ياسين تملالي *
«هل نحن عرب؟» دقيقة للتفكير، «أم متوسطيون، أجدادنا البربر الوندال والرومان والفينيقيون؟». دعونا ندرس الأمر، ولا تستعجلوا، فأمامنا ألف أزمة وأزمة قبل أن نحسمه. «الجزائر تبحث عن هويتها»، يقول الباحثون، «وقد طال بحثها»، يضيف آخرون. لكنها بالجزم ترفض أن تكون أفريقية. الجزائر تغيرت، تريد أن تكون شقراءَ فاقعاً لونها تسرّ ناظريها الأوروبيين.
الألعاب الأفريقية في تموز. آلاف الأفارقة تنافسوا، فازوا أو انهزموا ثم لموا حقائبهم وانصرفوا. لم ترهم العاصمة إلا لماماً، بعد انتهاء المنافسات، عندما جابوا شوارعها شبه خلسة، باحثين عن هدايا وذكريات. انصرفوا من دون أن تخرج المدينة من قوقعتها المازوخية، قوقعتها «المتوسطية» المفترضة، وهي التي لم تنظر قَطّ إلى المتوسط إلا بحراً يجيء بالغزاة والمحتلين ويلقي في المنافي بملايين المهاجرين.
«كان تنظيم الألعاب بارعاً»، لكن لم يكن لها من طعم سوى طعم الألعوبة الهادفة إلى فك الحصار الرمزي عن البلد وتقديمه للرأي العام على أنه بلد الرخاء والسلام والأمان. الوفود الأفريقية ظلت سجينة الإقامات الجامعية والفنادق والملاعب. لا فرق موسيقية في قاعات «الكونسرت». أما الرائع موري كونتي الذي غنى في حفل الاختتام، فهناك في المدرجات من تساءل عندما ذُكر اسمه: «جينا نشوفو الشاب خالد. على آش جابو لنا هذا الكحلوش؟». أين ألعاب 2007 من مهرجان 1969 الأفريقي، لما كانت الجزائر «قبلة الثوار» وكانت الوفود السوداء تمشي في شوارعها مرفوعة الرأس، وسط الهتافات والتصفيق؟
تامبو مبيكي؟ «أش يكون؟» الفهود السود؟ «قد تكون فرقة موسيقية. لا؟»... «فرانتز فانون؟ مغني جاز، أليس كذلك؟». هذه بعض الإجابات المحتملة لو استفسرنا العاصميين عن هذه الأسماء. قلّة تعرف اليوم هؤلاء المشاهير المجهولين. تامبو مبيكي أحد حاملي لواء النضال ضد الأبارتيد لما كانت نصرة حركات التحرر إحدى أولويات سياسة الدولة الخارجية. الفهود السود: حركة سود راديكالية كانت جزائر الستينات مأوى لها من قمع السلطات الفيدرالية الأميركية. أما فرانتز فانون، فطبيب نفساني مارتينيكي أسود، التحق بالثورة الجزائرية، وكان من أبرز منظّريها، كما كان من أبرز رموز حركة التحرر السوداء. من يتذكر هذه النجوم الآفلة؟ ليس من المستغرب أن يقابل نلسون مانديلا بصرخة «كحلوش» لو جرؤ على المشي في شوارع «المدينة البيضاء». أما «مؤتمره الوطني الأفريقي» فلم يعد يذكره سوى من جاوز سنهم الأربعين.
يُحسن الجزائريون التنكيت على أنفسهم والسخرية من بؤسهم، لكن الكثيرين منهم يسترجعون أنفتهم حالما يلتقون بأجنبي قادم من بلد مأساوي كبلدهم. يستعيدون عقدة تفوقهم، هم الذين هزموا فرنسا والحلف الأطلسي قبل أن يكتفوا بهزيمة أنفسهم. وبما أن لكل مستضعَف مستضعفه، تراهم يتفنّنون في التعالي على السود، ممعنين في التشبه بـ«بورتريه المستعمَر» الذي خلّدهم به ألبير ميمي منذ عقود. السود «يتكلّمون بصوت مرتفع» يقضّ مضجع الجزائريين، والجزائريون كما لا يخفى على أحد، يناجون بعضهم مناجاة عندما يتحدثون. أما «روائح طعام الأفارقة فيا لقوّتها». وينسون تعليقات جاك شيراك عن عبق أكلاتهم في شوارع مرسيليا وباريس.
