أسعد أبو خليل *
يخطئ من يظنّ أنّ الليبراليّة العربيّة هي ظاهرة حديثة أو جديدة، أو أنّها سمة (فقط) من سمات الصعود الثاني للحقبة السعودية التي تلت حرب الخليج الثانية وسقوط الإمبراطورية السوفياتية. وكان الرهان على انتصار الامبراطورية الأميركية رهاناً مشتركاً بين اليمين الغربي واليمين العربي المتمثّل بالحكم السعودي (ما يسمّى اليوم بمعسكر «الاعتدال»). ويمكن تأريخياً التمييز بين الطَوْر الأوّل من الليبرالية العربية والطَوْر الثاني في سيرة الحركة المذكورة.
فالظهور الأوّل للّيبرالية العربية تلا سقوط الإمبراطورية العثمانية في أوائل القرن العشرين. وكانت أفكار الليبرالية العربية عفوية إلى حدّ ما، بمعنى أنّها عبّرت حقاً عن تطلّعات جيل من الكتّاب العرب الذين تأثّروا بالكتابات (والفرضيات) الغربية المتأثرة بالكتابات الاستشراقية (المتمثلة في مدارس الإرساليات وكلياتها) بصورة خاصة، وبالمصالح الاستعمارية بصورة عامة. اعتنق هؤلاء بصورة ببغائية الأفكار السائدة في أوساط الاستشراق التقليدي حول العرب والإسلام. وأرادوا للعالم العربي (أو لبلدانهم، إذ إنّهم في معظمهم عادوا الفكرة القومية ـــــ وهم يحترمونها في تجلياتها الغربية وينبذونها بين العرب فقط) أن لا يقلّد نموذج الحكم الغربي (لأنّ هناك أكثر من نموذج)، بل نموذج اليمين الغربي في الحكم، حتى في استعمارهم للعرب.
طه حسين والبدايات
وظهرت بذور الليبرالية (الاستعمارية) في كتابات بعض «المصلحين» العرب في القرن التاسع عشر، الذين تعلّموا على يد مدارس إرساليات مشبعة بالفكر الاستعماري والاستشراقي (وهما صنوان إلا عند قلّة منهم مثل مكسيم رودنسون وغيره). ويمكن اعتبار كتاب طه حسين، «مستقبل الثقافة في مصر» (1938)، الدليل الفكري الموَجّه لليبرالية العربية الحديثة، وهي تعتمد على:
1) رفض النموذج المُلطّف للرأسمالية الغربية، والأخذ بنموذج الرأسمالية المتوحشة المتفلتة من الضوابط (التي مثّلها خير تمثيل في لبنان المعاصر فريق رفيق الحريري ــــــ فؤاد السنيورة، وإن كان الثنائي يعاني هياماً بسلالات غير ليبرالية). فطه حسين مثلاً رفض أن يشمل دور الدولة توفير قوت الشعب (الذي هو مصدر فخر للدولة الفرنسية بعد الثورة)، فهذا أمر بعيد عن الديموقراطية بنظر طه حسين. وهذا يشير إلى كون الليبرالية العربية ـــــ حتى في طورها الأوّل ـــــ أكثر يمينية وتطرّفاً في نسقها المستورد من النموذج الغربي المُقلد. فآدم سميث، منظّر الرأسمالية، أفتى في كتابه «ثروة الأمم» بجواز أداء الدولة دوراً في الاقتصاد في مجالين اثنين: توفير التعليم الرسمي العام، وتوزيع القوت على الناس لمنع المجاعة، أي أنّ عمل «اليد الخفية» في السوق ليس مطلقاً بالنسبة إليه (لكنّه مطلق تماماً بالنسبة إلى فريق السنيورة الذي يعمل على «تحرير الرغيف»، تماماً كما يعمل السنيورة وبجهد على تحرير لواء الإسكندرون بعد أن تسنى له تحرير مزارع شبعا بالوسائل الحضارية).
وكان طه حسين واضحاً في تعبيراته ومصطلحاته واستعاراته. فاعتمد من دون تردّد أو تحفّظ على مصطلح «العقل المصري» («العقل الشرقي» كان متخلّفاً بنظره) قبل عقود من صدور كتاب «العقل العربي» المُهين (على المستوى العلمي والإنساني) لرفائيل باتاي، الذي يعتمد على التعميمات النمطية، والذي ـــــ على الرغم من ابتعاده عن معايير علم الاجتماع في الغرب ـــــ تحوّل إلى «إنجيل المحافظين الجدد»، كما ذكر سيمور هيرش (وهو عضو فاعل في منظمة حزب البعث في لبنان كما نقرأ في صحافة 14 آذار) في مقالة في مجلة «نيويوركر».
