نظام مارديني *
في الثالث والعشرين من تموز، استيقظ ملايين الأتراك من نومهم على تركيا الجديدة، وقد دخلت مرحلة ما بعد الانتخابات، وأدخلت معها المنطقة العربية في حيرة من ذلك الفوز الكبير الذي حقّقه رجب طيب أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية»، في الحصول على 341 مقعداً من أصل 550 مقعداً، وبنسبة قدرت بـ46.7 في المئة. ووصلت نسبة المشاركة في الانتخابات العامة إلى 83 في المئة، متفوقاً بذلك على أربعة عشر حزباً خاضت الانتخابات التشريعية معه، إضافة إلى المستقلين الذين قارب عددهم 700 مرشح. لكن نظام الانتخابات التركي يقضي بضرورة الحصول على الحدّ الأدنى من الأصوات، البالغ 10% لدخول البرلمان.
ففي الوقت الذي يتعطّل فيه مشروع النهوض العربي لإنشاء كيانات وتجمّعات إقليمية، تؤسس لقيام الدولة المدنية التي تضع تشريعاً حقوقياً متطوراً لها، والمنطلقة من مفهوم المواطنة، ومن أن المجتمع يشكل وحدة حياة (ولا سيما في الهلال الخصيب ووادي النيل)، في هذا الوقت، تعود إلى الواجهة المقاربات المختلفة للنظام التركي وما يجسده من مفارقات في الشكل والمضمون.
وتتداخل هذه المقاربات في إطار توصيف مضامين هذا النظام الذي حمل منذ عقود لواء «العلمانية المتطرفة» في بلد يدين نحو 99 في المئة من سكانه بالإسلام. فكيف يمكن هذا البلد أن يلبس ثوب التطرف العلماني مع ما يستدعيه من تفصيلات في شكل النظام، ويخطو نحو الحداثة بمختلف أبعادها؟ بل حتى إنه يجهد لتعبيد الطريق نحو الاتحاد الأوروبي، فيحاكي سمات القارة العجوز التي نزعت الرداء الديني منذ قرون. وكان من أبرز سمات ظاهرة «العدالة والتنمية» وخصائصه قدرته على تحقيق الإنجازات في مجتمع ذاكرته إسلامية وتعاملاته اليومية علمانية. وهذا النهج المتوازن منح الإسلاميين القوة والقدرة في تحجيم العسكر عندما حدد وقلص أردوغان دورهم في العملية السياسية، وخاصة بعدما عاشت تركيا ردحاً من الزمن تحت وصايتهم وتدخلهم وانقلاباتهم المستمرة.
والآن تركيا أمام منعطف تاريخي، ويبدو أنها حسمت الخيار منذ مطلع القرن المنصرم، فكان التغريب القسري على يد «الأتاتوركية». ومنذ مطلع القرن الحالي، يمّم أردوغان الوجه التركي شطر الغرب، من دون التنكر لهوية بلاده الروحية والثقافية، في ما يمكن أن يسجله التاريخ أن «الأردوغانية» ورثت «الأتاتوركية». وقد لا تبقى حصراً على البيت التركي فقط، بل قد تمتد إلى محيطها الإقليمي. لا شك أن الوسطية التي رفع أردوغان لواءها في الداخل، كان لها أصداؤها الخارجية، وتحديداً في المشرق العربي. ولأكثر من سبب، اكتسبت الانتخابات التركية أهمية خاصة:
أولاً: أعادت هذه الانتخابات الصدقية للعملية الانتخابية على المستوى الإقليمي، وحتى الدولي.
ثانياً: على الرغم من حساسية هذه الانتخابات وأهميتها بالنسبة إلى مستقبل النظام السياسي التركي، فإنها جرت في جوّ عام يحترم القواعد والقوانين، وبالتالي أثبتت أن الوسيلة الانتخابية هي إحدى الوسائل الناجحة لحلّ الخلافات السياسية وتمكين النظم السياسية المختلفة من تجاوز مرحلة عنق الزجاجة من وقت إلى آخر.
