ياسين تملالي *
المشهد الأول

يوم 14 آب/ أغسطس الماضي، حاول مسلحون في مدينة الأربعاء اغتيال مصطفى كرطالي، وهو أحد قادة «جيش الإنقاذ الإسلامي» الذي وضع السلاح سنة 2000 في إطار «قانون الوئام المدني». نجا مصطفى كرطالي من الموت بأعجوبة، وإن فقد في تفجير سيارته إحدى ساقيه، وقد أكد في أول تصريحاته للصحافة أن مستهدفيه يحاولون عرقلةَ مسار «المصالحة الوطنية»، وأن هذا المسار، رغم أنف أعدائه، سيستمر. كما لم تلهه مأساته الشخصية عن الحديث عن ضرورة بسط يد الصفح لمن بقي في الجبال من مسلحين.
وكما كان متوقعاً، فقد أرسل رئيس الجمهورية إلى الأمير الجريح رسالة أبلغه فيها أنه لا محيد عن «المصالحة الوطنية»، وأن مآل كل من يحاول تقويضَ صرحها الفشل الذريع. أما الجنرال إسماعيل العماري، رئيس جهاز مكافحة التجسس، وهو من كانت تقشعر لذكره فرائص الإسلاميين، «معتدلين» أو «غير معتدلين»، فأبى إلا أن يتوجه إلى المستشفى للاطمئنان شخصياً إلى صحة زعيم «كتيبة الرحمن».

المشهد الثاني

وشاءت الأقدار أن يُتوفى الجنرال إسماعيل العماري جراء نوبة قلبية يوم 27 آب، بعد ساعات من زيارته لمصطفى كرطالي. وحسب روايات الصحف، فقد كان للخبر وقع الصدمة على قدامى زعماء المنظمات الإسلامية المسلحة.
وتبارى الأمراء في ذكر مناقب الفقيد ومحاسن خصاله. مصطفى كبير، القائد الأسبق لـ«جيش الإنقاذ الإسلامي» في المنطقة الشرقية، وصفه بأنه «كان من المغامرين من أجل تحقيق السلم»، ولم ينس الإشادة بأنه «رغم مرضه، قام بعيادة الشيخ كرطالي في المستشفى». أما مدني مزراق، القائد العام السابق لـ«الجيش» نفسه، فقال إن «المرحوم بدأ الصلاة مبكراً وحج بيت الله سبع مرات ولم يعرف عنه تناول الخمر»، وأضاف أنه «جاءنا في الجبال في 1997، دون حرس أو سلاح، بغية الاتفاق معنا على استراتيجية تنهي المحنة التي تكابدها البلاد». واختتم كلامه بهذه الجملة المؤثرة: «نعم، ختم الحاج إسماعيل حياته بزيارة أخوية للشيخ مصطفى، أوصى خلالها بضرورة المضي على طريق المصالحة والمؤاخاة».
وأبى مدني مزراق إلا أن يحضر شخصياً تشييع جثمان خصمه السابق، كما حضر مراسيم الدفن علي بن حجار، القائد الأسبق لـ«الرابطة الإسلامية للدعوة والجهاد» التي وضعت السلاح هي الأخرى سنة 2000. وحسب تقارير الجرائد، فقد كانت الجنازة مثالاً حياً على تصالح قدامى الأعداء الألداء، إذ اختلطت فيها الشخصيات الرسمية، بما فيها ممثل رئيس الجمهورية الشخصي، بالأمراء الملتحين، فلم يعرف الحابل من النابل في جو الوئام الذي ساد مقبرة الشهداء.

المشهد الثالث

وفيما كان كرطالي نزيل المستشفى، أعلن مروان عزي، رئيس لجنة تطبيق «ميثاق المصالحة الوطنية» أن حوالى 6000 أسرة من أسر المفقودين تقدمت إليه بملفات للحصول على تعويضات عن اختفاء ذويها في سنوات التسعينات، كما أكد للصحافة أن تنفيذ إجراءات الميثاق يسير على أحسن ما يرام.
وبالطبع لم يتطرق مروان عزي إلى إصرار جمعيات أسر المفقودين على أن التعويضات حق مشروع، وأنها لن تثنيها عن مطالبة الدولة بالتحقيق في اختفاء أبنائها منذ اختطافهم على أيدي قوات الأمن.

المشهد الرابع

وفي الخامس من أيلول/ سبتمبر كشف عضو مكتب الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، محمد سماعين، للصحافة عن أن الشرطة في مدينة غليزان أجبرت العديد من أسر المفقودين الراغبة في الحصول على تعويضات، على توقيع محاضر تفيد بأن أبناءها لم يختطفوا من طرف أجهزة الدولة الأمنية. وأضاف محمد سماعين أن الجهاز القضائي استند إلى شهادات قدامى أعضاء الجماعات الإسلامية المسلحة ليخلص إلى أن المفقودين «اغتيلوا من طرف الإرهاب»، أو كانوا هم أنفسهم إرهابيين قُضيَ عليهم في اشتباكات مسلحة.
وبرهن عضو مكتب الرابطة على بطلان هذه الشهادات بتناقضها مع تصريحات موثقة لأسر الضحايا تفيد بأن الضحايا اعتقلوا من قوات الأمن أو الميليشيات التابعة لها، ثمّ اندثر أثرهم. ولم يستبعد محمد سماعين أن يكون اتفاق السلم الموقّع مع بعض المنظمات المسلحة في 1997 قد نص على واجب إقرار أعضائها علناً بمئات الجرائم الدموية لتخليص قوات الأمن من مسؤوليتها الثقيلة. وختم كلامه بهذه الجملة: «الطرف الوحيد الذي يعرف مصير كل المفقودين بدون استثناء هو دائرة مكافحة التجسس التي كان يرأسها الجنرال إسماعيل العماري قبل وفاته».

المشهد الخامس

وفيما يستمتع الأمراء ومسؤولو النظام بأداء أدوارهم في هذه المسرحية العائلية، تغص الكواليس بمئات الأسر التي فقدت ذويها في حرب مدمرة كانت أبعد ما تكون عن التمثيلية الهزلية. وقد اضطرت الحاجة هذه الأسر لقبول تقمص شخصية غائمة سماها الكاتب «ضحايا المأساة الوطنية»، وهي شخصية ثانوية تظهر على الخشبة لدقائق معدودات مهللة لاستتباب السلم وعودة الأخوة، قبل أن تأخذ «تعويضاتها» وتنصرف، فلا مكان لها بين الأقوياء المسلحين.
ويبدو المخـــــــرج راضياً تمام الـــــــرضى عن أداء الكوميديين. مشكلته الوحيدة أن مسرحية «المصـــــالحة» تجري في قاعة خالية من الجمهور، فالجزائريون لم ينسوا أن معظم أبطال القصة كانوا يطالبونهم في زمن ليس بالبعيد «باختيار معسكرهم» إن أرادوا الإفلات من القتل والتنكيل. قد لا يعرف أولئك العامة الجاهلون تلك النظرية التي تزعم أن «المسرح وسيلة من وسائل ما يعرف بالـ(كاتارسيس)، أي التطهر بواسطة التعبير»، إلا أنهم يدركون بالبداهة أنه لا «كاتارسيس» من غير اعتراف، ولا اعتراف من غير مساءلة الممثلين الرئيسيين، من سلطات وأمراء.
* صحافي جزائري