strong> محمد نعمة *
لا نريد التوقف عند الأبعاد السياسية والعسكرية لهذا النزف الذي يحصل للّبنانيين وجيشهم ولفلسطينيّي مخيم نهر البارد. نقول هذا ونحن على يقين بأن من الخطورة بمكان الاحتكام للصمت تجاه هذا النزف. الصمت هنا يبدو إساءة فعلية لشعبين شقيقين جمعهما معاً زمن مديد من عذاب وقهر إسرائيليين بحقهما معاً.
لن نتكلم عن التعقيدات والتأثيرات السياسية والعقائدية والنفسية المتداخلة بين فلسطينيّي لبنان وشعب بلاد الأرز، وهي المتجذرة عميقاً في تاريخ تعايشهما. لكن لا بد من الإشارة إلى أن فلسطينيّي مخيمات لبنان، وبعد ستة عقود من لجوئهم القسري، لا يزالون محرومين من الحقوق الاجتماعية والمدنية، كحقوق التملك، والعمل، والاستشفاء والضمانات الصحية والانتساب إلى النقابات المهنية.
وحسب ما تكشف تقارير الأمم المتحدة وسواها، فإن مخيمات الفلسطينيين في لبنان تغص بالحفاة والعاطلين عن العمل والمرضى (وخاصة مرضى العيون بسبب رطوبة أزقتهم الضيقة والمظلمة وفقدان الكهرباء الضرورية للإنارة) والأطفال المتسكعين في حارات تمتلئ بمجاريها الآسنة (إن ثلث أطفالهم يتركون المدرسة قبل إنهاء المرحلة الابتدائية أو التكميلية، و40٪ منهم لا يكملون دراستهم). فتلك المخيمات يعصف بها فقر مدقع، وتترنح تحت وطأة كثافة سكانية عالية ضمن حيز خانق بُني على فوضى وعجل وهشاشة. ولا تبطش بها حياة مزرية فقط، بل أيضاًَ رتابة ميكرومجتمعية يومية متوالدة إلى ما لا نهاية ومنذ سنوات وسنوات. وإلى هذا كله تغرق المخيمات في غابة من السلاح المتضارب والمتآكل من حيث الوظيفة والهدف والقيمة والمعنى. تلك المخيمات عانت الأمرّين من الحصار وضغط «الأشقاء»، وهي تحتقن من الاستخفاف والريبة منها، وتختنق من التلطّي فيها ومن عزلتها القهرية.
مع دويّ المدافع التي تدكّ مخيم نهر البارد من جهة، وصليات صواريخ الكاتيوشا التي تسقط على القرى اللبنانية المحيطة به من جهة ثانية، تذهب التقديرات والمقاربات في كل اتجاه، وسط مناخ داكن ومتشائم حول مصير هذا النزاع العبثي وديمومته. وهنا لا بد من الإشارة ولو عرضياً إلى أن كل إجراء تجاه المخيمات الفلسطينية، إذا لم يكن في الإطار الصحيح، أي في وجهة إزالة الاحتقان وتخفيف الحرمان وإزاحة المهانة تجاه ساكنيها، سيبقى من دون مفاعيل متعددة أو معتبرة. إن كل أداء لا يبلسم الجراح بين الشعبين ويعزز الثقة في ما بينهما ولدى كل منهما، فإن مآله معروف القدر. إنه إعادة إنتاج لهذه المأساة الغائرة بؤساً وشقاءً وانفعالاً وغرائز. من هنا يمكن الكلام على فكرة أساسية قد تكون ساذجة للبعض، وهي أنه آن الأوان في لبنان للانتقال إلى سياسة جديدة تقوم حصراً على مبدأين:
احترام هذا التعايش المؤقت مع الفلسطينيين وتعزيزه وتثميره، والسعي الدؤوب من جانب مؤسسات الشعبين ومنظماتهما لتحقيق هاجسهما المشترك الذي يتجسد في حق العودة الطبيعي والشرعي.
من دون هذين المبدأين يبقى التعايش نظيراً للمخاطر، وعرضة دائمة للتوتر. وبالتالي فإن ذلك ما يحملنا على الاعتقاد والقول بعدم وجود أمن تام وثابت لأحد في لبنان من دون إنجاز هذه القفزة السياسية والفكرية، ذلك لأن الأمن لا تنجزه فقط القدرات الردعية والاستخبارية مهما كانت ضخمة، بل أيضاً هو ثمرة الثقة والتعاون والاحترام. وكذلك لأن الأمن ليس مسألة حماية الذات فقط، بل أيضاً علاقات أمان وتوافق وكرامة بين المتعايشين. هنا بالذات تكمن إشكالية الاستبداد العلائقية، أي عندما يعمل على أحادية هذه الحماية الضيقة الذاتية، ويجري تغييب علاقات الأمان مع الآخر.
