إسلام أباد ــ أسعد أبو خليل *
إذا كان أنور عبد الملك قد وصف مصر في الستّينيات بأنّها «مجتمع عسكري» فيمكن القول إنّ باكستان هي مجتمع عسكري جداً. الوافد إلى باكستان يلحظ الطبيعة العسكرية للبلد في الطائرة قبل أن تطأ قدماك أرض البلاد، إذ إن التحذير من التصوير من الجو يصدر في المذياع بمجرد أن تبدأ الطائرة بالهبوط من العلو الشاهق نحو مطار إسلام أباد. والقوات العسكرية الباكستانية منتشرة في كل أنحاء العاصمة: تحت الأشجار، وعلى المفارق، وفي الأحياء، وعلى مدخل كل الفنادق. والإجراءات الأمنية حول المرافق العامة في إسلام أباد تفوق الاجراءات الأمنية في بيروت. وتلحظ ان المعدات العسكرية الباكستانية والسيارات والناقلات تبدو بدائية مقارنة مع ما هو في دول مجاورة. يشرحون لك ان الموازنة العسكرية الضخمة تُرصد في معظمها للأسلحة الباهظة الأثمان من صواريخ وغواصات لتسهيل تحميل السلاح النووي إذا ما دعت الحاجة.
وعلى الرغم من الصورة العسكرية السائدة للحكم، فإنّ الحاكم العسكري في إسلام أباد، يستعين ببعض المدنيّين لنشر صورة ملطفة عن حكمه. ورئيس وزراء باكستان، شوكت عزيز، لم يكن معروفاً هنا، ولا يعرف الباكستانيّون كيف هبط عليهم هذا المصرفي، وكيف استُحدث له منصب نيابي في انتخابات فرعية سافرة في تزويرها: كان مديراً في مصرف «سيتي بانك» في نيويورك قبل أن يهبط بالباراشوت على البلاد ـــــ هل هي الصدفة أن مصرفياً آخر يشغل منصب رئيس وزراء لبنان، بينما كان سلام فياض مديراً في البنك الدولي؟ طبعاً، الثلاثة معروفون بحبّهم للفقراء، بالاضافة الى تربيت جورج بوش شخصياً على كتفهم.
تعاملت باكستان في شهر تموز الحار مع مشكلة «لال مسجد» (المسجد الأحمر) في الوقت الذي كان فيه لبنان يتعامل مع مشكلة نهر البارد. كنا بحاجة إلى خبر سطو على مصرف في إسلام أباد لتكتمل الصورة. وأبدت الحكومة الأميركية أيّما حماسة في تأييدها للحكومتين، اللبنانية والباكستانية (حصلت باكستان على أكثر من 10 مليارات دولار من المساعدات العسكرية الأميركية منذ 11 أيلول)، وأمدت الجيش اللبناني والباكستاني بما يحتاج إليه من صواريخ وقذائف. لكن التوقيت (أي توقيت الجسر الجوي الأميركي) كان صدفة، كما شرح لنا وأقنعنا وزير الدفاع اللبناني (الذي هدد في عدوان تموز بتعليم اسرائيل درساً لن تنساه إذا ما دخلت القوات الاسرائيلية أرض لبنان، ثم اختفى عن الأنظار تاركاً للمقاومة مهمة الدفاع عن أرض الوطن). والخطاب الباكستاني عن مجموعة الجامع الأحمر تماثلت مع الخطاب اللبناني: «إرهابيون، يا أميركا. عليكم دعمنا». كنا ننتظر إهراقاً لدموع شوكت عزيز.
