عين الرمانة، الأبرياء، قالوا بأنهم «أشعلوا حرباً أهليّة». كم أنت محق في ذلك. الرئيس «المنتخب» بشير عاد رمزاً للسيادة، والأنكى من ذلك ساووه بكمال جنبلاط. إنهم محقون: لقد كان «سيادياً»! كيف لا. كم لبناني يتذكّر عمليّة «لينا» بتاريخ 7 تموز 1980، حين هوجمت كل مقار حزب الوطنيين الأحرار بأمر من بشير، واحتُلّت تاركة عشرات القتلى والجرحى. من يتذكّر الهجوم على إهدن وقتل طوني فرنجيّة وثلاثين من أفراد عائلته ومرافقيه؟ من يتذكّر «السبت الأسود» وعشرات الضحايا من المدنيين العزّل؟ من يتذكّر ما صنعه تلامذة بشير ونهج بشير وفكره في صبرا وشاتيلا؟ الشيوخ والنساء والأطفال نحروا في بيوتهم، في مخيمهم. ذنبهم أنهم «غرباء». نحن لا ننبش الماضي. كنا نود أن ينظر اللبنانيون إلى الأمام، إلى المستقبل وأن يقولوا حقاً «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر» وإن كان هناك فرق بين الخطأ والخطيئة. لكن متى أصبح هذا الماضي رمزاً للمستقبل فهنا تكمن المصيبة. نعم حسّنوا مواقعهم الطائفيّة، كلهم دون استثناء، من خلال حروب المخيمات. كم كنت محقاً في ذلك يا أسعد.
نعم نتذكّر، علماّ أن علينا يا أسعد أن نتذكّر تجاوزات اللبنانيين والفلسطينيين. لكن هل حقاً كان التعاطي الفلسطيني في الوضع اللبناني يدخل في خانة التجاوزات فقط كما ذكرت؟ فقط تجاوزات يا أسعد! هل دولة أبو عمار في لبنان (1974ـــــ1982) كانت مجرّد تجاوزات؟ كانت دولة بكل ما تعنيه الكلمة. كان عندها جيش ومؤسّسات ومخابرات وبيروقراطيّة وإعلام وأمن وقواعد وسجون. نعم لا تنسَ السجون، رمز الدولة، كل دولة. أليست السجون ما بقي من رمز الدولة في وطننا العربي؟
قبل العهد النفطي وإحكام سيطرته على الإعلام، كان أبو عمار يحسن اللعبة تماماً. لم يكن هناك مجلة تصدر في بيروت من دون أن يكون لـ«أبو عمار» يد فيها. ألم تحكم المنظمة سيطرتها على بيروت (الغربيّة)، كل بيروت الغربيّة، يا أسعد؟ كم من ليالٍ خلد فيها البيروتيون إلى بيوتهم منتظرين انتهاء المعارك بين «الأبوات». من خطف ناصر السعيد المعارض «السعودي» من قلب بيروت وقدّمه هديّة إلى آل سعود؟ أليست «عصابات» أبو عمار يا أسعد؟ كم كان ثمنه؟ والجنوب يا أسعد. لمن كان الأمن في الجنوب؟ هل أخذت حياة الجنوبيين اليوميّة وحاجاتهم وأمنهم في حساب أصحاب «التجاوزات»؟ كانت القوى الفلسطينيّة لاعباً فاعلاً في الحرب الأهليّة بكل ملامحها، أكانت معارك أم مناورات أم وقف إطلاق نار أم سرقات أم خطفاً وقتلاً. ومع ذلك، جاء الاجتياح وقاتل اللبنانيون وأهالي المخيمات معاً. لم يكونوا مخادعين ومراوغين في تلك اللحظات. كانوا صادقين كأنهم كانوا على موعد مع المعركة. أعطى اللبنانيون والفلسطينيون كل ما يملكون. المدافعون عن بيروت من لبنانيين وفلسطنيين لم يكونوا مراوغين. المراوغ والمخادع من كان يفاوض فيليب حبيب ويتخذ منهم (لبنانيين وفلسطنيين) وقوداً لخطوات لاحقة. قد نتفق على ذلك يا أسعد، لكن خُدعنا نحن (اللبنانيين) أيضاً. وثقنا بالثورة وبقادتها وبجمهورها، وأهالي المخيمات من هذا الجمهور. فإذا به جمهور صامت يقدّس القائد، يرفض النقد والمساءلة، مغلوب على أمره يصفق لقائد الثورة ويدافع عن كل خطواته.
نعم أهالي نهر البارد أصبحوا لاجئين مرّتين. كان المشهد مؤلماً عندما شاهدتهم يرحلون باتجاه البداوي حاملين أمتعتهم على ظهورهم. صمت في كل مكان. كم كنت محقّاً في ذلك يا أسعد. من حقهم أن يشعروا بأننا (اللبنانيين والفلسطينيين) خذلناهم. دُمِّر مخيمهم. دمرت بيوتهم. والبيت عزيز. خسروا كل شيء للمرة الثانية. أصبحوا لاجئين مرتين. ومن يدري بعد البارد والبداوي إلى أين؟ متى يرجعون إلى ما بقي من مخيّمهم؟ (ربما كان الجواب سراً من أسرار السنيورة وأسياده). من حق اللاجئين مرتين أن يحزنوا ويلوموا ويكفروا بالإخوة وألا يشعروا بالثقة. لكن يا أسعد هذا لا يعفينا (نحن واللاجئين مرتين) من طرح الأسئلة. لا يجوز أن يعامل اللاجئ كأنه مغلوب على أمره فقط. فماذا جرى ولماذا؟ من أين أتوا (مسلّحو «فتح الإسلام») وكيف وصلوا إلى المخيم؟ لماذا تخلّت القوى الفلسطينيّة (بفتحها وحماسها ويسارها) عن المخيّم؟ كيف أصبحت «فتح الإسلام» الآمرة والناهية في المخيم؟ ماذا حلّ بمسلّحي القوى الأخرى؟ أين سلاحهم وذخائرهم؟ ألم يروا ملامح السعوديين ويتعرّفوا إلى لهجتهم؟ ألم يتساءلوا عمّا يفعل السوري والسعودي واليمني والأردني وربما الشيشاني وحتى اللبناني في مخيمهم؟ لماذا صمتوا وانتظروا الكارثة؟ من الذي أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه؟ ما دور حكومتنا العليّة وفرع معلوماتها في إشعال الحريق؟
شاكر العبسي ليس وهماً بل حقيقة. «ليس(فقط) عصابة زرعت رغم إرادتهم». وأنت محق في ذلك. هو أكبر من عصابة، هو مشروع كامل. كان يأمل أن يكون أميراً على إمارة شماليّة في طرابس. هذا ليس وهماً. لم أقرأ وثائق سريّة ولم أطّلع على مجريات التحقيق الذي يقوم به الجيش اللبناني. الإثبات الوحيد هو أن الإمارة كانت قد قامت قبلاً في طرابس في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حيث سيطرت حركة التوحيد الإسلامي بظل أميرها سعيد شعبان وبمساعدة من «أبو عمار» على مدينة طرابس. عشرات الشيوعيين والعلمانيين من كل الطوائف كانوا أول الضحايا. خيم الموت على طرابس الفيحاء واختفت البسمة عن الوجوه. كان ظلاماً بكل ما تعنيه الكلمة. لو قُدّر لهم أن ينجحوا!
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتّحدة الأميركيّة