ماجد الشيخ
الهويّات كثيرة والحيرة واحدة

  • تصلّــب الهويّــات الفرعيّــة وتجذيــر الأساطيــر المؤسّســة للكيــان


  • هي سيرة الذات في استطالتها نحو التماهي بالوطن سرداً أدبياً أقرب إلى البحث التسجيلي لأحوال الطائفة والمذهب وحتى العائلة، توقاً إلى إنتاج هوية مواطنية واحدة تنصهر في بوتقتها مجاميع من الشرائح كافة يشكلون اليوم ما يفترض أنه خميرة هوية لوطن واحد ما زال طي التكوّن.
    هذا هو على الأقل خط المسارات المتعرجة التي يتخذها نشوء هوية وطنية لشعب الجمهورية اللبنانية، حيث يسعى حسام عيتاني في كتابه هذا الصادر حديثاً عن دار الساقي، الى إظهار أن ستة وثمانين عاماً مضت منذ إعلان «لبنان الكبير» لم تكن حافلة بما يقرّب حاملي الجنسية اللبنانية بعضهم من بعض، ويذيب الفروق في انتماءاتهم السابقة على الانضمام إلى الوطن الجديد، بل إن الكثير مما فعله اللبنانيون أو فعله الآخرون لهم، كانت نتائجه تصلب الهويات الفرعية، الطائفية، كما كانت تصلب أكثر حيرة اللبنانيين حيال الوجه الذي يتعين أن يتدبروا أمورهم عليه. فالدولة اللبنانية فاقمت من هواجس الجماعات وضاعفتها ولم تخمدها، وشرعت لهذه من حيث لا تدري أو تريد، وربما المطالبة «بحق تقرير المصير»، ومن ير في جماعته أمة ناجزة الميزات العرقية والثقافية، وهذه حال الكثرة من الطوائف اللبنانية، يكن على قاب قوسين أو أدنى من المطالبة باستقلالها السياسي إن عجز عن بسط سيطرته وسيطرتها على الجماعات المنافسة.
    سردية حسام عيتاني في المدخل (مفتتح الكتاب) وحتى (المدخل الجديد)، نهايته، محاولة للتأريخ الشخصي للقضية اللبنانية وتأريخ عمومي للذات الفاعلة والمنفعلة في مجريات تلك القضية، وسرد أدبي لم يخرج على موضوعه، بل كان يصلح لأن يكون سرداً روائياً أو قصصياً لو كان هناك نيات لدى الكاتب لتحويل سيرة الهوية ومسيرة الوطن المدمى والمتشظي إلى سيرة أدبية خالصة، إلا أنه آثر أن يكون مدخله إلى العام ما هو شخصي وحميمي في حياة فرد ـــــ مواطن ـــــ ابن الطائفة والمذهب والعائلة في انطلاقه من الزاروب والحارة إلى كل الوطن المتذرر، وصولاً إلى الأمة التي تفتقد وحدتها الضرورية بكل ما اكتنفها ويكتنفها من علاقات تتشابك، مولدة معها الكثير من الأسئلة التي يعترف حسام بلا حرج بأن العديد منها ظل بلا أجوبة...
    يورد عيتاني وصفاً لأحمد بيضون معرفاً فيه الطائفية بأنها «الدين الميت بعلاقته بمحيطه بالمعنى الذي كان ماركس يقول فيه إن رأس المال إنما هو عمل ميت»، مستطرداً القول: «إن العلاقة بين المرجعية الدينية والزعامة السياسية للطائفة تتشابه مع العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، فالكنيسة أو دار الإفتاء أو المجلس الطائفي، مهما كان اسمه، يتولى إنتاج الهوية الإيديولوجية أو (الوعي) المحدد لمجموعة المنتسبين إلى الطائفة المعنية. في حين أن القيادات السياسية تمثل عبر تحالفاتها وصلاتها بالطوائف الأخرى (علاقات الإنتاج) و(علاقات التوزيع) التي تفوق عادة، أهميتها بمراحل أهمية (قوى الإنتاج)، والحال أن المعطى الديني في الطوائف، التي هي علاقات وليست كيانات تماماً كما أن رأس المال (علاقة) وليس (شيئاً)، هو معطى ضئيل الأهمية».
