الأمين ولد أباه *
قد يستغرب القارئ من خارج موريتانيا، الحديث عن «ظاهرة العبودية» التي تستجلب الأضواء من حين لآخر، ويمثل الحديث عن القضاء عليها على المستوى الوطني أحد أهم عناصر الخطاب السياسي لأي حزب أو فاعل سياسي.
إلا أنه يجب التنبيه بداية إلى ثلاثة أمور:
ـــــ إنّ العبودية ممارسةً مقننةً لم يعد لها وجود في موريتانيا منذ استقلالها سنة 1960. فقد كان الدستور الأول للجمهورية صريحاً في اعتماد مبدأ المساواة التامة بين المواطنين من دون أية فوارق عرقية أو اجتماعية. وما بقي من الممارسات والمخلفات بقي خارجاً عن القانون، وإن لم يُردَع أو يُتَصدَّى له بصفة حازمة، وبقي تعاطي الأنظمة المتعاقبة معه سياسياً أكثر منه قانونياً.
ـــــ الأمر الثاني أن ممارسة الرق في موريتانيا لم تكن يوماً من الأيام ظاهرة خاصة بالمكونة ذات الثقافة العربية، لكنها وجدت بالحجم نفسه في مكونات الأقلية الإفريقية الزنجية، وربما اتخذت أشكال وجودها طابعاً أكثر عمقاً مثل المعروف في المجتمع السونينكي من تفريق بين العبد وسيده، حتى على مستوى المقابر.
ـــــ الأمر الثالث هو أن ضحايا الممارسات الاسترقاقية وآثارها لا يشكلون قومية أو مجموعة ذات هوية خاصة، وليست هناك خصائص ثقافية تميزهم عن الفئة التي ينتمون إليها (عرب أو زنوج أفارقة). ولولا اختلاف الألوان على مستوى الأكثرية ذات الثقافة العربية لما كان للظاهرة كل هذا الوضوح والحجم.
الإرث التاريخي
يعود التباين بين مكونات الشعب الموريتاني إلى موقع البلد بين دول المغرب العربي ودول إفريقيا السمراء. ورغم عدم وجود إحصائيات منشورة يمكن الرجوع إليها لتحديد نسب مكونات الشعب، إلا أن الرأي الغالب يتجه إلى أن المكونة ذات الثقافة العربية (وهي نسيج من العرب والبربر) تمثل ثلثي السكان مقابل ثلث يتكون من الأقليات الزنجية الثلاث (البولار، السونينكي، الولوف). وقد أدت متطلبات الحياة التقليدية في بلد صحراوي قليل الموارد إلى اعتماد الاقتصاد الريفي على نمط تقليدي للإنتاج يقوم أساساً على استيراد العبيد من جنوب نهر السنغال بغية بيعهم أو استخدامهم في تربية الماشية والزراعة.
ولم يحدث استقلال الدولة ومحاولة ولوج الحداثة أية قطيعة مع الأطر التقليدية التي ما زالت حتى الآن (وإن بدرجة أقل) تتحكم أكثر من السلطة المركزية في الحياة السياسية والاجتماعية. وقد نتج من هذا الوضع وجود طبقة تمثل قرابة ثلث المكونة ذات الثقافة العربية وتتشكل من المنحدرين مما كان يمثل طبقة العبيد. ولم تستطع هذه الطبقة (المسماة «الحراطين») الاندماج في المكونة الكبرى نتيجة اختلاف اللون وتحكم العادات الطبقية في مجتمع البيضان.
ورغم إعلان دستور 1961 لمبدأ المساواة بين المواطنين، إلا أن النظام المدني الأول (1960ـــــ 1978) ظل لأسباب سياسية يفضل عدم الدخول في مواجهة مفتوحة مع العشائر والقبائل من أجل فرض احترام هذا المبدأ، وظل يرى في المشكلة مجرد ظاهرة اجتماعية يكفي التطور الطبيعي وتدعيم مؤسسات الدولة للقضاء عليها.