أما إذا أردنا البدء بالتساؤل عن جدوى هدر الدماء والأرواح في شمال لبنان؟ كيف وصلت كل هذه المجموعات «المتعددة الجنسيات» إلى مخيم نهر البارد، ثم السيطرة عليه، ومن ثم التمدد إلى منطقة طرابلس لكي تعشعش فيها بسرعة ويسر واضحين؟ ما غاياتها، وشبكة تحالفاتها والمسارب الإجمالية لحراكها؟ أيكفي القول بأن هذا ناتج، وبحق، من اللامبالاة وعدم الإحساس بالمسؤولية وبالتلكؤ المقصود أو العفوي للمسؤولين الفلسطينيين واللبنانيين على السواء؟ أم هناك أسباب عميقة ومزمنة لاشتعال النيران وانتشارها؟
إذا ألقينا نظرة «ماكرواجتماعية» على الشمال، فإننا نجد بسرعة أن منطقة عكار وقضاء الضنية ومدينة طرابلس تعتبر بحق مناطق منكوبة بالمعنى الاقتصادي والاجتماتربوي، وأن هذا ليس بجديد. فمنذ الخمسينيات وأهالي تلك المنطقة في حالة انتظار لكي تنفض الدولة اللبنانية يوماً مشاريعها وخططها التنموية المهترئة في أدراج بيروقراطيتها اللامبالية. إن الحضور المبتور للدولة فيها والمقتصر على استتباب الأمن وجباية الضرائب وانحسار مؤسساتها وقلة رعايتها التنموية لأبنائها، قد ضاعف عند هؤلاء المواطنين قلق الهجر وعقم الانتماء للدولة المركزية.
لم تحصل منطقة الشمال إلا على تجاهل موروث من قبل الحكومات التي تعاقبت في لبنان المعاصر، لا بل إن المفارقة هي في كون الطاقم الحالي يتربع في سدة القرار لأن هذه المنطقة بالضبط، كخزان انتخابي مفصلي، قد صبّت عموماً له ومن دون تردد. وبالتالي فإن المبرر الاشتراعي لإمساك السلطة من جانب هذا الطاقم استند فعلياً إلى عاملين انتخابيين اثنين:
ـــــ عامل تجيير انتخابي غير مباشر لضاحية بيروت الجنوبية من الحليف اللحظوي، حزب الله، آنذاك.
ـــــ عامل تجيير انتخابي مباشر لمنطقة الشمال ولمصلحة آل الحريري، حيث تمت الاستجابة الواسعة بالتصويت للائحة «زي ما هيّي».
ومن دون توافر هذين العاملين، لكانت الموالاة الآن معارضة والمعارضة موالاة. ففي لعبة شد الحبال الطائفي والمذهبي في لبنان الراهن، وقف الشمال بقوة في جهة الحكومة ووجهتها السياسية وجسّد لها خطوطها الخلفية «الآمنة» و«الرادعة» على السواء. لكن، في المقابل، ماذا جنت مناطق البؤس والحرمان الممتدة من قرى عكار والضنية إلى أزقة أبي سمرا والزاهرية، والقبة، وباب التبانة، سوى التسويف والنسيان؟ وماذا جرى لشبيبتها التي لا تفيض حيوية فقط، بل عوزاً وأمراضاً وأميةً، تلك التي تم تحشيدها للتخندُق الداخلي والفئوي انتخابياًَ، وتجييشها بعد ذلك من أجل «غزوة الأشرفية» أولاً ومن ثم لمجابهة الطائفة المجاورة في جبل محسن ثانياً، سوى الاستخفاف بها ورميها بين فكي الالتباس التدميري بين الإرهاب وبينها، والريبة تجاه تصوراتها ومعيوشها ووجودها نفسه؟ هذا هو الذي سيولّد الفصام لدى هذه الشبيبة: بين مشاعرها بالإحباط وسوء الطالع وفقدان القيمة النرجسية من جهة، ومشاعر التضحية ونكران الذات من أجل صون الجماعة، وحماية الطائفة «المهدَّدة» من جهة أخرى.
إن أطفال الأزقة الرطبة والملوثة، الغارقين في حرمان مدقع والذين كوت وعيهم معارك الثمانينيات، هم أنفسهم من لُدغ من تقاليد «جمهورية لبنان» مرات ومرات، ما حداهم إلى البحث عن «قندهار» خاصة بهم. فكان أولاً الخروج إلى «تورا بورا الضنية» الذي أُجهض سريعاً وبقسوة، ليحين بعد ذلك أوان الهجرة إلى الجنة عبر منطقة الأنبار العراقية. وحين تعقَّد الأمر وجفّت السبل إلى ذلك، كان لا بد من المكوث في أرض الشقاء والغربة هذه ساعين، على أقل تقدير، في سبيل «الدعوة والنصرة» إلى أن يهيّئ الله أمرهم إلى الجهاد. إنه الإحساس بالمهانة واليأس والرغبة الجامحة في تأكيد الذات والسيطرة على واقع أدار ظهره لتلك الشبيبة المنكفئة غضباً والمحافظة على حد سواء.
إن اضطرابات الشمال الأمنية السوداء هذه تثبت من جديد أن التعامل، منذ سنوات، مع هذه الفئة من الناس بقي قائماً على الحصار وتجفيف ينابيع آمالهم بعلاقات الاحترام والمسؤولية. فالتعسف كان وما زال سيد الموقف. لكن ليس بالتعسف تحيا البلاد والعباد، وخصوصاً في بلاد ضعيفة ومضطربة كلبنان، وبوجود شبيبة مشوّشة الرؤى ومهتزة الوجود كشبيبة شمال لبنان التي لها الحق بتأكيد الذات والتعبير عن نفسها وعن أحلامها الخاصة بها، حتى لو كانت تصوراتها وأفكارها ترعبنا جميعاً. نعم، لها علينا حق الحياة حياة كريمة وذات كرامة. إن مستقبل هذه الشبيبة هو غد لبنان، حتى وإن لم يعترف لها أحد منا بذلك.
* مدير مجلة «مدارات غربية»