    هذه العلاقة المتجسدة بين الطوائف في لبنان على شكل حروب أهلية دورية منذ القرن التاسع عشر، تقدم دروساً مهمة في التطور الاجتماعي من خلاصاتها «أنها ليست تكراراً أبله لأحداث تعيد إنتاج أسبابها، فكل حرب أهلية هي انفجار جديد لعداوات جديدة تتكون ضمن أفق تاريخي واقتصادي وثقافي مختلف عما رافق الحروب السابقة، وإذا أقررنا بأن مواقع الجماعات التي تتواجه في الحروب الأهلية تتغير وفقاً لتغير منظومات علاقات بعضها ببعض ومنظومات السيطرة الداخلية فيها، فلا بد عندئذ من الوصول إلى الاستنتاج البسيط القائل إن هويات الطوائف المتحاربة تتغير هي أيضاً، ويكون الصراع الأهلي المسلح في هذه الحال، عنصر تكثيف للوعي الجماعي و(جوهرته) بمنعه من التفاعل الهادئ مع الآخر، بحيث يتعمم التصور أن التفاعل يعني التهديد بالفناء ما دام شكل التفاعل الوحيد المتاح هو الحرب».
    لهذا من التعسف بمكان القول بأبدية الانقسام الطائفي في لبنان، وبناء عليه باستحالة إقامة دولة تتمثل فيها مصالح أكثرية مواطنيها، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والجهوية، على أن الانعزال عن حمى الهويات في التسعينات والانخراط فيها في النصف الثاني من العقد الأول للألفية الجديدة، يكشف ميزات في التركيبة اللبنانية التي ما زالت شديدة التأثر بمحيطها ووثيقة الارتباط (بقضاياه) سواء نحت هذه القضايا منحى المطالبة بحقوق قومية مضاعة، أو عبرت عن احتقان الهويات الجريحة والمهانة...
    وفي «مدخله الجديد» أخيراً يراهن حسام عيتاني على ذاك الشعور الذي يلامس حدود وعي ما «يمكن تسميته الوعي الوطني، ما فوق الطائفي والعشائري، والطريق الذي سلكه الوعي الوطني هذا، أي عبر الحروب والمذابح الطائفية، كانت ممرنا الإجباري للوصول إلى ضرب من ضروب الوعي الوطني، لا هو بالكامل الذي يهمل كل النوازع الطائفية والقبلية، ولا هو المطابق للوعي الوطني بصيغته الغربية، المتمثل في الانتماء إلى الدولة ـــــ الأمة انتماء يطغى على ما سبقه من مكونات الهوية».
    ذلك هو الرهان المستقبلي على الأقل الذي يدفع حسام عيتاني إلى استبعاد الزعم أن البيئة التي يتربى فيها طفلاه نديم ورايان تقبل بالتعدد وتتحلى بالانفتاح على نحو صحي أكثر من تلك التي نشأ هو فيها، حيث لا تني دلائل الاستقطاب الطائفي والمذهبي وعلاقاته تترى أمام أنظارنا، رغم شعوره بأن نوعاً أرقى من تلك التعددية الفطرية، إن جاز التعبير، والتي أحاطت بطفولته وأهله وجيله، تأخذ في التشكل في الجيل الذي يستقبل هذين الطفلين وأمثالهما من جيل اليوم بالطبع، ليقرر بعد شعوره ذاك أنه ليس معنى ذلك أنهما لن يعرفا للطائفية مدخلاً إلى حياتهما، بل لشعور أن وعياً ما، جانب منه نجم عن اضطرار إلى العيش مع (الآخر) وجانب ثان حضت عليه آلية تطور الكيان اللبناني ككيان نهائي ناجز الشرعية، آخذ في الارتسام.