لكن حكاية ظاهرة المدارس الدينية في باكستان حكاية تتقاطع مع قصة الحركات الدينية المتطرفة في العالم العربي. القصة باتت معروفة: الحكم السعودي والحكومات الأميركية المتعاقبة تعاونا على دعم مجموعات أصولية متطرفة وتمويلها وتسليحها طوال الحرب الباردة، وذلك لتقويض نفوذ اليسار والقومية العربية. والحكم السعودي كان شريكاً في حكم ضياء الحق الذي فتح أبواب باكستان أمام المدارس الدينية التي نشرت أفكاراً وهابية كانت بعيدة كل البعد عن التراث الإسلامي في شبه القارة الهندية. ومؤسس باكستان الحديث، محمد علي جناح، كان واضحاً في شرحه لوضع الدين في دولة باكستان عندما توقع أن يأتي يوم لا يبقى فيه الهندوسيون هندوسيين والمسلمون مسلمين «وذلك ليس في المعنى الديني لأن هذا الأمر يبقى الإيمان الشخصي للفرد، بل بالمعنى السياسي كمواطنين في دولة واحدة». لكن الاجتياح السوفياتي لأفغانستان وبدء المشروع الاميركي ـــــ السعودي غيّر من كل المعادلات وتزامن مع الإلهام الديني لضياء الحق («نوبة الدين» كما سماها جمال عبد الناصر معلّقاً على سياسة الملك حسين الإسلامية في الستينيات). وتستطيع أن تتبيّن التأثير السعودي في إسلام أباد: من أسماء بعض الشوارع، إلى مسجد فيصل ذي التصميم المغلق خلافاً لتصميم المساجد التقليدي الرحب، الذي ينفتح نحو السماء، في بعدين في المكان (يشكو الباكستانيون من غياب المساعدات السعودية في السنوات الماضية).
الجنرال بوشرّف
يعتبر الجنرال مشرف جزءاً من سياسة بوش في المنطقة. وهو ذكر في مذكراته ان خياراته كانت محدودة، إذ إن نائب وزير الخارجية الاميركي، ريتشارد أرميتاج، نقل إليه بعد 11 أيلول تهديداً مباشراً بتدمير بلاده إذا لم تنصع باكستان للشروط الاميركية كاملة. والجنرال (الذي كان صديقاً لرفيق الحريري الذي أهداه سيارة مصفحة تقيه من صيبة العين، وصداقة الحريري مع مشرف لا تختلف عن صداقة السنيورة مع أبو مازن ـــــ حلفاء بوش يحب بعضهم بعضاً كما يحبون الحياة) حصل بالمقابل على تغطية كاملة لقمعه وخرقه حقوق الانسان، وهذا جزء أساسي من السياسة الخارجية الاميركية منذ الحرب العالمية الثانية، إذ إن الحكومة الاميركية لا تهتم بحقوق الانسان في بلد معين إلا إذا عارضت حكومة هذا البلد السياسة الاميركية، وهذا يفسر لماذا تبدي الولايات المتحدة قلقاً من مجرد إهانة معارض في هافانا، في الوقت الذي تتجاهل فيه قطع الرؤوس ورجم العشاق في السعودية.
والجنرال مشرف كان جزءاً من المؤسسة العسكرية ــــــ الاستخبارية التي دعمت الإسلام «المجاهد» في الحرب ضد الجيش السوفياتي في أفغانستان (ودعمت تلك المؤسسة حركة طالبان منذ ولادتها)، مثلما هو يحارب اليوم تلك التنظيمات التي شارك في دعمها في الماضي. وقد يذكّر هذا بأسلوب آل الحريري الكرام في لبنان، لكن العائلة معذورة فهي تسعى وراء «الحقيقة»، وهي كلمة ملطّفة للثأر ـــــ الهدف الحقيقي للعائلة.
وكما في لبنان والأردن، كذلك في باكستان. فالجنرال مشرف، أو «بوشرف» كما يسمونه هنا في باكستان، يرفع شعار «باكستان أولاً». ويُراد من الشعار فصل الهمّ الشعبي الباكستاني عن هموم عموم المسلمين والمسلمات، كما يُراد من رفع شعار «لبنان أولاً» أو «الأردن أولاً» فصل عرى العلاقة بين أهل البلدين وبين عامة العرب والمسلمين (والمسلمات). وهذه الشعارات «القطرية» ـــــ بلغة القومية العربية ـــــ المتزمتة تبدو منتشرة في الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة حيث تسيطر عقيدة بوش، وحيث تسعى شركة «ساتشي وساتشي» إلى مساندة الادارة الاميركية وآل الحريري في سياساتهم وحروبهم وفي فتنهم الطائفية والمذهبية. فهل هناك من علاقة بين هذه الشعارات، أم ذلك من باب الصدفة؟ إنها الصدفة طبعاً، إلا إذا كنتم من أدعياء نظرية المؤامرة. لكن منظري 14 آذار علمونا ان ليس هناك من مؤامرات في العالم باستثناء مؤامرة النظام السوري. أما ما عدا ذلك فيدخل في حيز عطف المجتمع الدولي، وهو شديد العدل والإنصاف والحنوّ.