ثالثاً: إذا تابع النموذج التركية السير في مجراه الطبيعي، فقد يعطينا هذا مثلاً لعلاقة مختلفة بين نمط من الإسلام السياسي من ناحية والغرب الذي لا يزال متخوفاً من وصول الإسلام السياسي إلى الحكم، لاعتقاده أنه يستغل العملية الانتخابية للوصول إلى السلطة ثم تتوقف الديموقراطية، وهو ما أشار إليه الشاعر الكبير محمود درويش في معرض نقده لحركة حماس ودورها في أحداث غزة. فقال درويش عنها إنها «تريد الديموقراطية لمرة واحدة فقط، للوصول إلى السلطة». لكن حماس التي ابتهجت بفوز حزب «العدالة والتنمية»، هل تؤمن بـ«علمانية تركيا المؤمنة»؟
في ضوء ذلك، يمكن التأكيد أن الانتخابات التركية لها أهمية خاصة تتعدى حدود تركيا. فهي، إذ تحمل مجموعة كبيرة من المعاني والدلالات التي تتجاوز حدود تركيا، فإنها جاءت أيضاً في توقيت بالغ الحساسية، تواجه فيه الظاهرة الإسلامية بأطيافها المختلفة، شداً هنا وجذباً هناك. وبحسب زاوية الرؤية، سوف تنكشف حدود إفرازاتها السياسية ومعالمها المستقبلية في المشرق العربي، وخصوصاً أنّ النخب العربية السياسية انقسمت بين مؤيد لحزب «العدالة والتنمية» أو معارض له، على خلفية مواقف تلك النخب من ظاهرة الإسلام السياسي. وظهرت علامات هذا الانقسام على التغطيات الإعلامية المتباينة لنتيجة الانتخابات التي أصر بعضها على اعتبار أن نتيجة هذه الانتخابات تشكل «فوزاً كاسحاً» لحزب «العدالة والتنمية»، فيما تعمدت وسائل إعلام أخرى ترك انطباع باعتيادية هذه النتيجة.
لكن أهم ما أكدته بعض النخب العربية هو أنها رأت أن نموذج هذا الحزب غير قابل للاستنساخ في المنطقة العربية، حيث توجد جملة من الشروط الموضوعية التي لا تتوافر عند الإسلام السياسي العربي، في حين أنها متوافرة في التجربة التركية التي مرت بامتحانات وتقلبات كثيرة قبل أن تجني ثمار الحراك السياسي الطويل.
يضاف إلى ذلك أنّ صيغة المزاوجة بين الإسلام والعلمانية يصعب تكرارها في أي دولة عربية، لأن لتركيا مقومات ليست متوافرة لدى هذه الدول. ومع ذلك، يمكن اقتباس عناصر محددة منه يمكن تطبيقها كما يقول الباحث المصري فهمي هويدي: أهمها كفاءة النظام التركي في استيعاب الإسلاميين ضمن إطار ديموقراطي علماني. فتركيا نجحت في إجراء مصالحة بين التيار الإسلامي والديموقراطية، وهي المصالحة التي لم تستطع الدول العربية والإسلامية الأخرى أن تطبقها.
ويمكن اكتشاف الفروق الجوهرية بين الإسلام الليبرالي، التركي، وأحزاب الإسلام السياسي العربي. إذ استطاع حزب العدالة والتنمية أن يكون قريباً من الأجندة الحضارية ويقدم اجتهادات خلاقة تتناسب مع تطورات العصر. وهنا لا بد من الإشارة إلى عنصرين مهمّين لعلّهما يوفران جانباً من المشهد العام في المقارنة. الأوّل، الحديث المتواصل عن قيم التكنولوجيا والأخذ بها والسعي بجدية نحو اللحاق بالقطار الأوروبي، فيما لا تزال بعض الدول العربية تتحدث عن الشعوذة. والثاني، انخفاض معدلات البطالة طوال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، وهو ناجم أصلاً عن التنمية والانفتاح.
في العقل العربي، قد يصعب توصيف الحال التركية لما يعتريها من امتزاج بين التديّن والعلمانية في النظام والجيش وفي أزقة المدن وشوارعها التي تشهد معالم وصوراً متناقضة، منها ما يبرز تركيا المسلمة ككثرة الجوامع وانتشار غطاء الرأس (الذي يختلف عن مفهوم الحجاب)، ومنها ما يدل على تحرّر قد يتخطى الغرب في كثير من الأحيان. وتعود هذه الحداثة إلى مؤسس تركيا مصطفى كمال (1881ـــــ 1938) الذي ألغى الخلافة الإسلامية، وألغى الشريعة الإسلامية من المؤسسة التشريعية، وشنّ حملة تصفية على كثير من رموز الدين والمحافظين، وقد منحه البرلمان الوطني عام 1934 لقب «أتاتورك» وهو يعني أبو الأتراك.
