نسيم ضاهر *
على خلفية حماوة بائِنة وملفات بالغة التعقيد، تتلاحق إشارات تبدل في اللوحة الإقليمية. من المبكر والتسرّع استخلاص نتائج حاسمة، سوى أن ترسيمة الاحتمالات باتت تجد سنداً لها في ضوء المجريات والتحولات على مساحة المسرح وتلاوينه.
ما زال الاشتباك عنوان المشهد الأوسع بين محورين لا ثالث لهما، يختزلان بحدّية مسألة المواجهة في نهاية الحقبة البوشية. فبعد عقد ونيّف على انهيار المنظومة الاشتراكية، لم تتجاوز مناكفة موسكو حدّ المناوشة مع واشنطن، ولم يرتق تشافيز إلى مستوى كوبا في تحدِّي الولايات المتحدة وتقديم نموذج بديل يُحتذى به في أميركا الجنوبية، رغم كثرة نقاد الجار الشمالي والمُستائين من جبروته الاقتصادي في غير دولة لاتينية. وفي شرق آسيا، تستأخر الصين منازلة الولايات المتحدة ومشاغلتها أيديولوجياً، وتتعايش مع العولمة ومنظمة التجارة العالمية بغية تحديث مرافقها وقدراتها، مع استيعاب جرعات وافية من رأسمالية زاحفة نحو عقر دارها. من جانبه، يقترب الاتحاد الأوروبي من ملاقاة الولايات المتحدة حيال الملفات الكبرى، ويؤكد تصميمه على المواكبة من موقع المشارك البنّاء في صنع السياسة الدولية.
تفيد قراءة مسلسل الأحداث المتدحرجة عن علامات ذات دلالة حيثما جال النظر في الشرق الأوسط العريض، في الوقت الذي يُبدي فيه المرشحون لخلافة بوش، من ديموقراطيين وجمهوريين، حماسة وتشدّداً إزاء امتلاك إيران السلاح النووي، ويتفقون على العقوبات الآيلة الى شلّ برنامجها، مع مزيد من الرقابة الدولية.
كذلك يرفضون جميعاً، منطق الفرار من العراق على نحو الهزيمة ويُعوّلون على مقترحات المؤسسة العسكرية وخلاصاتها المرتقبة.
المفارقة أن أطرافاً إقليمية عدة، سواء في السلطة أو في دائرة الكيانات السياسية، رفدت، من حيث شاءت أم أخطأت في الحسابات، الخصم الدولي بالدفع والدوافع، وراكمت أسباب الريبة والتحوّط من مشاريعها، محلياً وإقليمياً. إلى ذلك، لا يمكن إغفال المحقق عراقياً ولبنانياً، في مكافحة الإرهاب وإعادة ترتيب الأوراق بما لم يكن متوقعاً في ساحتين ضعيفتي المناعة حسب تصنيف دعاة الممانعة وأغراضهم.
عطّلت حماس محركها في فلسطين، وأوقعت نفسها في مصيدة الاستئثار بقطاع غزة، الحافل بالمصاعب والشبهات. بذلك أقامت سياجاً من طين على محبسها الغارق في الأزمات، وعزلت جناحها عن السرب، وهو ما قد يطلق يد السلطة الوطنية في المحادثات مع الجانب الإسرائيلي برعاية دولية، ويضعف منسوب الاحتجاج وفعل اللاءات، فيما تشير استطلاعات الرأي الموثوقة الى تراجع شعبية حماس وقدرتها على الاستمرار وتلبية الحاجات الأساسية، الحياتية والمعنوية، في معقلها الأصلي بالذات. وعلى أرض الأنبار العاصية، حطَّ الرئيس بوش ورهطه، بعدما أضحت العشائر حاجزاً أمام فؤوس القاعدة وعبواتها. وباتَ من المسلّم به أن البذور التي غرستها إيران في التربة الشيعية، آخذة إلى حصاد مرير لن تنجو منه هندستها الدؤوبة لاستنزاف قوات التحالف في مستنقع العراق، المهيأ لاستيلاد المصاعب وحرق أصابع كل من يدنو من ميدانه، أياً كانت هوية اللاعب ومراهنته على ما يملك من حوافز ورافعات.
تعاني سوريا العزلة، عربياً ودولياً، بشواهد المحافل وركود العلاقات مع عواصم القرار. في غضون سنوات معدودة، انتقلت سوريا عملياً من مقام الندِّيـة مع إيران الى منزلة الحليف المستتبع، حامل العبء ومركب الأعباء، دونما المجاهرة بالإشكالية الناجمة عن اختلاف الخيارات الاستراتيجية، بين دمشق الثابتة على مبدأ المفاوضات والحلول السلمية، وطهران القائلة بحتمية زوال الكيان الغاصب والعاملة على تقويضه. وعلى أكثر من صعيد، تكتم سوريا استياءها من الحوارات التي تجريها الجمهورية الاسلامية، بينما تبدو دمشق عاجزة عن الإفادة من هامش حرية ممثال، وبالتالي تفتقد القدرة على استدراج العروض نظير حليفتها ذات الحجم المعتبر والتأثير الوازن. المؤلم الجارح، لدى عاصمة الأمويين، أنها مستبعدة عن المجهودات العربية وعن المفكِّرة الاسرائيلية في شأن المفاوضات، نصيبها تقطيع الوقت كمن يجلس في غرفة الانتظار رهن الاستدعاء.
