الأب إبراهيم سروج
ينطلق الأب جورج مسوح في افتتاحيتين في مجلة النور انطلاقة صحيحة وجيدة، فيؤكد أن المؤمن يذهب من التزامه الكنسي إلى العمل في الشأن العام. لكن كيف يقفز من هذه المقدمة إلى خلاصة مفادها أن «انتماءنا الكنسي لا يفرض علينا أن يكون خيارنا الوطني واحداً». وقبل أن نسائله كيف لا يكون خيارنا الوطني واحداً، نطالبه مع سقراط بأن يعرِّف التعابير التي يستعملها. على العموم، يستحق الخيار أن يكون وطنياً عندما يشمل أبناء الوطن جميعاً ويصب في مصلحتهم. وإذا اتفقنا على أن الخيار الوطني، هو الخيار الصحيح، فعندها يفرض علينا إيماننا المسيحي أن نتبناه جميعاً.
وإذا أراد قدس الأب مسوح أن يقول إنه لم ينطلق من مقدمة إلى نتيجة، بل شاء القول ببساطة أن تعالوا نتفق على أن انتماءنا الكنسي، لا يفرض علينا أن يكون خيارنا الوطني واحداً، هنا نجيبه: «إن ما يفرضه علينا الانتماء الكنسي ليس وقفاً علينا وحسب، بل هو وقف أيضاً على إيماننا وتراثنا المتجسدين عبر التاريخ منذ بدايته حتى الآن».
هناك أيضاً قفزة ثانية، لم نفهم أيضاً مركز انطلاقها، لكن فحواها جيد وهو أن القيادة الكنسية لا تملي رأياً واحداً في المسائل المتصارع عليها في النقاش الوطني. نترك هنا أيضاً لقدس الأب الصديق أن يعلمنا إذا كانت هذه مقولة يتفق عليها أو هي معطى إيماني.
صحيح أن القيادة لا تملي ولا تفرض، لكن، على الأقل، مطلوب منها أن توجّه وترشد وتنصح وتكون قدوة في الممارسة. هذا ما يقوله أيضاً الأب مسوح، لكنه يخلط بين الكنيسة وقيادتها. الأساقفة والكهنة، هم أئمة الكنيسة، قادتها وخدامها، لكنهم ليسوا إطلاقاً الكنيسة التي تشمل جميع المؤمنين، أحياء وراقدين، إكليروس وعلمانيين. أما قيادة الكنيسة اليوم، فهي اسم بلا مسمى، أي إنها قيادة بلا محتوى، غائبة، لا تقود أصلاً في أي مجال من مجالات الفكر أو السياسة أو اللاهوت أو الناسوت.
صحيح أيضاً أن يقول قدسه: الكنيسة توجه، والأفضل أن نقول تتوجه كلها، قيادة وشعباً، إلى حيث يدعوها ربها. والقيادة ليست فوق، والشعب تحت. القيادة هي في داخل الكنيسة، وليست خارجها او فوقها ـــــ كما هي البابوية ـــــ لذا تلتقي الكنيسة كلها، كما تلتقي في الافخارستيا، لتدرس القضايا التي تشغل بالها، وتأخذ المواقف المناسبة وتلتزمها وتعمل لتحقيقها.
نؤكد مع قدس الأب مسوح أن السلوك بحسب الإنجيل هو الأساس، وأن التوجيهات العامة ضرورية، وأن مواجهة التحديات من أجل عالم أفضل مطلب إنجيلي. لكننا نخالفه بقولنا: إن هذا الطرح كله لا يكفي. لا يكفي أن تقول الكنيسة جمعاء ـــــ قيادة وشعباً ـــــ إنها مع الفقراء وضد الاستغلال، ومع العدل ضد الظلم، وهي لا تعرف أين هم الفقراء والمظلومون، ولا كيف ترفع الغبن عنهم. ها قيادتنا الكنسية الأنطاكية، على مدى ثلاثين عاماً وأكثر، اكتفت بإصدار بيان واحد، وبعض السادة المطارنة استمروا يكتبون ويعظون (على الأخص صاحبي السيادة خضر وعودة) أسبوعياً، وما توصلوا ليقولوا لوزراء الروم استقيلوا من وزارة الرئيس السنيورة أو ابقوا فيها، ولا أن ينضموا إلى المعارضة أو ينفضّوا عنها. كما أن القيادة الكنسية لم تعرف حتى الآن كيف يكون مستشفى الروم أرثوذكسياً ولا جامعة البلمند أرثوذكسية ـــــ بالمناسبة يقول أحد رؤسائها، النائب والوزير والصحافي غسان تويني، إنها جامعة علمانية، كأنه يخجل من الأرثوذكسية.
المقولة الأساسية هنا، هو أننا إذا لم نسم الأشياء بأسمائها كآدم، ولم نحدد الطريق التي نسلكها، يكون كل كلام في السياسة لا طعم له، وهو يصب في خدمة السلطان القائم وتأييده ودعمه. لذا قول قدسه بأن «الكنيسة تكتفي بالتوجيهات العامة، ولا تفرض على أبنائها نهجاً واحداً يسلكونه»، لا قيمة له في عالم السياسة، بل يشجع على اللامبالاة، التي هي قائمة عند معظم أبناء الكنيسة، إلا الذين التزموا بسبب دوافعهم السياسية المحضة.