ولم يكن طه حسين راضياً عن الاستعمار، لأنّه لم يدمج البلدان المُستعمَرة في حضارة الغرب بما فيه الكفاية. فهو يقول في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» ما يلي: «نريد أن نتّصل بأوروبا اتّصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم حتى نصبح جزءاً منها لفظاً ومعنىً وحقيقةً وشكلاً» (ص 34). لا يحتمل هذا الكلام أي تأويل. لكن حظوظ الليبرالية العربية كانت متعثرة: فهي تساهلت في المسألة الوطنية وارتبطت أيّما ارتباط بالحكم الأجنبي، ونزوعها نحو الرأسمالية غير المُقيّدة أبعدها عن هموم معظم الناس (والناس رعاع بنظر النخبة البورجوازية التي تحتقر من لا يحسن النطق بلغات أجنبية). وكان التخلّص من الاستعمار الاسمي ـــــ الرسمي، بالإضافة إلى صعود القومية العربية وحركات اليسار التي أثرَت حركة المقاومة الفلسطينية، قد قضى على إمكان تشكيل سياسي تنظيمي لليبرالية العربية. أما في ذات اليمين، فلم تكن الحركة الدينية المتزمّتة التي كانت مدعومة من التحالف الشخبوطي المُثقل بهمّ الناصريّة واليسار آنذاك (إبان ما سمّاه مالكولم كير «الحرب العربية الباردة» في كتاب يحمل الاسم نفسه) لتسمح ببروز ما يمكن أن يزعج الركن «السلفي» المنضوي في جسم حكم سلاطين النفط.
أما الطور الثاني لصعود الليبرالية العربية فجاء بعد حرب العراق في 1991، عندما استولى الحكم السعودي على كل وسائل الإعلام العربية (قبل ظهور قلّة من وسائل الإعلام المدعومة قطريّاً في النصف الثاني من التسعينيات). وللّيبرالية نظرياً أحد معنيين: الليبرالية الكلاسيكية التي كانت أقرب إلى فكر «التحريرية» الذي يقول بتقلّص أو غياب دور الدولة في الاقتصاد وفي الحيّز الخاص. أمّا المعنى الثاني للّيبرالية الذي ظهر في الولايات المتحدة في عهد فرانكلين روزفلت، فشدّد على دور الدولة في إنهاض الفقراء والطبقة الوسطية من دون أن يقضي على الفكرة الأساسية للرأسمالية، ومن دون أن تحدّ الدولة من الحريات الخاصة.
أما ما جاءنا في العالم العربي من فكر ليبرالي، فكان شيئاً مختلفاً تماماً: فلا هو قريب من المفهوم الكلاسيكي لليبرالية، ولا هو قريب من المفهوم المُستحدَث الذي اقتضته أزمة الرأسمالية الحادة في أوائل القرن العشرين. ولم يكن هذا الصعود للّيبرالية العربية التي هي يمين غير معدل في توجهاته وأهدافه وفي تمويله (قل لي من يموّل أقل لك من هو)، بريئاً أو عفوياً. ومن الواضح في استطلاعات الرأي العام في العالم العربي وفي نتائج الانتخابات، حين يُسمح بها طبعاً، أنّ الفكر الليبرالي وتوجّهاته ليسا سائدين بين الناس.
ستيوارت ميل في خدمة أمراء النفط
وجهاز الدعاية السعودي الهائل، الذي يسيطر على جلّ وسائل الإعلام ودور النشر ومراكز الأبحاث على ضحالتها في العالم العربي، استعان كعادته بمجموعة من اللبنانيّين المتلوّنين (ولبعض الأقلام في لبنان باع طويل في الانتقال من الناصرية الى السعودية ثم الى الصدامية ثم العودة الظافرة الى الوهابية المجيدة المتصالحة، تمويلاً، مع الليبرالية العربية في تجلياتها المتعددة)، وذلك لبثّ فكر معادٍ للفكر الذي أنتج فكر «القاعدة» (مع أنّ عدداً لا بأس به من الليبراليين (أو المحافظين) العرب الجدد أتوا من خلفيات بن لادنية، مثل تركي الدخيل وجمال خاشقجي وغيرهما الكثيرين، مثلما انتقل شيوعيون لبنانيون ـــــ من تلامذة محسن إبراهيم ـــــ من الماركسية الى الحريرية).