  • * كاتب فلسطيني

    العنوان الأصلي
    هويات كثيرة وحيرة واحدة: سيرة لبنانية
    الكاتب: حسام عيتاني
    الناشر دار الساقي





    معمّر عطوي

    صعوبة التغيير في «الجمهورية الصعبة»

  • عـــرض تحليلـــيّ أم تصديـــر للثـــورة؟


  • يتحدّث المؤلف في ثمانية فصول عن النموذج الإسلامي الذي قدمته إيران وسط تجارب إسلامية لم يكتب لها النجاح في العالم العربي. وهو إذ يحاول أن يبقى على مسافة من هذه التجربة، إلا أنه يبدو أحياناً متعاطفاً معها إلى حد كبير، من دون أن يعالج هذه الظاهرة المعقدة برؤية نقدية استيعابية.
    في معرض حديثه عن دور الإصلاحيين في تغيير بنية النظام بعد فوزهم بالمجلس التشريعي في عام 2000، يشرح عتريسي تعقيدات الواقع الإيراني المرتبط عملياً ونظرياً بولاية الفقيه، كموقع ممسك للنظام الإسلامي من كل جوانبه... ما يعني في المحصلة صعوبة التغيير الجذري في هذا المجلس حتى إذا تمكن الإصلاحيون من إيصال الخبراء الستة غير الفقهاء إليه، لأن الرئاسة فيه تعود إلى أحد الفقهاء، لا إلى أحد الخبراء».
    ربما كانت إيران تتميز بعدد من المؤسسات الدستورية التي تظل إلى حد ما تؤدي دوراً في تجديد الدم السياسي، بين تيارات ثلاثة (إصلاحيون وتقليديون ومحافظون). لكن هذا التنوع على أهميته، يبقى قاصراً عن خلق نظام ديموقراطي عصري يتعاطى مع التيارات السياسية الأخرى غير الدينية، على غرار اليسار الذي شارك في ثورة الإمام الخميني ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي في عام 1979، لكن مكافأته من الثورة الإسلامية كانت السجون والمنافي. وهذا الأمر، كان غائباً كلياً عن الكتاب.
    لعل الرؤية هنا لا تكون مكتملة إذا ما اقتصرت معالجة الموضوع الإيراني على النظام الإسلامي ودور الفرس فيه من دون أن يكون للآذريين والعرب والأكراد والأرمن كلمة في اتخاذ القرار، بغض النظر عن وجود ممثلين لهم في البرلمان، كذلك اعتبار ولاية الفقيه ضمانة وحيدة لنظام يضم بين ظهرانيه السنة والمسيحيين واليهود وطوائف ومذاهب أخرى تكاد تكون مجهولة في كنف جمهورية الملالي.
    تناول الكتاب توضيحاً لماهية «النموذج الإسلامي» الإيراني، وتحدث ملياً عن الإصلاحيين ومحاولاتهم في تغيير أسس النظام من استخدام لمصطلحات حديثة على غرار (المجتمع المدني وحوار الحضارات والديموقراطية) مروراً برفض الشعارات الإيديولوجية (الموت لأميركا) وصولاً إلى مطالبتهم برفع القدسية عن المرشد الأعلى وتقليص صلاحياته مقابل تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية... إلخ.
    كما تناول اتجاهات المحافظين وتحدث عن المنظمات والأحزاب في إيران، من دون أن يشرح سبب عدم بروز هذه الأحزاب في لعبة المنافسة بدلاً من اقتصارها على تيّارين أساسيّين.
    وفي معرض حديثه عن العلاقات الأميركية الإيرانية، وصف الكاتب موقف إيران خلال الغزو الأميركي لأفغانستان ومن ثم العراق، بـ«الحياد الإيجابي»، في حين أن هذا الحياد في الواقع لم يكن إيجابياً، ولا سيما أن موقف طهران لم يقتصر على اتخاذ موقف المتفرج على هذا الغزو، بل ساعدت الولايات المتحدة في بعض المواقف سياسياً وميدانياً ودعمت بعض إفرازات هذا الاحتلال في تحالف الشمال في أفغانستان وبعض التيارات السياسية العراقية التي هي صنيعة الاحتلال، بهدف التخلص من عدو قومي هو صدام حسين وعدو مذهبي هو حركة طالبان، علماً بأن مثل «أكلت يوم أكل الثور الأبيض» ينطبق تماماً عليها في ظل وجودها في صلب الاستهداف الأميركي في المنطقة.
    الكتاب غني بمحاور أكثر أهمية مثل الملف النووي، وملف المخدرات الذي يشكل أحد أبرز المشاكل على الحدود مع أفغانستان، إضافة إلى محاور أخرى، بيد أن ثمة فصلاً يحمل عنوان «إيران في عين العرب» ركَّز فيه عتريسي على صورة إيران في الكتب المدرسية العربية، وهذا رغم ما يحمله من فائدة لا يخدم العنوان، لأن موضوع الكتاب هو إيران من الداخل وعلاقاتها بالخارج من دون الاستطراد إلى نظرة الخارج إلى الداخل.
    استطاع الكاتب أن يقدم للقارئ معلومات مهمة ونظرة تحليلية مفيدة، لكنها خلت من النقد لتصب في مصلحة الاستعراض الذي قد يمكن إدراجه في المشاركة ضمن إطار «تصدير الثورة».
    * من أسرة «الأخبار»