تعاطف مع القضايا العربية
لكن جو الثقافة السياسية والشعبية في باكستان صعب الاختراق، وهو مشبع بعقيدة دينية (متأثرة بالوهابية في تزمتها لكنها معارضة للحكومة السعودية بسبب سياستها الخارجية وفساد عائلتها الحاكمة). والتعاطف مع «القاعدة» شامل في البلاد، وذلك من منطلق العداء لكل ما يتعلق بالسياسة الاميركية. والشعب الباكستاني شديد التعاطف مع الشعب الفلسطيني ـــــ لكن من منطلق ديني حتى لا نقول طائفي، ويؤكد المثقفون هنا أن باكستان لن تقيم علاقات مع اسرائيل، حتى لو فعلت ذلك كل الدول العربية. وكان الكونغرس الاميركي قد ضغط على مشرف كي يطبّع مع اسرائيل، إلا ان موقف الرأي العام، حتى الليبرالي منه، كان رادعاً. ويسألك طلاب الجامعات في باكستان عن محمد دحلان وعن هؤلاء العرب الذين يتعاملون مع اسرائيل. تنمّ أسئلتهم عن احتقار شديد لأبو مازن. لكن فهمهم الديني للمسألة الفلسطينية مزعج للقادم من العالم العربي. وقد فتح طالب فاه مندهشاً، عندما حدّثته عن تاريخ الوجود والنضال المسيحيّيْن في فلسطين.
ولا يبدو ان الحملة الاميركية ــــــ السعودية ــــــ الحريرية لإذكاء نار الفتنة بين السنّة والشيعة قد فعلت فعلها، إذ إن الجمهور الباكستاني يتعاطف بقوة مع حزب الله، ويسأل باهتمام عن حسن نصر الله (نأسف إذا كان هذا سيزعج وليد جنبلاط الذي يعاني هاجس شعبية نصر الله العربية والاسلامية). وفي محاضرة للكاتب في الجامعة الاسلامية العالمية في اسلام أباد، اعترض الملحق الثقافي الايراني على قولي (رداً على سؤال في هذا الخصوص من أحد الطلبة) إنه ليس هناك من مثال إسلامي أو عربي مُحتذى للحكم (باستثناء تلك التجربة الفذة في الحكم التي مثّلها أحمد فتفت ـــــ ما غيره ـــــ في وزارة الشباب والرياضة)، ورد بالقول ان الجمهورية الاسلامية في ايران هي هذا المثال، حسب قوله. فردّ الجمهور في القاعة على كلامه بالتصفيق، وخصوصاً عندما قارن بين سياسة بلاده وبين سياسة الدول العربية «المعتدلة» نحو قضية فلسطين. هذا لا ينفي وجود بذور طائفية في البلاد، وينعكس هذا التزمت الديني في قمع الأقلية الأحمدية.
وتسألك طالبة في الجامعة، وأمام حشد طالبي، عن سبب «العنصرية العربية ضد الشعب الباكستاني»؟ ماذا تقول عن هذا الموضوع؟ هل تكذب وتنفي وتدعي ان المجتمع العربي يتعامل مع الناس، كل الناس، على أساس انهم سواسية «كأسنان المشط»؟ كيف يمكنك ان تنفي شبه العبودية السارية في دول الخليج، حيث يحتل الباكستانيون والهنود أسفل سلم التراتبية الهرمية القائمة على أساس الطبقة والعرق والجنسية؟ ويشكو أهل باكستان من عنصرية عربية تصيبهم بمجرد هبوطهم في المطار. ففي مطار دبي تُعزل الطائرات الوافدة من باكستان، وكأنّ ركابها مصابون بالجذام. ومدينة دبي، التي لا تلقى إلا التعظيم في الصحافة العربية وحتى الغربية، ما هي إلا نموذج لمدينة تعتمد في بنائها وإدارتها وتسييرها على استغلال العمّال المستورَدين، كما أُعيد إعمار مدينة بيروت بسواعد العمال السوريين الفقراء (لا بسواعد الأثرياء). ولاستغلال العمال الباكستانيين والهنود في منطقة الخليج (حتى لا نتحدث عن استغلال الخادمات الآسيويات في بلد الأرز، إذ كان حرياً بمن كان يتحدث عن تحرير لبنان ان يحرر الخادمات في منازلهم ومنازلهن) بعد طبقي وبعد عنصري يتعلّق بعنصرية مبنية على أساس الجنسية والبشرة.
