ورد كاسوحة *
لعلّه من المفيد قبل الشروع في توصيف المأزق السياسي و«الديموغرافي» الذي أفضت إليه انتخابات المتن الفرعية، التأكيد على حقيقة تاريخية وديموغرافية أساسية وتأسيسية في المشرق العربي، مفادها أن الوجود الأرمني في هذه المنطقة هو وجود فاعل ومؤسس وديناميكي في بنية الكيانات «الدولتية» المشرقية، منذ اندثار السلطنة العثمانية ومجيء الاستعمار الأوروبي وما أعقبه من ديناميات سياسية استقلالية، وحتّى اليوم.
التغاضي عن حقيقة كهذه هو فعل يرتقي إلى مرتبة التعريض بفكرة الوجود الأرمني أساساً. ويعني ذلك الإسهام، ولو غير المباشر، في الإجهاز على الذاكرة الأرمنية الجمعيّة ووأدها، في ما يشبه تواطؤاً علنياً ما بين «الأكثريات» العرقية والطائفية السائدة على اضطهاد هذا الوجود وتجريده من حقوقه المواطنية، ونعته عند كل مفترق سياسي أو استحقاق انتخابي ـــــ مثل الانتخابات المتنية الأخيرة ـــــ بمفردات مشتقّة من قاموس الفاشيّات البائدة من قبيل: طابور خامس، أقلية منبوذة، عقل الفتنة، وجود غريب، غيتو مذهبي... إلخ.
وإذا كانت التهمة التي وصمت بها المشاركة الأرمنية الكبيرة في الانتخابات الأخيرة هي من قبيل تقرير أقلية مسيحية لمصير التمثيل المسيحي الأكثري في المتن، فإنّ الجواب المنطقي والعقلاني على تهمة كهذه يكون بردّها ـــــ أي التهمة ـــــ إلى منطق أقلّوي هي الأخرى. إذ لا يجوز منطقياً أن تنسب جماعة لنفسها الحق في نعت الآخرين بالنزوع الأقلوي، عندما تكون هي نفسها متورّطة في نزوع كهذا، لا بل غارقة فيه حتى الأذنين وسبّاقة قبل كل الجماعات الأخرى إلى اعتماده نهجاً ومذهباً وطريقة في العيش والاجتماع والسياسة وتنظيم شؤون الحياة.
والكلام هنا يدور طبعاً على الجماعة المارونية أو الطائفة المارونية التي يمكن الزعم أنها لم تستسغ ولم تستوعب حتى اليوم فكرة أفول دورها السياسي بعد إقرار اتفاق الطائف، وبالتالي انتفاء مشروعية تمثيلها الحصري لمسيحيي لبنان. فالمارونية السياسية، التي كان يمثلها تاريخياً حزب الكتائب، لم تعد قادرة على استيعاب الأدوار الجديدة والديناميات المختلفة التي تمخّض عنها اتّفاق الطائف، وذلك بفعل عوامل عديدة لا يمكن حصرها، بل يمكن إيجازها بعاملين أساسيين:
الأوّل خارجي، ويتمثّل في النفوذ الدولي والإقليمي، الأميركي والسوري والسعودي والإيراني... إلخ، والثاني داخلي أو محلي ويتمثّل في الأدوار المستجدّة للطوائف الأخرى التي ورثت المارونية السياسية وأحالتها إلى موقع هامشي وأقلّوي غير فاعل وغير مقرِّر في المعادلة الطائفية والسياسية اللبنانية التي وسمت عقد التسعينيات من القرن الفائت.
هذا الموقع الهامشي المستجد والطارئ على وعي الموارنة لحقيقة وجودهم ودورهم في التركيبة اللبنانية، جعلهم أسرى معادلة تكاد تكون مستحيلة، وتتمثل في إدراكهم لموقعهم «الأكثري» داخل الطائفة المسيحية، وإن ليس بذات الحيز الواسع الذي كان يشغله هذا الموقع سابقاً. لكنّه إدراك يعي تماماً أنّ هذا الموقع «الأكثري» طائفياً ومسيحياً لم يعد يشفع لهم كثيراً في عملية المحاصصة السياسية والتنازع على السلطة، بعدما همّشتهم الأدوار الإقليمية والدولية، وأسهموا هم أنفسهم في عملية التهميش ووأد الذات هذه، إما عبر الحروب العبثية التي خاضوها بعضهم على بعض، أو من خلال التحاق من نجا منهم بحقبة الوصاية المشتركة وصيرورته بوقاً دعائياً لهذه الحقبة، من دون أن نغفل طبعاً واقع الاضطهاد السياسي الذي حلّ ببقيتهم، سجناً ونفياً وتشريداً.