أبرز المُتغيِّرات، يتصل بلا جدال، في ما تحمله الأنباء من إيران تباعاً. فلا يكاد يمرّ أسبوع دون معطيات جديدة تتناول مناصب أساسية وحسّاسة في مفاصل المؤسسـات وإدارة الدولة. عاد هاشمي رفسنجاني الى الواجهة، وهو الداعي الى البراغماتية في مقاربة الملفات والاحتراز في نبرة الخطاب ومفرداته، الأمر الذي يستبطن نقداً غير مباشر لنهـج أحمدي نجاد وأسلوبه في التعامل مع الأسرة الدولية والهيئات العاملة في مدارها. كذلك يُسجّل تقويم متباين داخلياً إزاء مفعول العقوبات وكيفية تجنّب قرارات لاحقة بتشديدها. وعليه، يجمع المراقبون على أمر الاستشعار برغبة ايرانية مؤكّدة في السير بخفر ومرونة، واستثمار الفرص المُتاحة لبلورة سياسات واقية واقعية تحمي النظام ولا تصدم المجتمع الدولي على وجه الانفعال والغلوّ في الشكل والألفاظ، خاصة في ما يعود لمسألة الملف النووي.
أثارَ وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير عاصفة في بغداد إثر ملاحظاته على أداء نور المالكي واستمراره في رئاسة الوزراء. لكن الأهم من محادثاته مع المكوِّنات السياسية في العراق، هو استخلاصه إجماع الأطراف المتنازعة على عدم استعجال الانسحاب الأميركي، وسماعه ذلك صراحة، خلافاً للشائع من مواقف معلنة. ثمّة دلائل لا تخطئ عن التحوّل الدولي في معاينة الحالة العراقية ومعالجتها من حيث انتهت اليه، وتجاوز القعود في التذمر والتبرؤ من الأوضاع الكارثية المنسوبة حصراً إلى الاحتلال، أي الالتفات الى تعقيدات المسرح العراقي والمساهمة في مواكبة وإنضاج التسويات الممكنة درءاً لمزيد من التشققات وإنقاذاً من الانهيار الشامل. وفي المحيط الأوسع، من باكستان الى السودان، تتنوّع المبادرات الآيلة الى ترتيبات مستحدثة وتفاهمات تشمل الوكالات الدولية والأحزاب الوطنية على السواء، ويلوح في الأفق خلط للأوراق ليس بعيداً عن استيعاب الرسائل الضاغطة والتأقلم مع توصيات المجتمع الدولي.
إنّ حاصل الأشهر المنصرمة قد يكون الإقلاع عن تبنّي مقولة الانتصار الساحق وما يقابله من هزيمة كاملة. فالتاريخ المعاصر يأبى تبسيط الأمور ومحاصرة الحلول أو دفعها في اتجاه حاسم ينتهي بعملية جراحية. الحروب لم تكن يوماً مجرد نزهة، ولم تعد صواعق تفجيرها بمتناول المغامرين في غفلة من الزمن، مهما كثرت المناوشات وعلت الدعوات، إذ إن ضوابط وكوابح من صلب آلية اتخاذ القرار والتوافق على حماية السلم العالمي تفسح لإثنية الحوار مساحة، وتسمح بتوليفات قابلة للحياة. الى ذلك، ينتصب ميزان الأرباح والخسائر عائقاً أمام استعجال الصدام، فيما تعلم دروس ما بعد الحرب العالمية الثانية أن القوة العارية تعجز عن كسر مراد الشعوب وإنضاج ما لا تهيّئ له الأحوال الوضعية من تبدّل مجتمعي وقفز فوق معطيات الهوية والخاصيات.
وسط التعرّجات والتقلّبات، يستحيل التفريط بمنسوب التفاؤل وإلغاؤه. فالمعلوم من تناقضات ومظالم أقل وطأة من مجهول العمليات المدمِّرة وآثارها البعيدة المدى على الأفراد والجماعات في آن. قد لا تكون الحكمة سمة صنّاع القرار وملكة تصرفاتهم بالضرورة، حتى في أعرق الديموقراطيات، لكن من الخطأ الفادح إغفال آليات التصحيح وإعلان نهاية التاريخ في الشأن الإقليمي على معنى القدرية والاختزال.
* كاتب لبناني