فنسان الغريّب *
في كتابه الرائد المعنون «عولمة العالم» (La Globalisation du Monde)، يقول جاك جيلينا إن السياسيين ذوي المناصب العليا (كرؤساء الحكومات ووزراء المال)، يشكّلون فئة مهمّة في زمن العولمة، إذ يعمدون إلى إدارة بلدانهم بما يتوافق مع رغبات أسياد العالم الجدد. ومن خلال تحالفهم الموضوعي مع الأوليغارشية المعولمة، يصبح سياسيّونا بعيدين كلّ البعد من أن يكونوا «ضحايا أبرياء» للعولمة، بل، على العكس من ذلك، هم خدّام مخلصون لها لناحية تسليمهم اقتصادات بلدانهم بشكل طوعي للقوى التي من المفترض أن يراقبوا عملها، لا أن يخضعوا لها. إن هذا الأمر لا يحصل فقط في بلدان العالم الثالث، حيث الأنظمة الديكتاتوريّة وفي البلدان التي ينخر جسمها الفساد، بل أيضاً في الديموقراطيات العريقة في أوروبا وأميركا.
إن هؤلاء الحكّام يعلنون استسلامهم من خلال الاتفاقات التي يعقدونها والقوانين التي يقرّونها والتي تُلغى من خلالها الحواجز التي تعوق تركيز الثروة والسلطة في أيدي سادة العالم. فمنذ تحرير العملات في سبعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى التنازلات التي فرضتها منظمة التجارة العالمية (OMC) على بلدان الجنوب، مروراً باتفاقيتي التجارة الحرّة لأميركا الشمالية (ALENA) وماستريخت (Maastricht)، أوجد السياسيّون وضعية أصبح من غير الممكن السيطرة عليها. وتحت قيادتهم تقف الدولة في مواجهة شعبها مع فرضهم خفض القدرة الشرائية للأجراء، تقليص تقديمات الضمان الاجتماعي، خصخصة القطاع الصحّي، تليين التشريعات البيئيّة وبيع الأملاك العامّة بأسعار بخسة. وتقوم نظرة الشركات العابرة للقوميات إلى هؤلاء الحكّام على اعتبارهم مجرّد خاضعين لها ومكلّفين ببيع بلدانهم بالمزاد العلني.
إن أبرز مثالين عن خضوع القادة لسادة الاقتصاد المعولم هما برأي جيلينا: مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية عام 1979، ورونالد ريغان، الرئيس الأميركي عام 1981. في تلك الفترة، شكّل هذان البلدان مركز الثقل الأساسي ونقطة الانطلاق لـ75% من الشركات المتعدّدة الجنسيات والعابرة للقوميّات في العالم. إن الثنائي تاتشر ـــــ ريغان قد علّم حكّام العالم أجمع معنى المصطلحين الجديدين: الخصخصة (Privatisation) وتفكيك القيود المنظّمة (Deregulation). ولاستكمال هدفهما في تجريد الدولة من مهماتها، عمدا الى تقليص الإنفاق العام بدءاً بقطاعات الصحّة والتعليم والسكن والبيئة. أي باختصار، قُلّص حجم الدولة. ومن المعروف أن السيّدة تاتشر، وأمام وجوب اختيار حكومتها ما بين تحقيق مصلحة مواطنيها والخضوع لأوامر الشركات، كان جوابها الدائم: «لا يوجد لدينا أي بديل آخر».
واللافت في الأمر أن ثورة تاتشر ــــــ ريغان المضادّة قد انتشرت سريعاً داخل الأوساط السياسية في العالم أجمع. ففي العالم الثالث، تواطأت الطبقة السياسية، الناشئة بفعل سرقتها للأموال العامة المخصّصة للتنمية، بشكل فاضح مع مقتضيات تلك الثورة. ومع وصول الدين العام الى مستويات غير مسبوقة، بدعم وتشجيع من المصارف والمؤسسات المالية الدوليّة، قبلت حكومات الجنوب، الواحدة تلو الأخرى، شروط صندوق النقد الدولي (FMI)، أو ما يطلق عليه تلطيفاً تسمية «التصحيح الهيكلي» (Ajustement Structurel)، المتمثّلة بربط الاقتصادات غير المتطوّرة بمتطلّبات السوق المعولمة. لا يزال نموذج تاتشر معمولاً به الى اليوم في العالم الثالث، لناحية خصخصة مؤسسات القطاع العام وبيعها بأسعار زهيدة بالمزاد العلني، حيث لا يحصل الجمهور في نهاية المطاف على الأسهم بل تستحوذ عليها الشركات العابرة للقوميات.
يطرح جيلينا سؤالاً مهمّاً هو التالي: ما الذي يدفع السياسيّين الى أن يكونوا، بإرادتهم، خدّاماً أوفياء ومخلصين للعولمة؟ إن السلطة والجاه يعنيان لهؤلاء الكثير، حيث أصبح رؤساء الحكومات ووزراء المال نجوماً تلفزيونيين. وبالنسبة إليهم، لا يشكّل العمل السياسيّ سوى وسيلة للقفز والانتقال الى وظائف أكثر ربحيّة. إن لمن الصعب اليوم إيجاد رئيس حكومة يحكم بهدف تحقيق المصلحة العامة ويمتلك رؤية مستقبليّة. إنه عصر السياسيّين الذين لا يرون ولا يستوعبون المشكلات الاجتماعية والبيئية الكبرى المتراكمة بفعل النموّ غير المتناهي. وبصفتهم أتباعاً أوفياء ومن دون شروط للعولمة، نراهم يخضعون لأوامر صندوق النقد الذي لا يترك مناسبة إلاّ ويذكّر بأن تطوّر الاقتصاد العالمي يؤدّي الى تحوّل جذري وعميق في دور السلطات العامّة والسوق في سياق العولمة الاقتصادية. أما في ما يخصّ دور رؤساء الحكومات، فيلخّصها الصندوق على النحو التالي: على هؤلاء أن يتركوا المجال حرّاً أمام المبادرة الفرديّة، وأكثر من ذلك، عليهم أن يدعموها ويتعهّدوا بعدم إعاقتها.
هل ينطبق هذا الأمر على حكومتنا؟ إجابتنا هي بالإيجاب، مع خضوع هذه الأخيرة لأوامر المؤسسات المالية الدوليّة ومتطلّباتها وشروطها، وسعيها الدؤوب لبيع مؤسسات القطاع العام بأسعار بخسة وفي المزادات العلنيّة للشركات العابرة للقوميّات، مع عدم الأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعب اللبناني الذي عاني ويعاني النهج الاقتصادي المتّبع منذ سنوات، والذي يعمل بحسب نموذج تاتشر ـــــ ريغان لناحية خصخصة مؤسسات القطاع العام وتفكيك القيود المنظّمة وضرب النقابات. إن الفريق الحاكم اليوم في لبنان يعمل بإخلاص ويطيع أوامر سادة العالم الجدد رابطاً الاقتصاد اللبناني بشكل متهوّر وخطير بالاقتصاد المعولم وشركاته الأميركية التي تدير بدورها الآلة العسكرية الأميركية بما يتوافق مع مصالحها وعلى حساب شعوب بلدان الجنوب، مع سعيها لتركيع الأنظمة الممانعة والرافضة لتمدّد مصالح النخب الأميركية الحاكمة.
* باحث لبناني