قد تكون الظروف والمعطيات التاريخية هي التي أوصلت تركيا إلى انتهاج نموذج مختلط يصعب أحياناً توصيفه بالعلمانية المعروفة في الغرب. لكن التعمق في فهم مضامين العلمانية من شأنه أن ينزع عن هذه الأخيرة المفاهيم الخاطئة التي تعطيها صفة التناقض مع الدين، ويحددها كحالة واضحة تتمثل في فصل الدين عن السياسة، وبالتالي ليست، في أي شكل، حالة من «اللادين». وفي هذا تشير الروائية التركية إيليف شافاك إلى أن الفارق «بين ما يسميه الفرنسيون «لاييسيتيه» (علمانية) والعلمانية كما يفهمها الأتراك أكثر من مجرد فارق لغوي بسيط بالنسبة إلى تركيا التي تبنت النظام «الكمالي» بعد مدة ليست بالطويلة بعد نجاح فرنسا في ترسيخ جمهوريتها العلمانية». وتشكل تركيا نوعاً خاصاً من العلمانية، يختلف عن الممارسة المتعارف عليها في بعض الغرب، أي تلك الممارسة التي تحذر من دخول أي بعد ديني إلى السياسة.
معانٍ ودلالات...
رد حزب «العدالة والتنمية» على تحدي تظاهرات العلمانيين، التي جابت البلاد خلال شهري نيسان وأيار الماضيين، في أزمة الانتخابات الرئاسية بفوز ساحق في الانتخابات البرلمانية المبكرة. لكن السؤال هو: هل كان أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» بدعوته إلى انتخابات مبكرة مطمئنين إلى هذا الفوز؟
بالتأكيد، فبهذه الدعوة أراد أردوغان أن يثبت للأتراك أنه ملزَم باللعبة الديموقراطية، والاحتكام إلى الشعب، بعدما فشل في إيصال مرشحه عبد الله غول إلى سدّة الرئاسة. وتجربته في الحكم (أربع سنوات) أقنعت الأتراك المترددين بأنه لا انقلاب على الجمهورية، وأيضاً لا «أسلمة» للدولة التي تؤرق قادة الجيش، ومؤيديهم من القوميين والعلمانيين، بل مزيد من «الإسلام الإصلاحي» كما يقول الدكتور حسن حنفي، الذي يرى في مقالة له في الجريدة (كويتية) في التاسع والعشرين من تموز: «المهم الآن كيفية تطوير الإصلاح وتحويله من الخطابة إلى العلم ومن الوعظ إلى التحليل، ومن الوجدان إلى العقل، ومن الدفاع إلى النقد حتى لا يكبو من جديد أو تتعثر نهضته إلى سقوط أو تنقلب ثورته إلى ثورة مضادة».
إنها «الأردوغانية» التي ستنقل تركيا من وصايا الجيش إلى البرلمان والشعب، والانطلاق بها من جمود «الأتاتوركية» إلى حيوية الاختبار داخلياً وخارجياً، وما يفرق بين النموذج الآيل إلى الرحيل، وتباشير القادم، أن الأول أتى بانقلاب جذري على «العثمانية» واتجه غرباً، بينما يتدرّج الأخير في ترسيخ الهوية من خلال رؤيته لتركيا العصر والجغرافيا والانتماء، بأقل قدر من الضوضاء.
تلميذ أربكان!
لقد اتبع أردوغان أسلوب الإيمان بالتدرج والمرحلية. فأمام احتكار «العلمانية المتطرفة» لمجمل الحياة العامة في تركيا، استطاع أن يصوغ مفاهيم وممارسات لتفكيك هذه المنظومة المعادية للدين، وأسس ما سمّاه بعض المفكرين «العلمانية الجزئية» أو «العلمانية المؤمنة»، بحسب الباحث توفيق شومان، وهي الأكثر تسامحاً مع الدين في حدود الحريات الشخصية، لا على مستوى النظام السياسي. أي إن أردوغان عمل في اتجاه إنشاء دولة ديموقراطية حديثة متصالحة مع الدين، لكن السؤال أيضاً هو إذا ما واصلت عملية «الدمقرطة» في تركيا مسيرتها، هل ستكون مصحوبة بإراقة الدماء؟ الأمر وارد إذا أصرّ البعض على أن مفهوم «الإسلامي» يساوي «الظلامي»، وأن مفهوم العلماني والليبرالي يساوي المستنير دوماً!