وتستطيع العائلة السعودية الحاكمة أن تلجأ الى أسلوب ملتوٍ يخوّلها أن تموّل في آن واحد الفكر اليميني الليبرالي (كما سمّاه مرّة جبران تويني من دون طول تفكير) والفكر الديني المتزمّت. ووسائل إعلام آل سعود تجمع بين ثقافة أليسا وفيفي عبده وبين ثقافة شيوخ الوهابية (كما يجمع فريق الحريري في لبنان بين ثقافة غزاة الأشرفية وبين ثقافة سوبر ستار، والثقافتان لا تتعارضان مع ثقافة حب الحياة التي تفنّن في إتقانها وليد جنبلاط. وأمّا تاريخ ميليشياه في القتل الطائفي بالفؤوس، فيُمكن أن يُفسَّر في باب «ومن الحبّ ما قتل»... بالفؤوس). وتجمع وسائل الإعلام هذه بين ابن باز ومن ورثه من المتعصبين المعادين للتنوير (يجب أن يصبح كتاب ابن باز في حكم التصوير جزءاً من المنهج المقرر لكل الدول العربية على الأقل من باب التفكّه) وتوماس فريدمان: واحد يتوجّه للجمهور الداخلي وآخر يثبت حسن السلوك السعودي أمام الحكم الأميركي.
ويبرز تناقض واضح في كتابات الليبراليين العرب: فهم من ناحية يدّعون اعتناقاً لفكر جون ستيوارت ميل و«لسوق الأفكار الحرة»، ومن ناحية ثانية يروّجون وبصورة سوقية في كثير من الأحيان لمصالح السلالات النفطية الحاكمة في الخليج. ويؤمن رواد هذا الفكر بالدعوة الى الديموقراطية والى حرية الصحافة في بلدين في الشرق الأوسط فقط: إيران وسوريا، لأنّ باقي الأنظمة أنشأت دولاً فاضلة تنعم بحرية فكرية مطلقة (ويُلاحظ المرء أنّ الإعلام العربي الليبرالي اكتشف جوراً في الحكم الليبي بمجرد أن استحكم الخلاف بين النظامين السعودي والليبي).
وتناصر الليبرالية العربية لفظاً الفكر الليبرالي، إلا إذا تعلّق الأمر بفضائل أمراء النفط. ولهذا، فإنّ الليبرالي العربي شاكر النابلسي وضع كتاباً في «أدب» الأمير خالد الفيصل، وفي حكمته. أما الوحيد بين الليبراليين العرب الذي لم يفهم اللعبة وأصولها فهو العفيف الأخضر (فتحاوي سابق قبل أن يؤدي دوراً في إنشاء مدرسة كادر للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين وقبل أن يكتشف الماركسية غير اللينينية وقبل أن يكتشف ما سماه المجالسية (ذات المنحى اللاسلطوي المبهم) وقبل أن يكتشف الليبرالية التطبيعية). فالأخضر ظنّ أنّ وسائل الإعلام السعودية التي فتحت صفحاتها له تسمح بتعدد الآراء، لكنّه فُصل من جريدة «الحياة» بعدما انتقد الـ(لا)عدالة الوهابية في قناة الجزيرة.