في ضوء هذا التحليل لدور «المارونية السياسية» بعد اتفاق الطائف، يمكن فهم النوازع النفسية والسلوكية والاجتماعية والمذهبية التي دفعت بالرئيس الأعلى لحزب الكتائب، ورئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل، إلى إطلاق جملة من التصريحات والمواقف المتوترة وغير المسؤولة بحق الناخبين الأرمن الذين أدلوا بأصواتهم لمصلحة خصم الجميل في الانتخابات الأخيرة، أي مرشح التيار الوطني الحر كميل خوري. وهم، بإقدامهم على هذا الفعل، قرّروا نتيجة الانتخابات وحسموها لمصلحة المرشح العوني، وذلك بفعل جملة من العوامل، أهمّها أنّهم يتبعون انتخابياً لمرجعية واحدة هي حزب الطاشناق الذي يمكن اعتباره حزب الأكثرية الأرمنية في لبنان. وهم يمثّلون، بالتالي، كتلة انتخابية وصوتية وازنة يمكنها الآن وفي المستقبل أن تؤدي دور بيضة القبان في لعبة الأصوات الطائرة والمتنقلة بين استحقاق انتخابي وآخر.
هذا «الغيتو» الانتخابي المتمثّل بأصوات الأرمن مثّل ما يشبه حجر عثرة في وجه استعادة «المارونية السياسية» متمثّلة في حزب الكتائب لدورها التقليدي، خصوصاً في منطقة جبل لبنان، حصن المارونية السياسية تاريخياً ومركز ثقلها الأساسي. لذلك، جاء الرد على الخيار الأرمني متناسباً مع فداحة الخسارة التي ألحقها الأخيرون بالموقع الرمزي الذي يحتلّه المتن في الوعي المسيحي الماروني.
يبقى أنّ المأخذ الأساسي على هذا الردّ هو ارتداؤه طابعاً عنصرياً مقيتاً يحيلنا إلى أسوأ تجليات الوعي الطائفي والمذهبي في تاريخ لبنان والمنطقة عموماً، وخصوصاً ذلك الوعي المقلوب والمشوّه الذي أنتجته الحروب الأهلية المتناسلة في هذا البلد، وتم بموجبه تصنيف الآخر السياسي أو الطائفي أو المذهبي تصنيفاً فاشياً لا يعترف بهذا الآخر إلا ميتاً أو مقتولاً، على جاري عادة الإسرائيليين في مقولتهم المأثورة: العربي (الفلسطيني) الجيّد هو العربي (الفلسطيني) الميت.
والوجه الآخر لهذه العنصرية يتمثّل في نزوع حزبي الكتائب والقوات اللبنانية إلى التقليل من شأن الصوت المسيحي غير الماروني، حتى لو كان صوتاً فاعلاً ومقرّراً وحاسماً لجهة ترجيح كفة الفائز في الانتخابات، مثلما كانت الحال أخيراًً مع الأرمن والأرثوذكس والكاثوليك... إلخ. وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على حال من الإنكار للواقع الديموغرافي المسيحي المستجد الذي لم يعد حكراً على التمثيل الماروني، بل تعدّاه إلى مذاهب أخرى باتت تمثّل مراجع في حد ذاتها، وبالتالي فتحت أفقاً وباباً على جديدٍ ما في وعي المسيحيين لدورهم اللبناني، واستطراداً العربي. فكلّما تعدّدت المرجعيات لهذه الطائفة أو تلك، ازدادت القابلية للانفتاح على المدى الوطني الأرحب، وانحسر تأثير الوعي الطائفي الأقلوي المستأثر، وبالتالي بات عرضة للمراجعة النقدية والتاريخية الكفيلة وحدها بتأهيله وإعادة إنتاجه لينتظم تالياً في السياق الوطني العام، المتجاوز لهذه المنظومة المفهومية البائدة، والتي يصحّ تماماً وسمها بالغيتوات الطائفية المغلقة. وهنا المفارقة، إذ لا يجوز لجماعة تستبطن وعياً «غيتوياً» مغلقاً ومأزوماً أن تنعت سواها بهذا الوعي، وإلا نكون قد دخلنا في قاموس الدجل السياسي والاستهتار الأخلاقي والاستخفاف بعقول الناس والرأي العام.
* كاتب سوري