محمد الأمين ولد أباه *
مثّل خطاب الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله بتاريخ 21 حزيران الانطلاقة الفعلية لمسار من المفترض أن يؤدي إلى عودة قرابة عشرين ألفاً من الموريتانيين الزنوج الذين هُجِّروا قسراً إثر أحداث سنة 1989، كما يفترض أن يسمح هذا المسار بالتعويض لأسر العسكريين الزنوج الذين تمت تصفيتهم في السنوات التي أعقبت هذه الأحداث.
ويأمل الموريتانيون أن تكون هذه الإجراءات بداية لتعايش سلمي كدرت صفوه منذ الاستقلال صعوبات ظهرت بين حين وآخر، وأن تضمد نهائياً جراح الماضي.
الانتماء المزدوج: موريتانيا بين عالمَيْن
انقسمت الطبقة السياسية غداة استقلال موريتانيا (سنة 1960) إلى ثلاثة اتجاهات:
ـــــ اتجاه ذي غالبية زنجية دعا إلى انضمام البلد إلى اتحاد السودان الغربي الذي شجعت فرنسا على قيامه بين مستعمرتيها، السنغال ومالي.
ـــــ اتجاه داعم لمطالب المملكة المغربية التي رفضت الاعتراف باستقلال موريتانيا، وظلت لمدة سنوات تطالب بها جزءاً من أراضيها.
ـــــ أما الاتجاه الثالث، فقد دعا وسعى إلى إقامة دولة مستقلة وتوظيف التنوع العرقي لسكنة البلد ليكون عامل ثراء ثقافي وتصبح موريتانيا «همزة وصل» بين العالمين العربي والأفريقي. وقد نجح الاتجاه الاستقلالي في تحقيق سعيه وإقامة دولة مستقلة تتكوّن ديموغرافياً من أغلبية عربية وأقليات زنجية تستوطن ضفة نهر السنغال.
وغطّت حماسة السنوات الأولى وحكمة الرئيس الأول المختار ولد داداه على كثير من الصعوبات المتعلقة بتقسيم الأدوار بين مكونات الشعب، إلى أن طرحت المسألة بقوة للمرة الأولى إثر قرار الحكومة سنة 1966 بفرض إجبارية تعليم اللغة العربية في المدارس الرسمية، وهو ما رأى فيه الزنوج الموريتانيّون محاولة لاستلابهم والانتقاص من نفوذهم المعتمد أساساً على أسبقيتهم إلى التعليم في المدارس الاستعمارية التي قاطعتها، بدوافع دينية وثقافية، شرائح كثيرة من المكونة العربيةوقد عبّر الزنوج عن استيائهم بتنظيم إضرابات في المدارس، سرعان ما امتدت إلى الشارع وتحولت إلى مواجهات بين السكان، خلّفت بضعة قتلى قبل أن تتمكن قوات الأمن من السيطرة على الوضع.
وبعد انقلاب 1978 الذي أطاح النظام المدني الأول، دخلت البلاد فترة من عدم الاستقرار والانقلابات العسكرية، وافتقر تعاطي العسكر مع المسألة الثقافية وما يرتبط بها من توازن بين المكونات العرقية إلى النضج وبعد الرؤية، فاتُّخذَت قرارات ارتجالية مثل استحداث نظامين تعليميين متوازيين، أحدهما باللغة الفرنسية وهو مخصص للزنوج، والآخر باللغة العربية.
وقد مثّل هذا الإجراء الذي اتُّخذ سنة 1979 كارثة حقيقية لا يزال البلد يعاني مخلفاتها؛ فقد سمح بظهور جيلين من الموريتانيين لا يفهم أي منهما لغة الآخر، وكان لهذه القطيعة، التي تزامنت مع تنامي الحركات القومية في كلتا المكونتين، تأثير كبير على الأحداث المؤلمة التي تحاول موريتانيا اليوم تضميد جراحها.
القوميّة الشوفينيّة في بلد متعدّد الأعراق
شهدت فترة الثمانينيات في موريتانيا تنامي نفوذ الحركات القومية العروبية بمختلف اتجاهاتها ومدارسها من بعث عراقي وسوري إلى ناصرية أصلية، وأخرى قذّافية.
وقد كان القاسم المشترك بين كل هذه الاتجاهات هو الدعوة إلى إبراز الهوية العربية لموريتانيا وترسيخها مع ما يتطلبه ذلك من مظاهر مثل التعريب التام للإدارة والانفتاح أكثر على العالم العربي.
أما على مستوى المكونة الزنجية، فقد استمرت تداعيات أحداث سنة 1966 التي سبق الحديث عنها، واستمرت المطالبة من طرف الزنوج بمكانة أكبر وتنديدهم بهيمنة «البيظان» على أجهزة الدولة. ففي سنة 1986 أصدرت مجموعة من الأطر والشباب الزنوج، كوّنت في ما بعد نواة لما يعرف بجبهة تحرير الموريتانيين الأفارقة FIAM، منشوراً شديد اللهجة نددت فيه بما سمّته اضطهاد العرب لهم.
أما الأحكام العسكرية، فقد ظلت في البداية تتعامل مع الطرفين بالطريقة نفسها، فتعرض مناضلو الحركات القومية من كلتا المكونتين للسجن والمحاكمة مرات عديدة.
وقد مثلت سنة 1987 منعطفاً مهماً في تاريخ التعايش السلمي لمكونات الشعب الموريتاني. ففي تشرين الأول من تلك السنة، اعتُقل عشرات من الضباط الزنوج كانوا يخططون لانقلاب عسكري، وحوكموا وأُعدم ثلاثة منهم.