وقد أدت موجات الجفاف التي ضربت البلاد في بداية السبعينات من القرن الماضي إلى تكثيف الهجرة من الأرياف إلى المدن، مع ما تفرضه الحياة المدنية من تفكك للروابط التقليدية. وكان من الطبيعي أن يضرب الفقر بقوة أكثر طبقة الحراطين التي كانت تعيش أساساً على ما تدره عليها علاقات غير متكافئة مع البيضان، فتشكلت حول المدن أحياء صفيح شكّل «الحراطين» غالبية سكانها. إلا أن هذه الهجرة كانت لها، رغم ذلك، نتائج إيجابية. فبالإضافة إلى كونها قد أسهمت في انفكاك الارتباط التقليدي الذي كان يسمح «للسيد» باستغلال حاجة الحرطاني لإرغامه على البقاء رهن علاقة عمل غير متكافئة الالتزامات، فقد أسهمت الهجرة إلى المدن أيضاً في ولوج الحراطين إلى التعليم، مع ما نتج من ذلك من تشكل أقلية متعلمة مثلت طلائع الحركة التي تنادي اليوم بالقضاء على مخلفات ظاهرة العبودية.
إلا أن الحاجة والفقر الشديدين أبقيا الكثيرين من الحراطين في الأرياف ضمن الوضعية التي كانوا فيها، إضافة إلى أن بعض الأسر استجلبت إلى المدينة نمط العلاقة الاسترقاقية نفسه، لتظهر في المدن أشكال جديدة من الاسترقاق في مجالات عمل غير منظمة مثل خدمة البيوت. وقد طرحت القضية بحدة في بداية الثمانينات عندما برزت إلى الوجود حركة تدعى «الحر» أسسها كوادر ومثقفون ينتمون إلى طبقة الحراطين، وتبنت خطاباً مطالباً بالعدالة الاجتماعية والمساواة.
وكان تعامل العسكر الذين سيطروا على السلطة منذ 1978 منصبّاً على تهدئة الأمور بالحلول المؤقتة من دون أي تخطيط للقضاء على أسباب الظاهرة. فأصدرت اللجنة العسكرية برئاسة ولد هيدالة قانوناً حرّم ممارسة الرق، ووعدت إحدى مواده بالتعويض على مالكي العبيد من دون أن يشفع ذلك الوعد بتنفيذ. وقد انتُقد هذا القانون على أكثر من صعيد، فقد رأى الكثيرون في مبدأ التعويض لملّاك العبيد اعترافاً بشرعية الممارسة وترجمة لتفسير اجتماعي خاطئ يرى في إنكار شرعية العبودية إنكاراً لأحكام إسلامية تنظّم وجود الظاهرة في مجتمع يمثل الدين الإسلامي مرجعية منظومته الأخلاقية. وعلى أية حال، لم يكن لقانون ولد هيدالة أثر كبير في علاج الظاهرة التي أصبحت، مع تنامي الفقر في شريحة الحراطين، تترجم واقع تفاوت طبقي يجعل البؤس والفقر والجهل الميزات الأكثر وضوحاً في هذه الشريحة.
وظل نظام ولد الطايع (1984ـــــ2005) يرفض التعامل الصريح مع هذه الظاهرة، ويحاول اختزالها في آثارها، رافضاً أي حديث عن وجود العبودية في موريتانيا، ومفضلاً الاعتماد على برامج سيئة التخطيط والتنفيذ تستهدف محاربة الفقر ومحو الأمية. كما ظن ولد الطايع أن تعيين بعض الكوادر المنحدرين من هذه الشريحة في مناصب عليا يمكن أن يُسهم في القضاء على الإحساس بالتهميش، فكان دخول أول حرطاني إلى مجلس الوزراء سنة 1984، كما كان آخر وزير أول يعينه ولد الطايع قبل انقلاب 2005 منحدراً من هذه الطبقة. إلا أن هذه التعيينات لم تتعد أشخاصاً قلائل اختيروا على أساس مقدرتهم على إنكار الواقع الذي تعيشه طبقتهم والإسهام في سياسة التعتيم الرسمية. بالمقابل قُمع كل الذين جاهروا بفضح الممارسات الاسترقاقية، مثل قادة جمعية «نجدة العبيد» الذين حوكموا وأُدينوا بتشويه سمعة البلد إثر إسهامهم في برنامج أعده تلفزيون فرنسي. ولم يُعترَف رسمياً بهذه الجمعية إلا سنة 2004، أي قبل أشهر قليلة من سقوط نظام ولد الطايع.
