فؤاد خليل *
إنّ السجال حول الاستحقاق الرئاسي في لبنان، يعكس لدى الطبقة السياسية، بشقّيها الموالي والمعارض، وجود نموذج فكري وإيديولوجي، أقلّ ما يُقال فيه أنه بائس. ومردّ بؤسه، أنّه يكشف عن هزال قدرته على إخفاء الحقيقة، وعلى حجب ظهورها المادّي الصارخ، أو بمعنى آخر، إن من يأخذ أو يستهدي به، يقدّم أفكاره وآراءه وتصوّراته كحاشية زائفة مفضوحة المبنى والمعنى، أو عارية من كلّ صدق ويقين، لأنّها تعود إلى متن أو إلى واقع ليس لها.
في نطاق النموذج أعلاه، انتظم مجرى السجال وتنامت وتيرته الكلامية إلى قمّة مستواها، ثمّ انفتحت على كلّ فنون الأدب السياسي «الفريد لبنانياً». وهكذا، فإنّ فريق الموالاة أو الغالبية النيابية يطالب بإجراء الانتخابات الرئاسية بالنصف زائداً واحداً. وهو حين يفعل ذلك، لا يجد غضاضة في أن يبرّر فعلته «بالخشية من الفراغ الرئاسي وبالحرص على لبنان». إنّه بذلك، يطالب بخرق الدستور «من أجل المصلحة الوطنية العليا». وفي كنف تلك المصلحة، تبتئس الحقيقة وتهزل.
أمّا فريق المعارضة أو فريق الأقلية النيابية، فيدعو بدوره إلى انتخاب رئيس للجمهورية من خلال التوافق أو عن طريق الثلثين. وهو عندما يذهب إلى ذلك، لا يأخذه الحرج في أن يسوّغ حجّته بالتشديد على حقّ المشاركة في الحكم، «صوْناً للدستور وميثاق العيش المشترك»، وتالياً «بغية الحفاظ على مصلحة لبنان ووحدته الوطنية». وفي إطار تلك المصلحة والوحدة، لا يعود الواقع محتجباً، بل تظهر حقيقته واضحة دونما مشقة.
هذه هي باختصار عناوين السجال بين طرفي الطبقة السياسية. أمّا جوهره، أو نصّه الحقيقي، فإنه يكمن في موضع آخر لن يكون صعباً تلمّس ماهيّته أو طبيعته، ومن ثمّ تحديد أو رسم حاشيته الحقيقيّة.
إن المضمون الحقيقي للسجال، يتمثّل في وجود خيارين مختلفين حول موقع لبنان من الصراع الإقليمي في المنطقة.
فالموالاة تأخذ بخيار تحييد لبنان عن الصراع. والحياد يقترن لديها بالدعوة إلى حصر السلاح بالدولة، لكونها الجهة الشرعية الوحيدة المخوّلة امتلاكه وحقّ الدفاع عن الوطن، كما يقترن بمطلب العودة إلى اتفاقية الهدنة الموقّعة عام 1949. بتعبير آخر، إن تحييد لبنان عن الصراع يستتبع بالضرورة الالتزام بمهمّة محورية، هي نزع سلاح حزب الله، وإلّا فلن يكون هناك حسب منطقها لا حياد ولا دولة.
من هنا، يغدو مفهوماً الدعم الأميركي ودعم «عرب الاعتدال» لفريق السلطة في لبنان. ذلك أن واشنطن تريد قبل كل شيء، تنفيذ القرار 1559، وخاصة البند المتعلّق منه بنزع سلاح «الميليشيات»، أي نزع سلاح المقاومة، حرصاً على أمن إسرائيل، وذوداً عن تفوّقها الاستراتيجي على محيطها. وتخلّى «عرب الاعتدال» عن منطق الصراع مع إسرائيل، وشدّوا الرّحال إلى تسوية ما دون الحد الأدنى. وبذلك، كان من الطبيعي أن يحسبوا أنّ زمن المقاومات قد انقضى، وأن يعتبروا، في السرّ كما في العلن، أن أيّ مقاومة ضد العدو الصهيوني، تندرج في باب «المغامرة» أو «المراهقة الثوروية المتهوّرة»، ما يشكّل عبئاً غير مرغوب، «على اعتدالهم العقلاني الرشيد».
أمّا المعارضة عموماً، فتتبنّى خيار إبقاء لبنان في قلب الصراع. ويرتبط خيارها هذا، بالحفاظ على سلاح المقاومة والتمسّك به درءاً للعدوان الإسرائيلي ريثما تقوم دولة قادرة على الدفاع عن الوطن، وبانتظار تتحقيق التسوية الشاملة في المنطقة.
بمعنى آخر، فإن الخيار «الصراعي» تبعاً للصيغة المذكورة، يفترض بالضرورة ربط المقاومة بالقوى الإقليمية المناوئة للولايات المتّحدة وإسرائيل لتحسين شروط التسوية، أي ربطها بسوريا وإيران، وذلك إلى حين تقوم فيه الدولة القوية والعادلة في لبنان، وتحصل التسوية الإقليمية المنشودة. وعليه، يصبح مفهوماً الدعم الذي يتلقّاه فريق المعارضة والمقاومة خاصة، من سوريا وإيران، فسوريا تستفيد من المعارضة لتكريس قدر من النفوذ لها في لبنان، ومن المقاومة لتحسين شروط علاقتها مع أميركا. أمّا إيران، فتستفيد بدورها من الفريق نفسه لتدعيم نفوذها الإقليمي المتنامي بوتيرة قياسيّة في ظلّ غياب أي مشروع عربي سواء عند عرب «الممانعة»، أو عرب «الاعتدال»، يعيد للمنطقة توازنها الاستراتيجي المفقود.
هذا هو المضمون الحقيقي للسجال الذي احتجب تحت ظلاله النموذج الإيديولوجي للمتساجلين. وهو متن يملك أن يفصح أيضاً عن أنّ تحييد لبنان عن الصراع في المنطقة، يجعله حلقة في المشروع الأميركي، ويحوّله إلى ساحة بوّابتها أميركا وعرب الاعتدال. كما أنّ هذا الموقف الذي تتبنّاه قوى المعارضة، يؤدّي إلى إبقاء لبنان في الصراع المفتوح، ويجعله حلقة تابعة لقوى الممانعة، ويحوّله إلى ساحة مدخلها إيران وسوريا.
بناءً على ما تقدّم، يبدو أنّ السجال الرئاسي يجري بين معسكرين متصارعين حول موقع لبنان الإقليمي، أو بكلام آخر، فإنّ الطبقة السياسية أجادت كشف لبنان على الخارج وأدخلته في مأزق وطني قد يضعه في دائرة الخطر على مصيره الكياني.
أمّا الخلاصة الفعليّة والصادقة التي يمكن الخروج منها، فهي أنّه لا مستقبل للبنان الوطن، تحت قيادة هذه الطبقة السياسية، وأنّ أيّ رؤية تريد للبنان أن يكون وطناً حقيقياً تحتاج بالتأكيد إلى سجال من نوع
آخر.
* باحث واستاذ جامعي