تحالف القمع والليبرالية
يبدو الحكم القمعي في باكستان، على غرار الحكم القمعي في العالم العربي، متحالفاً مع الليبرالية الباكستانية، إذ إن الليبراليين يزايدون على بوش في رغبتهم في القضاء على التيار الديني، المعتدل والمتطرف. وقد أصدرت التيارات المنضوية في إطار المجتمع المدني بياناً قاسياً طالبت فيه الحكومة بعدم الرحمة في التعامل مع تمرّد الجامع الأحمر (وأيّد بعض المجتمع المدني في لبنان دكّ مخيم نهر البارد). وتسود معادلة تحالف الليبرالية مع الحكم القمعي في أكثر من بلد، وهي تشير الى انفصام طبقي بين الخلفية الاجتماعية للمعنيين بجمعيات المجتمع المدني وبين الخلفية الاجتماعية للذين ينضوون إلى منظمات يعتبرها ياسر عبد ربه متخلفة ـــــ وهو كما هو معروف خبير في شؤون الحضارة والرقي. أليس هو من وقّع على اتفاقية جنيف التي تخلت حضارياً عن حق العودة وكرّست، حضارياً أيضاً، الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية؟
لكن يبدو ان الأنظمة القمعية وحلفاءها من رواد المجتمع المدني في واد وأكثرية الشعب في واد آخر. وقدرة الجنرال مشرف على الاستمرار في الحكم محفوفة بمخاطر لا تستطيع شحنات الأسلحة الأميركية أن تتجاوزها، كما ان شحنات الأسلحة الأميركية لم تحلّ أزمة السنيورة المتفاقمة. والرأي العام الباكستاني ينزع نحو التطرف ونحو كل من يرفع شعارات معادية بالمطلق لأميركا. وتبدو تطلعات الرأي العام الباكستاني واضحة في التأييد العارم للعمليات الانتحارية. وفي محاضرة في مؤسّسة الدراسات السياسية التابعة للجماعة الاسلامية (وهي غير الجماعة الاسلامية ــــــ فرع الحريري في لبنان)، اعترض الجمهور (المعتدل نسبياً بمقياس الحركات الاسلامية في باكستان) على نقد العمليات الانتحارية. فقد أصبحت تمثل بالنسبة إليهم رداً استفزازياً مناسباً للحروب الاميركية. وحين تشرح لهم ان مقاومة الاحتلال الاسرائيلي في لبنان لم تلجأ إلا لماماً للعمليات الانتحارية، لا يبدون مقتنعين (أو مقتنعات). وباكستان، كمصر، تبدو متهيّئة لليوم الذي سترث فيه الحركات الاسلامية السلطة، وهي لا تبدو مستعجلة، مثل حالة الاخوان في مصر.
أمّا الجنرال مشرف، فيبتاع الوقت، كما يقولون. يحاول ان يبقى في السلطة من دون أن يغضب ادارة بوش. وهو يعلم ان الهدف الاميركي يكمن في تنفيذ ما يُطلب منه، وان تنفيذه للمطالب يزيد من تأييد الادارة الاميركية لخروقات حقوق الإنسان في باكستان. أكثر من ذلك، فإنّ الادارة الاميركية تطالب مشرف بمزيد من القمع. لكن تنامي الغضب الشعبي على حكومة باكستان، بالاضافة الى الفساد المستشري، يهدد قدرة النظام على الاستمرار في موالاة الإدارة الأميركية التي تطالب بمزيد من التنازلات (لمصلحتها هي لا لمصلحة الشعب الباكستاني)، وهي تقوم بالاتصال ببنازير بوتو، وذلك للضغط على نظام مشرف. وتحاول بوتو اليوم الظهور بمظهر الليبرالية المنفتحة مع أنّ جهاز الاستخبارات القوي، ما يسمى بـ«استخبارات ما بين الأجهزة»، أي.إس.آي.، تبنّى حركة الطالبان أثناء حكم بوتو التي لم تردع الاتجاهات المتطرفة لجهاز الاستخبارات (وهو غير جهاز المعلومات في لبنان). لكن لمَ العجب؟ حتى الحكم السعودي وأبواقه اللبنانية في الإعلام العربي يدّعون الليبرالية والانفتاح اليوم، وكل ذلك من أجل إسعاد بوش. لكن لم يبق من سنوات بوش العجاف إلا سنة أو أكثر بقليل، أو حتى أقل بكثير لأنّ السنة الأخيرة من حكم الولاية الثانية تُحسب ضد الرئيس لا له.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
موقعه على الإنترنت: (angryarab.blogspot.com)
(