وبعد الانفتاح الديموقراطي في بداية التسعينات، انتظمت حركة الحراطين ضمن صفوف معارضة نظام ولد الطايع قبل أن تتحالف مع مجموعة من الكوادر الزنوج لتشكل معهم حزباً سياسياً يدعى «العمل من أجل التغيير»، وهو الحزب الذي قامت الحكومة بحله بعد مشاركة قادته في مؤتمر دربان (جنوب إفريقيا) للقضاء على أشكال التمييز العرقي وإثارتهم لقضية العبودية في موريتانيا. وبعد حل حزبهم ورفض الحكومة لعدة ملفات قدموها لتكوين حزب سياسي، تحالف قادة حركة الحراطين مع الناصريين في إطار حزب التحالف الشعبي التقدمي، وهو ما رأى فيه المحللون «زواجاً عقلانياً» حصل بموجبه الناصريون على قاعدة شعبية كانوا يفتقرون إليها، ووفر لحركة الحراطين إطاراً شرعياً لنشاطاتها. وقوبل «الزواج» بمباركة شريحة كبيرة من البيضان رأت فيه ضمانة لعدم خروج الحراطين من الإطار الثقافي ومنع استخدامها من طرف مكونة الزنوج لقلب موازين القوى في البلد. وزادت من اطمئنانهم تصريحات متوالية لزعيم الحراطين مسعود ولد بلخير أكد فيها أنه «عربي القلب واللسان».
وبعد انقلاب 2005 أمل الناشطون في مجال حقوق الإنسان أن تحظى الظاهرة باهتمام السلطات العسكرية التي أعلنت برامج إصلاح دستورية وسياسية بغية تمهيد رجوع المدنيين إلى الحكم، إلا أن السلطات العسكرية في الفترة الانتقالية أعلنت عدم نيتها في التصدي لما رأته ظاهرة عميقة يتطلب التعامل معها شرعية يفتقر إليها الانقلابيون. وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية، كانت ظاهرة العبودية ووعود القضاء عليها (أو على آثارها) حاضرة في كل خطابات المترشحين، بمن فيهم الرئيس الحالي الذي تحالف في الشوط الثاني مع السيد مسعود ولد بلخير الزعيم التاريخي لحركة الحراطين. وكان من نتائج هذا التحالف دعم ترشح مسعود ولد بلخير لمنصب رئيس الجمعية الوطنية، وهو المنصب الذي يشغله حالياً إضافة إلى حصول حزبه على عدة حقائب وزارية.
القانون الجديد: هل يحلّ المشكلة؟
يتضمن مشروع القانون الجديد الذي صادق عليه مجلس الوزراء والذي ينتظر أن يقدم أمام البرلمان في دورته الحالية تعريفاً للممارسات الاسترقاقية وترتيبات عقابية بحق مرتكبيها وترتيبات أخرى تتيح لمنظمات حقوق الإنسان حق رصد المخالفات وتبني ضحاياها. إلا أن هذا المشروع، وإن مثّل خطوة على طريق الحل واعترافاً رسمياً بوجود المشكلة، نقصته الجرأة اللازمة في التعامل مع قضية حساسة يجب ببساطة اجتثاث جذورها بصرامة أكبر.
ويحظى نشر هذا القانون بترحيب كل أطياف الطبقة السياسية والمجتمع المدني، وإن أبدت منظمات حقوق الإنسان عدة تحفظات على بعض ترتيباته، مثل تلك التي تكرس ضمان صحة «زواج» السيّد بأمته من دون عقد ودون رضى، بدل اعتباره اغتصاباً يعاقب عليه القانون، ومثل عدم الاعتراف لمنظمات حقوق الإنسان بصفة الطرف المدني في القضايا التي تثيرها. إلا أن هذا القانون يجب أن تصحبه جهود جدية للقضاء على الجهل الذي يشجع بقاء العقليات الاجتماعية السائدة، والفقر الذي يتم استغلاله لإفراغ الحرية من محتواها، وتحقيق العدالة الاجتماعية للتخفيف من مظاهر التبعية الاقتصادية. وإذا لم تُبذل كل هذه الجهود، فإن الهوة العميقة التي تفصل شريحة الحراطين عن باقي شرائح الشعب ستبقى تتعمق، مشكّلة خطراً حقيقياً على السلم والأمن الاجتماعيين في موريتانيا.
*محام وكاتب موريتاني