ويتابع قدسه الكلام عن الكنيسة ـــــ والأرجح أنه يعني قيادتها، وهذا أمر غير دقيق، كما أسلفنا سابقاً ـــــ ليقول إنها «تترك لضمائر المؤمنين أن يترجموا هذه التحديات ويبلوروها في خيارات متعددة. فما قيمة هذا الكلام في الالتزام السياسي؟ يعني كلام قدسه أن الأرثوذكسي يمكنه أن يكون قومياً أو شيوعياً أو بعثياً شامياً أو عراقياً أو كتائبياً أو... ولا أحد يكفِّر آخر أو يخوِّنه بسبب نهجه. فهل للكنيسة أي دور في هذه الخيارات؟ أم أن كل امرئ يختار لنفسه، وكل الخيارات عند العرب صابون.
ثم يصف قدس الأب جورج هذه الخيارات المتعددة بأنها «متحررة من هواجس الكتلة الجوهرية الواحدة، وهذا يعني تالياً أن التراص يقتل فرادة الإنسان». لم نفهم معنى الكتلة الجوهرية الواحدة. وهنا نسأل قدسه: لماذا الخوف من الكتلة المتراصة؟ ولماذا التراص يقتل فرادة الإنسان؟ ألم يدعنا الرسول بطرس كي نكون «مبنيين كحجارة حية، بيتاً روحياً، (1 بطرس 2: 5)... كهنوتاً ملوكياً، أمة مقدسة (1 بطرس 2/10)؟ وهل نسي قدسه أن المسيح هو الحجر الحي المرفوض من الناس؟ (1 بطرس 4:2) و«أن المسيح هو الصخرة الروحية» (1 كور 4:10)؟ فهل هناك تراص أكثر من الحجر والصخر؟ وإذا كنا مرصوصين على صورة المسيح ولنا فكره (فيليي 5:2) وحياته، فلنا الطوبى والخير. أما إذا كان التراص كالغنم والسردين، فعندها نوافق قدسه في أن هذا الأمر «يتعارض كلياً مع الفكر المسيحي الحق. إذاً التراص بحد ذاته ليس مرفوضاً إلا إذا دخله الغش، وعطل العقل والفرادة والمحبة، وسخر للشر
والإفساد.
نعود إلى المقطع الذي تجاوزناه، بسبب فكرة التراص التي أتت قبله، وبعده، يبدأه قدس الأب مسوح هكذا: «يسعنا القول، إذاً، إن الصيغة الأقرب إلى الفكر الكنسي (؟) هي تلك القائمة على القبول بالتعددية السياسية إطاراً للتنافس المستمر على غير صعيد». ليسمح لنا قدس الأب الصديق بأن نسأله: ما هو الفكر الكنسي وما هي ملامحه السياسية؟ هل هو فكر السادة المطارنة؟ هل هو فكر آباء الكنيسة؟ هل هو فكر أبناء الكنيسة اكليروس وعلمانيين وعلى مرّ العصور؟ وما هي التعددية السياسية؟ هل هي تعددية الأحزاب أو التيارات السياسية أو حتى الفِكر السياسية التي تتوزع على أبناء الشعب؟ ولماذا هي الأقرب وكيف نتأكد من هذا القرب لنؤكد مثل هذا القرار الخطير؟
وإذا كان المطلوب منا، أن نؤلف جسد المسيح الواحد ـــــ كما يذكر قدسه فيما بعد ـــــ فهل تعدد وظائف أعضاء الجسد، وهو مبرر للتعددية؟ أنا أرى بتواضع أن الغاية من صورة الجسد هي التشديد على وحدة الكنيسة في تنوع مواهب أعضائها. الكل يعملون معاً لبنيان جسد المسيح.
وإذا كان التحدي الحقيقي ـــــ كما يقول قدسه ـــــ الذي يواجه المسيحيين هو في «جعل الملكوت الآتي حاضراً «الآن وهنا»، وأن يشهد للحق، وأنه ممنوع على المسيحي الاستقالة من شؤون الدنيا والناس، وأن لا مساومة ولا استسلام ولا حلول وسطية، بل كلمة الحق في كل حين»، فجميع هذه المقولات تتعارض مع ما جاء في المقدمة والمتن، من القول: بالتعددية وعدم التراص والاكتفاء بالتوجيهات العامة. وإذا كان عمل المؤمنين ـــــ كما يؤكد قدسه أيضاً ـــــ الجهاد مع الأنبياء ضد الظلم والبغي والعدوان ومصارعة الشر، فهذا العدو الشرس، وهو الشيطان الذي ينتظم جحافل جحافل ويحارب الإنسان ليل نهار، يحتم علينا توحيد النضال ورص الصفوف «كالبنيان المرصوص» وأن يكون لدينا فكر واحد، هو فكر المسيح، وإذا عملنا بخلاف ذلك، يكون الشر هو الرابح علينا.