عمر كوش
البحث عن «الحكومة الصالحة» بدأ منذ الفارابي


أضحت الديموقراطية، في أيامنا هذه، استحقاقاً لا يحتمل التأجيل، حيث تتعاظم المساجلات والنقاشات بشأن ضرورة الشروع في تطبيقها وممارستها، بوصفها السبيل الأنجح للخلاص من حالات الانهيار والخراب، والهدف الذي تتوق إلى بلوغه شعوب بلداننا كي تنعم بالحكم الصالح. وفي هذا السياق، يأتي كتاب الدكتور العربي صديقي كي يسهم في السجال الدائر بشأن الديموقراطية، من جهة تقديمه قراءة نقدية للخطاب الذي يحاول إلصاق الديموقراطية وممارستها بأسس ثابتة، مشيراً إلى أنها تتمتع بقدرة هائلة على التطور والنمو والتغير، لذلك يتوخى في قراءته رسم خارطة للخطاب الغربي والخطاب العربي والإسلامي المقابل، ويحدوه النظر إلى الديموقراطية بوصفها غير ثابتة وغير أحادية، بل لها أقلمات ونماذج متعددة.
ينهض مطلق معالجة قضية الديموقراطية، بوصفها قضية عويصة متناظراً فيها في إطار عربي إسلامي، من نقطة تقوم على تحرّي الكيفية التي فهم وفقه العرب أنفسهم الديموقراطية، وكيف يتصورونها ويرونها، وعرض وجهات نظر المفكرين والنخب الحاكمة والإسلاميين، ومناقشة الأسس الغربية للديموقراطية، بهدف تحويل العديد من بديهيات الاستشراق إلى إشكاليات، وطرح أسئلة بشأن الطبيعة الأوروبية المركزية لسلسلة من المفاهيم السياسية الأساسية، بما فيها الديموقراطية، والمنفعة الناتجة منها في دراسة سياسات العرب والمسلمين. وكذلك مراجعة العديد من المصادر العربية التي تهملها الكتابات بشأن الديموقراطية.
غاية ذلك كله هو الإحاطة بلحظة تاريخية مثيرة في المجتمعات العربية، يزداد فيها زخم تقدم النخب العربية خارج الأنظمة السياسية الحاكمة وداخلها، ويتوجه إلى قادة هذه الأنظمة كي تتحول إلى أنظمة حكم سياسية أكثر انفتاحاً، في وقت تتزايد فيه الجاذبية التي يتمتع بها الحكم الديموقراطي بين أوساط مختلفة من الجماهير، العلمانية والدينية وسواها. وبالتالي ينبغي البحث عن نقطة ينطلق منها العالم العربي نحو صياغة ديموقراطية عربية، وإيجاد صياغة لميكانيكية «حكم صالح» في بلداننا العربية، تأخذ بالاعتبار الواقع والإرث الحضاري للعالم العربي.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل هنالك ديموقراطية عربية؟
الإجابة عن هذا السؤال تكشف أن «مناظرة الديموقراطية» تعتريها انشقاقات وتباينات بشأن الديموقراطية، مع أنها باتت تشغل بال الجميع في مختلف الأوساط، الأكاديمية والثقافية وحتى رجل الشارع العادي. وصار الكل يتساءل: ما الديموقراطية؟ وأي ديموقراطية نريد؟ وديموقراطية من؟ وهناك من يقول إن المجتمعات العربية تحتاج إلى ثلاثة أشياء هي: الديموقراطية، والعقلانية، والشرعية، وثمة دراسات استشراقية ترى أن الديموقراطية غير مناسبة للوطن العربي. كما أن هناك العديد من المؤثرات التي ساهمت في النموذج الغربي الحديث للديموقراطية، وما أفرزته تلك المؤثرات من توسيع وتعديل عن المفهوم الإغريقي القديم للديموقراطية. لكن ثمة جدلاً كبيراً بشأن مدى ديموقراطية الديموقراطية الغربية، من حيث اعترافها بالآخر، وأهمية أن تكون الديموقراطية «حساسة» حضارياً وثقافياً، أي ألا تبقى مفهوماً متصلباً حتى تحقق ديموقراطيتها...