الجزائر تغيرت. جامعاتها التي كونت جزءاً من نخب أفريقيا المستقلة أصبحت «غيتوهات» للطلبة السود: ولّى العهد الذي كانوا فيه يمتزجون بالجزائريين. شجار بائس في الأحياء الجامعية تحول إلى حملة تأديبية على «الأفارقة»، كما يُسَمَّون عادة، وكما لو كان الجزائريون آسيويّين أو أوستراليين. والصحف طبعاً لا تروي سوى وجهة نظر «الغالبين». وهي من شدّة اهتمامها بالقارّة، ومن كثرة إلمامها بمختلف قومياتها، خلطت في سردها للوقائع بين «الأنغوليين» و«الكونغوليين»، تماماً كما يخلط الأوروبي المتوسط بين كل البلدان التي ينتهي اسمها بـ«ستان»، وكما يخلط الطالب الأميركي النموذجي بين «ألجيريا» و«نيجيريا». وحتى في فرنسا، تحت حكم اليمين، لا تطوى صفحة التعالي على السود. مهاجرون سرّيون أمازيغ في باريس رفضوا الانضواء تحت لواء «حركة المهاجرين غير الشرعيين». فمن الكفر أن يختلطوا، هم الشقر ذوو العيون الزرقاء، بذوي البشرة السمراء. أنشأوا حركتهم الخاصة، «حركة المهاجرين السريين الأمازيغ» (هكذا). وقالوا في بيان تأسيسهم إن لهم قدرات خاصة على «الاندماج في المجتمع الفرنسي». اقرأ: عكس «الأفارقة».
لم يعد الكثير من الجزائريين يعرفون قارتهم بغير همومها، بغير الحرب الأهلية والهجرة السرية. وما عاشته الجزائر في التسعينات، ألم يكن حرباً أهلية طاحنة؟ لا يجيبون. والهجرة السرية، أليست اختصاص أفريقيا الشمالية قبل أن يعم نفعها على باقي القارة؟ الجزائريون، كباقي الشعوب المهزومة، في أشد الحاجة إلى كبش فداء يلقون عليه مسؤولية معاناتهم. البطالة سببها الأفارقة. الإيدز؟ يأتينا من الجنوب. شبكات تزييف النقود؟ مهاجرو دول الساحل. الصحافة هي من توزع مسؤوليات الأزمة على الغير، ورجل الشارع مولع بقراءة الجرائد، وخصوصاً منها تلك التي تلعب على أوتار خوفه الأزلي من الأجنبي، من الغريب. وهي لا تتردد في توجيه الاتهام دونما دليل عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين السود. ولد يختطف ويقتل في ضاحية العاصمة الشرقية؟ الخاطفون سُود، تجيب الصحف، ولا داعي لأن تبرهن على ذلك، تكفيها الشائعات والأقاويل: «حسب تصريحات بعض سكان الحي، من المحتمل أن يكون مقترفو هذه الجريمة الشنعاء من ساكني الحي المحاذي الذي يؤوي الكثير من الأفارقة» (هكذا).
«وباء الهجرة السرية»، «التهديد الأفريقي»... ليست هذه عناوين جرائد يمينية أوروبية متطرفة، بل عناوين صحف جزائرية ديموقراطية.
جريدة عصرية مرموقة: «أعاد مقتل شاب على يد مهاجر من ساحل جنوب الصحراء إلى دائرة الضوء مشكلة الهجرة السرية في مدينة وهران. وقد هاجم شبان الحي الغاضبون فنادق شارع فيليب لطرد المهاجرين الذين يقيمون فيها وأحرقوا متاعهم في ساحة أول نوفمبر». لا تنديد من الصحافي بهذه الوقائع الشنيعة. بالعكس تماماً: ابتهاج مكبوت. عندما يتعلق الأمر بالاستخفاف بأفريقيا، ترجع سيوف «الفرانكوفونيين» و«المعربين» إلى جرابها. يكفّون عن التناحر ويتصافحون.
جريدة ناطقة بالفرنسية: «في تامنراست، أصبحت بعض الأحياء غيتوهات حقيقية لقبائل أفريقية تعيش حسب أعراف بلدانها الأصلية. وقد تحولت المدينة إلى باب تتسرب منه شتى أنواع الآفات، إذ تطورت فيها الكثير من النشاطات غير المشروعة، من المتاجرة بالمخدرات إلى تزوير الوثائق الرسمية والأوراق النقدية، فضلاً عن البغاء. (...) وليس من سبيل الصدفة أن يتزايد انتشار وباء السيدا من سنة لأخرى».
كاريكاتور في جريدة ناطقة بالعربية عن حادث سقوط طائرة كينية: مجموعة من السود تبحث عن علبة سوداء. ها ها ها. المضحك المبكي.
هذه حال الجزائر، بلد ضائع حوّلته الحرب الأهلية والليبرالية الزاحفة إلى جحيم للأجانب الفقراء: «ارجعوا من حيث أتيتم، لا حاجة لنا بالمساكين». هذه حال «مكة الثوار» في عصر القوة والثروة، عصر الاستلاب.
كلمة أخيرة: قائمة الأعداء الوهميين مفتوحة. العدو المقبل، حسب آخر الأصداء، هم الصينيون: العمال الصينيون.
* صحافي جزائري