ولا يفكّ لنا الليبراليون العرب طلسم الأحجية: كيف يزعمون الليبرالية والديموقراطية، وكيف يروّجون للحكومات الشخبوطية التكوين والمنشأ؟ وحده حازم صاغية ــــ وقد يكون الأكفأ بين جوقة الليبراليين العرب في التعبير والفعالية ـــــ أجاب عن التساؤلات التي لم تفت ذهنه الوقّاد. كتب قبل أسابيع أنّ فساد وأخطاء (أخطاء فقط، مثلما يتكلم وليد جنبلاط أو أياد علاوي عن «أخطاء الولايات المتحدة في العراق»، فالكلمة هي حدود المسموح به في التعبير لمن يشكل جزءاً من المنظومة السياسية الأميركية في المنطقة العربية) الحكومات العربية صحيحان، لكن الخيار الآخر هو «القاعدة». لم يكلّف صاغية نفسه عناء التوسّع. قال كلمته من باب رفع العتب. لكنّه لو أراد التوسّع لسألناه: ولماذا لا تنطبق المعادلة على أخصام النظام السعودي؟ أي، لماذا لا تنطبق معادلة التحالف مع الأنظمة القمعية على خصوم آل سعود مع أنّهم كلّهم في القمع سواء؟ ولماذا يصحّ التغاضي عن حكومات القمع في بعض الحالات لا كلها، إذ إن الليبراليين العرب هم مع الأزلية في حكم آل سعود ومع قلب النظام في سوريا، مع أن الانسجام الفكري يفرض ان يؤيدوا قلب كل الأنظمة القمعية؟ (وحازم صاغية صاحب نظرية مفادها ان المقاومة تؤدي الى البربرية والتخلّف، إلا أنه لم يشرح لنا أسباب التخلف والظلامية في السعودية حيث انعدمت المقاومة).
لكن السؤال الثاني المطروح أمام حازم صاغية فيُطرح من قبيل الاعتراض على هذا الاختزال العشوائي للرأي العام العربي (حتى لا نقول «الشارع العربي» كما تفضّل وسائل الإعلام هنا): هل هذه هي بالفعل الخيارات المتاحة أمام الرأي العام العربي؟ إمّا آل سعود (أو مبارك أو الأسد... إلخ) وإمّا بن لادن؟ هل هذا معقول؟ ولماذا لا يناضل الليبراليون العرب إذاً من أجل تشكيل خط ثالث لا صلة له بآفات الخط الأول أو الثاني؟ طبعاً، يكمن الجواب في الدور المرسوم لليبرالية العربية من حيث توجيهه رسائل سياسية مباشرة لواشنطن. وليس من الصدفة أن جريدتي الشرق الأوسط (التابعة للأمير سلمان) والحياة (التابعة للأمير خالد بن سلطان) أنشأتا مواقع بالإنكليزية لترجمة ما يُكتب ـــــ أو ما يُنتقى مما يُكتب ـــــ في الجريدة في باب إسعاد بوش، مع بعض الانتقادات الملطفة التي تصور في مقالات جهاد الخازن بوش سجيناً رغماً عنه لثلة من المحافظين الجدد (وهذا التحليل الذي يركز على المحافظين الجدد يبسّط أيّما تبسيط عملية صنع القرار في البلاد هنا). وتدخل كتابات الليبراليين العرب في باب قول ما تريد واشنطن سماعه، مع توفير عناء الترجمة على من هو مُولج بشؤون الإعلام العربي في الحكومة الأميركية.
وتعتمد سياسة تشجيع هذا النسق من اليمينية المتدثرة برداء الليبرالية على أكثر من رشة من النفاق: فهناك كلام على فصل الدين عن الدولة وعلى حرية المرأة، وهناك قسط لا بأس به من السخرية من أنظمة تناوئ السعودية، في الوقت الذي تستميت فيه هذه الوسائل الإعلامية في الدفاع عن حكم سلالات النفط. وتنكشف اللعبة بلا مواربة في تأبين هذا الشيخ أو ذاك الأمير: عندها يتبارى الليبراليون العرب في تعداد مزايا وفضائل المتعدّد الزوجات والمساجين السياسيين، ليعودوا في اليوم التالي إلى الحديث عن الديموقراطية وعن حرية المرأة، ولا من يلاحظ ولا من يلاحظون.
لكن الليبرالية العربية تقوم بدور سياسي مباشر (مثل تقريظ شاكر النابلسي البريء عن الهوى في شعر الأمير خالد الفيصل) وغير مباشر في الدفاع عن مصالح الأنظمة العربية (ويتوزّع الليبراليون العرب في ولائهم على عدد من سلالات الخليج، فمنهم من يتخصّص في مديح آل صباح وآخر في آل نهيان والكثرة في مديح آل سعود)، لكن العرض يفوق الطلب بكثير هنا، وخصوصاً في ظلّ وجود الأقلام اللبنانية المتأهّبة دوماً ـــــ كم أسالت حبراً في مديح صدّام ثم انقلبت عليه بعدما توقّف عن الدفع.