    العنوان الأصلي
    الجمهورية الصعبة: إيران في تحوّلاتها الداخليّة
    وسياساتها الإقليمية
    الكاتب: طلال عتريسي
    الناشر دار الساقي





    نظام مارديني

    كيف تبلور المجتمع المدني؟

  • النظريّـــة السياسيّـــة التـــي خذلتهـــا الشموليّـــة


  • يستعرض كتاب «المجتمع المدني من اليونان حتى القرن العشرين»، لأستاذ العلوم السياسية جون إرنبيرغ، أفكار الفلاسفة الذين عالجوا موضوع المجتمع المدني، والتبدّلات التي طرأت على صياغة هذا المفهوم منذ ألفين وخمسمئة عام من مسيرة الفكر السياسي الغربي، بدءاً من الأصول اليونانية الكلاسيكية، مروراً بالفكر القروسطي، وانتهاءً بالحداثة
    الحالية.
    ففي حين تلقى الفهم الكلاسيكي للمجتمع المدني صياغته المتماسكة الأولى في مدن اليونان القديمة، فإنه قدّم دفاعاً مكيناً عن فكرة أن السلطة السياسية هي التي جعلت قيام الحضارة أمراً ممكناً. وكان أفلاطون أوّل من عبّر عن توجّه النظرية السياسية نحو الحياة العامة الشاملة لأي مجتمع أخلاقي. وبذلك كشف بعض نقاط قوة مجتمع مدني منظم على أساس مشروع أخلاقي مشترك.
    ولما كان أفلاطون غير قادر على التنظير بشأن الفرد، والجمال، والخير، أو أي مقولة أخرى من مقولات الحياة الاجتماعية بمعزل عن الدولة، فإن فهمه للمجتمع المدني قد خذلته الشمولية نفسها التي جاءت به إلى الوجود.
    كانت مهمة النظرية السياسية، بالنسبة إلى أفلاطون، تتمثل في مواجهة مشكلتي الفساد والتحلل المتلازمين. وقد كان واثقاً من مصدرهما من خلال إثارته السؤال التالي: «أليس أخبث شراً بالنسبة إلى الدولة هو الشيء الذي يتولى تقطيعها إرباً ويدمر وحدتها، بينما لا يصلحها شيء أكثر من ذلك الذي يشد لحمتها ويرصّها في كل واحد»، وهنا يظهر أفلاطون أن الوحدة مهمة للروح مثلما هي مهمة
    للدولة...
    لا شيء أخطر على الوحدة العضوية التي ينشدها أفلاطون من الفوضى التي تولّدها مراكز ثقل مختلفة، تدور حول الاهتمام الأناني بالذات. والريبة في الأهواء الخاصة هي التي بلورت نظرية أفلاطون عن الرقابة. ففي كتابه محاورة الجمهورية، هاجم فنّ الرسم، وطرد الشعر لأنهما سايرا الانفعالات، وأغرقا الحقيقة في الذاتية، وقوّضا ملكة العقل الرشيدة. فسعيهما وراء الإشباع الفوري للّذة، جعل من المستحيل تبيّن الخير بسبب إثارة مخاوف المواطنين وانفعالاتهم وأحكامهم. ويمكن للقيادة القوية والفاعلة أن تقاوم قوة الشقاق النافرة، لأنها يمكن أن تجذّر المجتمع المدني في كلية أخلاقية معينة. وقد كان مرمى أفلاطون واضحاً دائماً: «في الوقت الحاضر، نحن نبني، كما نعتقد، الدولة التي ستكون سعيدة ككل، ولا نحاول أن نضمن رفاه قلّة
    مختارة»...
    كان لمثل هذا الاتجاه نتائج مؤسساتية مهمة. وكانت القيادة تُحفظ «لأولئك الذين عُرفوا، حين ننظر إلى السياق الإجمالي لحيواتهم، بالحماسة التامة لفعل ما يعتقدون بأنه لصالح الأمة، وأنهم لن يعملوا ضد مصلحتها». وإذا أمكن ترسيخ المعرفة الأخلاقية المطلقة عند ثلّة من الخبراء المدرّبين تدريباً عالياً، فإن الديموقراطية ستغدو مهلهلة لضعف مقدرتها ورخاوتها
    وفوضاها.
    * كاتب سوري

    العنوان الأصلي المجتمع المدني من اليونان حتى القرن 20
    الكاتب: جون إرنبيرغ
    الناشر معهد الدراسات الاستراتيجية