أمّا عند تتبع بدايات الخطاب العربي الإسلامي بشأن «الحكم الصالح» و«الديموقراطية الصحيحة»، نجد أن البحث عن «الحكومة الصالحة» قد بدأ منذ الفارابي مروراً بالكواكبي والأفغاني ومحمد أمين، ولم ينتهِ حتى وقتنا الحاضر، وبُذل جهد مستمر لإيجاد تناغم بين التجديد والتقليد، العقلانية والإلهي، الموروث الثقافي والحداثة، الفرد والمجتمع والوطني والعربي. وهناك أربع نقاط مهمة، وذات صلة بقضايا الحرية، والعدالة، والديموقراطية. أولاها: البعث الإسلامي من مكة والمدينة، الذي يمثل في الضمير المسلم ثورة إنسانية، من خلال ثورته على الجاهلية والأبوية السياسية في جزيرة العرب، ومناداته بالمساواة بين البشر، ومحاربته للعبودية وعادة وأد البنات وسواها. وثانيتها تعود إلى القرن التاسع عشر الميلادي، أو ما يعرف بعصر النهضة أو «عصر تحرر الفكر العربي» الذي يمتد على مدى 140 سنة، ويبدأ منذ احتلال نابليون مصر عام 1798 وصولاً إلى بدايات الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه النهضة عبارة عن صحوة وبحث في الذات، وأنتجت العديد من التطورات، تجسدت في التجارب المبكرة للحكومة الدستورية التمثيلية، والإضافة والابتداع في المصطلحات السياسية، والزخم في الأفكار الوطنية. وجاءت النقطة التاريخية الثالثة بعيد فترة الاستقلال، في الستينيات من القرن الماضي، حيث عُقدت آمال كثيرة على الأنظمة السياسية الوطنية لتحقيق سيادة وطنية حقيقية، إلا أن أداءها السياسي جاء مخيِّباً للآمال، وخاصة في مجال الحريات السياسية والمدنية. والنقطة التاريخية الرابعة والأخيرة تتعلق بالإصلاحات التي شهدتها ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وكانت في معظمها تركز على التحرر السياسي والآفاق الديموقراطية التي حرّكتها جملة من العوامل والتطورات الخارجية والداخلية. وأنتج تفاعل وتراكم تلك المحطات التاريخية المهمة خطاباً راهناً، أفضى إلى حالٍ من البحث عن رؤى متنافسة للديموقراطية الصحيحة، ومن شأنه أن يزيد من الانقسام والاستقطاب بين المنظّرين الإسلاميين والعلمانيين، وبالتالي التحدي الأهم الذي يواجه الديموقراطيين العرب يتجسد في إيجاد مساحات وفسحات تكون فيها السلطة غير محددة أو أحادية من أجل الوصول بالمشروع الديموقراطي العربي إلى مرحلة النضج والإزدهار. وهنا تبرز فكرة المناظرات كسبيل لإنضاج فكرة الديموقراطية العربية، بدلاً من الحوار بشأنها، لأنها تفسح في المجال أمام التداول المستمر والتبادل والتفاعل والتشعب غير المنتهي، إضافة إلى أنها، أي المناظرات، تُبقي على الزخم في الحياة الثقافية والممارسة المعرفية.
وبخصوص الدعوات الأميركية الراهنة، فإن هناك إجماعاً بين القادة الذين يهندسون السياسة الأميركية والأوروبية، يهدف إلى فرض الديموقراطية على العالم العربي وفق مفاهيم غريبة عن الواقع العربي وحضارته، مع أن نضوج الديموقراطية في العالم العربي، كسواها من العمليات التغييرية، عملية ليست سهلة وتدريجية، وينتظرها الكثير من الحلقات والمراحل، وإلى الآن لا توجد ديموقراطية عربية. هناك مشروع ديموقراطي، لا سبيل إلى نجاحه من غير تمكين المجتمع والقوى الحية المختلفة فيه من الإسهام وبفاعلية، وبالتالي ينبغي البحث عن ديموقراطية عربية في صلب النضالات الاجتماعية، وبشكل يدفع باستمرار إلى التغيير في السلطة، والنشاط السياسي والمعرفي والأخلاقي واللغة والهوية.
* كاتب سوري



العنوان الأصلي
البحث عن ديمقراطية عربية: الخطاب والخطاب المقابل
الكاتب:
العربي صديقي
الناشر
مركز دراسات
الوحدة العربيّة