جوزيف مسعد *
من أهمّ ما يطرحه علينا الخطاب الليبرالي الذي تسوّقه أميركا داخلياً وخارجياً هو فكرة التسامح مع الآخر، وأن هذا التسامح هو إحدى أهم ركائز الأنظمة الديموقراطية الغربية. يسوَّق هذا الخطاب عربياً، ويلعقه الليبراليون العرب الجدد ويعيدون إنتاجه في مقالاتهم في الصحف العربية، ويقدّمونه على أنّه أهمّ مقوّمات ومتطلّبات الحداثة والتقدّم التي يجب اتباعها عربياً.
ترتكز فكرة التسامح بالطبع على تقبّل الآخر على كلّ اختلافاته في العادات والدين والممارسات الثقافية والسياسية، وهذا ما ترفض أميركا وأتباعها التسامح معه. فأميركا متسامحة فعلاً مع كل ما يشبهها ثقافياً، ومع كل من يتبعها سياسياً، وترفض التسامح مع من تعرِّفه مبدئياً بأنه غريب عنها، وتصوِّره على أنه بربري وهمجي أو على الأقل غير متحضر. ويحاجج البعض في اليسار الأكاديمي الأميركي من المناوئين لهذا الخطاب المنافق مزاعم تسامحه. ويدحض هؤلاء النقاد أهم مقومات هذا التسامح المزعوم، وهو أنه متسامح مع كل ما تقبل به الثقافة الأميركية أصلاً وغير متسامحٍ مع كل ما ترفضه. خذ مثالاً على ذلك رفض القانون الأميركي لممارسات بعض الأديان التي يتّبعها مهاجرون من جزر الكاريبي مثل ديانة «سانتريا» التي تمزج ما بين الدين المسيحي وأديان روحانية أخرى. يمارس أتباع «السانتريا» شعائر دينية تقتضي التضحية ببعض الحيوانات الداجنة في مناسبات معينة (وهي في ذلك تشبه بعض الشيء شعائر عيد الأضحى عند المسلمين). ويعتبر القانون الأميركي، المتسامح جداً مع كل ما يعتبره أميركياً، هذه الممارسات غير مقبولة ولا تستحق التسامح، فيمنعها ويجرِّمها، وبذلك يخرجها من فضاء التسامح طرّاً. وهذا واحد من آلاف الأمثلة التي تحدّد معنى التسامح الليبرالي في الولايات المتحدة.
عدا عن خضوع فكرة التسامح لهيمنة الثقافة الأميركية السائدة، هنالك مشكلة تعريفية ومبدئية يجب التشديد عليها، وهي أن هذا «التسامح» المزعوم يرفض أن يتسامح مع من يعتبرهم غير متسامحين أصلاً، ما يجعله هو أيضاً خطاباً غير متسامح. إذاً نواة قلب مفهوم «التسامح» على رأسه موجودة أصلاً في منظومته التكوينية نفسها التي تحتوي على «عدم التسامح» كأهم مكوِّن لـ«التسامح».
يصرّ ليبراليّو أميركا وأتباعهم العرب على أنّ عدم التسامح مع ما يعتبره «التسامح» غريباً عنه أو مع «عدم التسامح» ضروري للحفاظ على «التسامح» كنظام قائم، وإلا هدده «عدم التسامح» هذا وقضى عليه. ويعمم هذا المنطق على الديموقراطية نفسها. فتزعم الأنظمة العربية غير المتسامحة، ومعها النظام الأميركي المدّعي التسامح والليبراليون العرب الجدد العاشقون بإفراط لتسامح أميركا المزعوم، أنّ حدود ممارسة الديموقراطية العربية تكمن في قبول دخول الإسلاميين في الانتخابات، لكن برفض فوزهم إن فازوا، إذ إنهم سينقلبون على الديموقراطية التي استغلّوها أصلاً للوصول إلى السلطة. الديموقراطية تُعرَّف هنا إذاً بأنّها نظام للتنافس على السلطة يقتصر على كل من تقبله السلطة ويستثني كل من ترفضه، لكن التاريخ العربي الحديث يدحض هذه المزاعم، فالديكتاتورية الجزائرية، على سبيل المثال، هي التي انقلبت على الديموقراطية تحسّباً لفوز إسلاميّي الجزائر، وليس العكس. وهذا هو النهج الذي سارت عليه أخيراً قيادات منظمة «فتح» في انقلابها على الديموقراطية الفلسطينية وتنصيبها عملاء إسرائيل وأميركا على الحكم غير الديموقراطي في الأراضي المحتلة. وتنطبق هذه النزعة على كثير من ديموقراطيّي وليبراليّي مصر العلمانيين الذين يفضّلون الديكتاتورية على فوز الإخوان المسلمين في أي انتخابات، في الوقت نفسه الذي يطالبون فيه بالديموقراطية لأنفسهم.
إذاً، الديموقراطية المزعومة هذه، مثلها مثل التسامح المزعوم الذي تنادي به أميركا والليبراليون العرب الجدد التابعون لها، هي ديموقراطية لا تشوبها معارضة، وتتسامح مع كل ما هو مثيل وغير مختلف. وهذا ما يقدَّم لنا على أنه نموذج «الحداثة الليبرالية» وعنوان دخولنا العالم «المتحضِّر».
إنّ التناقض الداخلي لهذه المنظومات الفكرية لا يحتاج إلى سيّد قطب ولا إلى مهدي عامل كي يدحضاه ويعرّيا الأسس الأيديولوجية المبني عليها. السؤال الذي يطرح نفسه إذاً هو لماذا تخلّى الكثير من يساريّي الماضي ويمينيّي الحاضر (أي الليبراليّين الجدد) عن مقدراتهم التحليليّة وجعلوها مرتهنة للتناقضات الليبرالية المعادية للتسامح والديموقراطية في الوقت نفسه الذي يزعمون فيه اعتناقهم لها؟ هل كان هدف هؤلاء الفعليّ عندما كانوا يساريين تحريرنا من النموذج الكولونيالي والعنصري المسمّى «الديموقراطية الأوروبية»، أم أرادوا في حينها تحويلنا إلى مجتمعات أوروبية كما أراد لنا سلامة موسى وطه حسين، كل على طريقته؟
هنا تنطبق على مثقّفينا من يساريّي الماضي ويمينيّي الحاضر المقولة الأميركية عن الفارق بين المحافظين والليبراليين الأميركيين، وهي أنّ «المحافظ هو ليبراليّ تعرّض للسرقة»، أي أن الليبراليين يدافعون عن حقوق الفقراء حتى لحظة تعرّضهم للأذى من فقير، فيتحوّلون في لمح البصر إلى محافظين معادين للفقراء، أي ينقلبون على الفقراء قبل أن ينقلب الفقراء عليهم. إذا طبّقنا هذه الاستعارة على مثقّفينا، نستنتج أنّ اليميني العربي الحاضر (أي الليبرالي الجديد) هو يساريّ تعرض لمنافسة الإسلاميين.
* أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا