سرجون القنطار *
معادلة حسابية صاعقة: قبل بضعة أشهر من يومنا هذا، اشترى فريق لوس أنجلوس غالاكسي لكرة القدم، النجم الإنكليزي دايفيد بيكهام بمبلغ خيالي غير مسبوق في تاريخ الكرة بلغ 250 مليون دولار. هذه الصفقة تمت بالتزامن مع «تحرير» إسرائيل للسلطة الفلسطينية مئة مليون دولار هي جزء من «مستحقاتها الجمركية». في هذه المعادلة الحسابية البسيطة حصل إنسان إنكليزي واحد على ضعفَي ونصف مبلغ حصل عليه قرابة الأربعة ملايين فلسطيني. ولكن الأمر يتعدى حسابات الرياضيات إلى مشهد رياضة كرة القدم التي تطير فوق ملاعب عالم كبير نسبياً يحوي على أرض اسمها فلسطين. ففي حين أن أقدام بيكهام المدججة بالمال قد وطأت الأرض المنتظرة حيث بدأ «الفتى الذهبي» يلهو بالكرة في ضواحي هوليود منذ بضعة أيام فقط، ينجلي وصف دقيق لمباراة مميزة لكرة قدم في فلسطين:
في فلسطين مثل لندن، هناك رياضة كرة قدم مع فارق بسيط هو أن الكرات بعضها ممزق وبعضها محترق، ولاعبيها المحترفين بعضهم أسرى وبعضهم جرحى وبعضهم معوّقون... وفي فلسطين مثل لوس أنجلوس يوجد عشاق للكرة ولكنهم يختلفون عن الأميركيين أنهم لا يخرجون إلى الملاعب لأنها مجرّفة أو مدمّرة، أو لأن الجيش الإسرائيلي فرض حظر تجول في وقت المباراة. في مباريات فلسطين المشروطة دائماً بسادية المحتل، يُعتقل الحكم الفلسطيني (غالباً ما يكون أردنياً أو مصرياً) ليحلّ مكانه حكم أميركي ترك مباراة في دالاس كي يلتحق بواجبه «الترفيهي» في نابلس.
أما في وقائع المباراة التي تحصل مرة وحيدة في العام وذلك أثناء عيد «الهانوكا» اليهودي، فيشرح المعلق الأوروبي المحترف قواعد اللعبة في فلسطين، وذلك كي لا تستغرب الشعوب الأوروبية وتضيع أثناء مشاهدتها «لمباراة العصر»، وهي التي تعشق الديموقراطية والرياضة... وطبعاً الإخاء الإنساني. فالقواعد هنا تقتضي أن يركل اللاعبون الفلسطينيون الكرة باتجاه واحد فقط، هو اتجاه مرماهم الخاص. كما أن القواعد الأخرى تنص على منع اللاعب الفلسطيني «طوعاً» من تمرير الكرة لزميله بالفريق، بل يجب عليه دائماً أن يركلها إلى الخارج، وإهداؤه بالتالي الإسرائيليين رمية ركنية، غالباً ما تمرنوا عليها في قرى مصنعة خصيصاً في صحراء النقب. ومن القواعد أيضاً أن لا يضع الفلسطيني عينيه في عيني الحكم أبداً، بل أن يسجد له في كل مرة يمر به. هذا بالإضافة إلى أن الجمهور الفلسطيني ممنوع من الهتاف أو التشجيع أو الصراخ، حتى ولو استعرض أحد اللاعبين الفلسطينيين بلمحة فنية أو استعرض أحد اللاعبين الإسرائيليين بركلة على الرقبة أو ببصقة على الوجه أو بضربة على الركبة... الجمهور الفلسطيني ممنوع دائماً لأنه وإن أراد التعبير، فإنه يستحيل عليه ذلك لأن جهاز أمن الشاباك المولج «بأمن» المباراة لا يسمح بدخول أي مشجع للفلسطينيين دون تعصيب عيونه وتكبيل يديه وكمّ فمه. أما في القواعد الممهّدة للمباراة، فإن اللجنة الدولية المختصة بدراسة استعراض «المباريات» في فلسطين قد منعت أي فلسطيني من أراضي 1948 أو حتى من اللاجئين الفلسطينيين من المشاركة مع المنتخب. كما إنه يجب على كل لاعب في المنتخب الفلسطيني أن لا يكون قد مر بالمعتقلات أكثر من سبع مرات كحد أقصى. في المقابل، فإن اللجنة الدولية سمحت لأي يهودي في العالم بأن يشارك مع منتخب دولة إسرائيل مهما كانت جنسيته...
تبدأ المباراة ويدخل التشويق والإثارة على الملعب عندما يستجيب لاعب فلسطيني متآمر لإشارة كابتن المنتخب الإسرائيلي، ليسجل ثلاثة أهداف في مرماه تحت أنظار رفاقه المتوعدينه ثأراً. وتجدر الإشارة إلا أن هذا اللاعب الشهير في الدوري الفلسطيني كان قد أخذ إجازة خاصة من معلمه في غزة بعد أن أدى واجبه بطريقة ممتازة ـــ تشابه أداءه في الملعب ـــ خلال إطلاقه النار عشوائياً في أزقة غزة. تستمر المباراة على أصوات الأخطاء التي يرتكبها الخصم على أرجل الفلسطينيين الذين سيتحملون «التكسير» إلى نهاية الشوط الأول حين سيغضبون فيصيحون ويحتجون للحكم الذي يستدعيهم ويشهر بطاقة التجريد من الهوية الفلسطينية بوجههم... وعند صافرة الشوط الأول يهمس الحكم في أذن قائد المنتخب الفلسطيني، الذي صدف أنه أعمى من جراء التعذيب في معتقل عسقلان، أنه مستعد لمقايضة البطاقة الحمراء بالبطاقة الزرقاء (أراضي 48) أو بالباسبور اللبناني.
في الشوط الثاني يفهم الفلسطينيون قواعد اللعبة بشكل صحيح فيشرّعون المرمى للخصم، ولكنهم يبقون في الملعب ليستخرجوا التراب ويمزجوه بعرقهم الملتهب ليصنعوا منه المولوتوف. أما فتيلة المولوتوف فهي قطعة ممزقة من الكرة المستديرة التي لم يعد لها أي قيمة في فلسطين، بالتحديد عندما وطأت قدم أول مستوطن يهودي على سواحلها حاملاً مشروع هرتزل... تنتهي المباراة بنتيجة 90-0 للفريق الخصم و90 زجاجة مولوتوف وتسعة جرحى فلسطينيين وشهيد وأسير ووسام شرف للحكم الأميركي من الجمهور الأوروبي... والنظام الرسمي العربي.
لكن أهم ما أسفرت عنه المباراة حسب مركز الدراسات الاستراتيجية الإسرائيلية، هو صلاة ابنة قائد المنتخب الفلسطيني البالغة من العمر ثمانية عشر عاماً وتضرّعها إلى الله كي تتغير الأوضاع في فلسطين، ما يسمح بتطور أداء أبيها الرياضي. وحينها، قالت الفتاة، يلعب هو إلى جانب بيكهام في فريق لوس أنجلوس ويحصل على 250 مليون دولار... يزرع فيها زيتوناً في قريته المجرّفة.
مركز الدراسات رصد بعد صلاة الفتاة عهداً منها إلى تراب أرض الملعب... فمشهد الكرة التي طارت في الهواء أثناء المباراة، وبرغم وحشية وقائعها، إلا أنه قد جسّد لها نبضة حياة في عروقها ستهديها إلى موقع تجنيد سرايا الاستشهاديات.
* طالب جامعي