لقد تعلم أردوغان، الكثير من معلمه وزعيمه نجم الدين أربكان، حتى تفوق عليه. بحث في عمق تجربة معلمه في الحزب وفي السلطة وخارجها، فرأى أن عليه تجنّب أمرين، الأول عدم استفزاز الجيش «حارس» العلمانية الأتاتوركية حتى لا يستحضر شياطين العسكر، فيكون مكانه في السجن ومآل حزبه الحظر. والثاني نفي الصفة الدينية عن حزب العدالة والتنمية. وبالرغم من أنه جاء من رحم المؤسسة الدينية، تعليماً وممارسة سياسية، إلا أنه دأب على القول، منذ فوزه بالسلطة عام 2002، إنه لا يمثل حزباً ذا أيديولوجية دينية، لكنه يريد بناء دولة ديموقراطية تفصل بين الدين والدولة كما في أوروبا، ولا تسيطر فيها الدولة على الدين كما هي حال العلمانية الأتاتوركية. لذا ليس من العسير على أنصار حزب «العدالة والتنمية» استيعاب رسالة أردوغان: الإسلام الليبرالي هو أداتنا لتجاوز الأتاتوركية، ومن داخل الهيكل الأتاتوركي!
واللافت للانتباه أن شخصية أربكان التي فشلت في قيادة حزب الرفاه وقادت إلى عزله عن الحياة السياسية، وحلّ حزبه بقرار رسمي، قادت حملة نقد إعلامية شرسة ومضادة لأردوغان ولحزب التنمية والعدالة. فطوال الحملة الانتخابية وأربكان يلقي المحاضرات داعياً الناخبين إلى عدم منح أصواتهم للحزب، متهماً إياه بأنه متحالف مع أميركا ومتصالح مع إسرائيل ومهمل لقضايا الامة، مؤكداً في الوقت ذاته أن من يمنح صوته لهذا الحزب إنما يكون قد اقتطع بنفسه تذكرة إلى جهنم.
هذه اللغة تقترب إلى جمهور الثقافة الأيديولوجية القومية ولغة الإسلام السياسي التي تجاوزت الواقع وخالفته وطرحت نظريات إقصائية عندما حولت الأخضر إلى يابس وعندما ألقت خصومها في غياهب السجون وساحات الإعدام.
هذا النقد خدم حزب «العدالة والتنمية» كثيراً، فمن ناحية نزع مخاوف الكثيرين من أنه حزب أصولي يخفي أجندة غير التي يعلنها. والآن بوسع هذا الحزب أن يتحرك بحرية أكثر. غير أن من المؤكد أن من صوتوا لهذا الحزب كان أغلبهم من القاعدة الإسلامية التي صوتت في عام 1997 لأربكان، وأملهم أن يعمل هذا الحزب على حلّ العديد من المشكلات الداخلية، وأهمها مشكلة الحجاب الممنوع في مؤسسات الدولة الرسمية وفي مؤسسة التعليم.
هذه هي الرؤية الجديدة لتركيا في نشدانها لـ«العلمانية المؤمنة» كحلّ وسط لا يلغي العلمانية من الدستور التركي، لكنه يسمح للإسلام في حدّه الأدنى بالوجود جنباً إلى جنب مع المتغربين. لذلك يبتعد أردوغان عن تطبيق الشريعة الإسلامية، ولن يرفع هذا الشعار كبقية الحركات الإسلامية (ولا سيما في العالم العربي)، بل إن أقصى ما يطمح إليه في هذه المرحلة التي أدرك أبعادها بدقة أن يتمتع الأتراك المؤمنون والمتدينون بالحرية في ممارسة حياتهم اليومية. فالتعددية في جوهرها ليست مجرد مبدأ سياسي، بل إنها في المجتمعات الحرّة تنطبق على الأفراد، سواء أكانوا من الرجال أم النساء.
لقد ظلت تركيا لأكثر من مئة وخمسين عاماً تتساءل عما إذا كان بوسع الإسلام أن يتعايش مع الديموقراطية الغربية. وبعد مئة وخمسين عاماً من التوجه نحو الغرب والحداثة، فإن الإجابة، بحسب الروائية التركية شافاك، هي «أجل بكل تأكيد».
* كاتب سوري