ويرى المراقبون أن هذه الحادثة مثلت نقطة تحول في سياسة المعاملة المتوازنة التي كان ينتهجها نظام ولد الطائع تجاه الحركتين القوميتين، العروبية والزنجية، فتزامن قمع الحركة الزنجية مع تزايد نفوذ الحركات القومية العروبية التي سمح لها بالتغلغل في الأجهزة الإدارية للدولة والجيش.
أحداث 1989: القشّة التي قصمت ظهر البعير
إثر شجار صغير بين مزارعين سنغاليين موريتانيين، تدخل الأمن الموريتاني، وأصيب أحد السنغاليين برصاصة قاتلة. ولأن الساحة الداخلية في كلا البلدين كانت محتقنة إلى أعلى الدرجات، فقد كان كلا النظامين يبحث عن متنفس خارجي لأزمته الداخلية، فتحول الشجار الصغير إلى أزمة دبلوماسية ثم إلى مواجهة مفتوحة، فقطيعة تامة بين
البلدين.
وتجاوز الخلاف، عن قصد أو عن غير قصد، الدوائر الرسمية ليمتد تأثيره إلى شوارع المدن الكبرى في الدولتين، فقام المواطنون في كل دولة بقتل رعايا الدولة الأخرى وسلب أموالهم من دون أن تظهر الحكومتان ـــــ في الأيام الأولى على الأقل ـــــ صرامة تذكر في كبح الجنون الجماعي الذي أصاب
المواطنين.
وفي هذا الجو المفعم بالخوف والضبابية، حاولت بعض الأوساط المقربة من النظام في نواكشوط استغلال ما رأته فرصة ذهبية لوضع حد نهائي لمسألة الزنوج في موريتانيا. فقامت الدوائر الأمنية، في إطار حملة إبعاد الرعايا السنغاليين، بإبعاد قرابة ستّين ألفاً من الزنوج الموريتانيين وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم!
وعندما انقشع غبار الأزمة، ظهر على الضفة الأخرى للنهر الفاصل بين البلدين ما أصبح يسمى مخيمات اللاجئين الموريتانيين في السنغال!
وداخل موريتانيا، ازدادت معاناة الزنوج وبلغت مداها سنة 1990 عندما أُوقف أكثر من خمسمائة من العسكريين الزنوج بتهمة تحضير انقلاب. ومات منهم الكثير تحت التعذيب من دون أن تجري لهم أية محاكمة.
وتبعت ذلك أشهر من القمع العسكري في مناطق الضفة قبل أن تتراجع حدة التوتر إثر إعلان النظام الانفتاح الديموقراطي في نيسان من سنة 1991.
وظلت الحركة القومية الزنجية التي أصبحت تمارس نشاطها في الخارج، تطالب بإجراء تحقيق في هذه الأحداث وإعادة المهجرين. ورغم أن نظام ولد الطائع كان يرفض الحوار مع هذه الحركة والاعتراف بوجود لاجئين موريتانيين، إلا أنه فتح قنوات أخرى من خلال الوجهاء وكبار الموظفين الزنوج الذين استخدمهم لإقناع غالبية اللاجئين بالعودة من دون أي تغطية إعلامية، كما بادر البرلمان سنة 1993 إلى اعتماد قانون عفو عن جميع المتورطين في عمليات التعذيب والقتل التي وقعت في الجيش.
وبعد انقلاب آب 2005 وسقوط نظام ولد الطائع، كانت تصفية مظالم الزنوج من الأولويات التي طرحت على المجلس العسكري الذي قاد المرحلة الانتقالية. إلا أن العسكريين سرعان ما أعلنوا عدم نيتهم لفتح هذا الملف، متعللين بافتقارهم إلى الشرعية الضرورية لعلاجه!
لكن، في الحملة الانتخابية الأخيرة، وعدت غالبية كبار المرشحين ـــــ بمن فيهم الرئيس الحالي ـــــ برفع المظالم المتعلقة بهذا الملف.
ملامح حل المشكلة؟
إثر خطاب الرئيس، أُلِّفت لجنة وزارية مكلفة وضع تصوّر عام لحل قضية اللاجئين وتنظيم عودة من بقي منهم في المخيمات (قرابة عشرين ألفاً) والتعويض لهم عن ممتلكاتهم التي فقدوها.
وقد وضعت هذه اللجنة لنفسها برنامجاً بدأ بزيارة المخيمات في السنغال والنقاش مع اللاجئين، ثم الاجتماع مع ممثلي الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني، ثم زيارة قرى الزنوج على الضفة ولقاء الوجهاء المحليين وتنظيم مهرجانات شرح للسكان.
وقد أنهت اللجنة الوزارية كل هذه المراحل، ومن المنتظر أن تتوج المسار بتنظيم «أيام وطنية للتشاور» يناقش فيها جميع الفاعلين التقرير الذي من المفترض أن تعده اللجنة وأن تضمنه الجدول الزمني لعودة اللاجئين وآليات التعويض لهم.
ورغم أنه لا أحد أبدى اعتراضاً صريحاً على عودة اللاجئين، إلا أن ردود الفعل عكست قلقاً لدى بعض القوميين العروبيين من إمكان تأثير عودة اللاجئين على التوازن العرقي في البلد. كما أن بعض أوساط القوميين الزنوج ترفض أن ترى في الخطوة غير مرحلة أولى على طريق تقاسم تام للسلطة بين المكونتين. وسيتوقف على كيفية مواجهة هذه القضية وإدارتها وحلها، الكثير من ملامح مستقبل
موريتانيا.
* محامٍ وكاتب موريتاني