ما بعد 11 أيلول
لكن أحداث 11 أيلول زادت من حاجة أجهزة الدعاية السعودية الى أقلام الليبرالية العربية. فقد ظهرت حاجة ماسة لتسخير أقلام من أجل دحض كتابات السلفية المتطرفة، التي كانت لسنتين خلتا ـــــ أو أقلّ لا ندري، فلنسأل آل الحريري الكرام ـــــ مدعومة من الجهات السعودية نفسها، وخصوصاً أنّ التنظيمات السلفيّة العنفيّة انقلبت على راعيها. والسبب الثاني يعود الى إصرار الحكم السعودي على إرضاء الولايات المتحدة (حكومةً وإعلاماً ورأياً عاماً) بعد 11 أيلول. فالهلع الذي أصاب الدبلوماسية السعودية، وخصوصاً بعد تنامي الأصوات المندّدة بالتحالف الأميركي ـــــ السعودي في أميركا، بالإضافة إلى أخذ كلام بوش على الديموقراطية على محمل الجد (طبعاً، عادت السعودية واطمأنّت إلى عدم جدية الدعوات الأميركية الى الحرية في العالم العربي، وخصوصاً بعد تدفّق سيل الأسلحة والزيارات الأميركية للمملكة)، ووجدت العائلة الحاكمة نفسها في موقع الدفاع عن النفس وأخرجت مسرحيات الإصلاح عبر انتخابات بلدية في المملكة لا حول ولا قوة ولا صلاحية لها.
لكن الدعاية السعودية دخلت في إطار اتفاقية (معلنةً كانت أو مضمرةً) بين الحكومة الأميركية والحكومة السعودية: إذ إن الحكومة الأميركية أصيبت بهاجس الدعاية المتوجهة للرأي العام العربي والإسلامي. لكن الملايين التي أُنفقت في تلفزيون الحرّة وإذاعة سوا لم تينع ثمارها ولم تُزهر. فكان أن سخّرت السعودية كل وسائل إعلامها لخدمة الدعاية الأميركية وأهداف حروب بوش المستمرة. ولم يكن صدفة أنّ الإدارة الأميركية أقامت مركز دعاية متخصّصاً في دبي، مقر تلفزيون العربية الذي خلف بصورة غير رسمية تلفزيون الحرة بعد اندثاره. وتسخير وسائل الإعلام العربية (السعودية التمويل) من أجل وسائل الدعاية الأميركية يحتّم وجود الليبراليين العرب لتجنب الإحراج أو الخطل. وهؤلاء، تقتضي الأمانة القول، يعرفون حدودهم ويحترمون مقاييس الراعي. فهم يطبقون معايير الليبراليّة (اللفظية) على تلك الدول التي تختلف مع المشيئة الأميركية ـــــ السعودية فقط.
مرّت الحياة الفكرية والسياسية في العالم العربي بمراحل مختلفة، وارتبطت كل تلك المراحل بتأثير الصهيونية وتحدياتها على العالم العربي. واليوم، تعتمد الإمبراطورية الأميركية على أصوات تدّعي الليبرالية، وهي في الواقع وفي العلن أصوات يمينية متحالفة مع الأنظمة الطاغية في المنطقة، ومع عتاة اليمين في الغرب (وهؤلاء البرلمانيون الذين يشرّفون وطن الأرز والكستناء بزيارات دورية غالباً ما يأتون من أحزاب اليمين العنصري، لكن اللبناني ضعيف أمام الرجل الأبيض). وهي تؤمن بورع شديد بوصفات البنك الدولي. والمؤسف أن أزمة اليسار العربي، وخصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة وبدء حروب بوش الساخنة، أرفدت فكر اليسار في مجرى الليبرالية العربية، وبعضها عن غير قصد. وما بقي من الحركة الشيوعية العربية ينزع نحو الليبرالية نتيجة الارتباك الفكري الذي اعترى صفوفها. لكنّ هذا النزوع يخدم روافد اليمين في الحياة السياسية العربية. والطور الثاني من حركة اليمين الليبرالي لن يُكتب له النجاح لأنّه لا يعبّر عن حركة شعبية حقيقية، وإنّما هو تعبير عن حاجة ظرفية آنية عندما تنتفي الحاجة إليه، ينتهي الأمر به كما انتهى الأمر بتلك الحركات السلفية العنفية التي نُصّبت ولسنوات من قبل سلالات النفط لمواجهة المدّ القومي واليساري، قبل أن ينقلب العنف على العنيف المُعَنف.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com )