strong> خورشيد دلي *
على الرغم من تمسّّك المؤسسة العسكرية التركية بموقفها من مسألة وجوب أن يكون المرشح لرئاسة الجمهورية علمانياً ومتوافقاً مع قيم الجمهورية التركية، يعتقد المراقبون أنّ وزير الخارجية عبد الله غول بات على بعد أمتار من الوصول إلى قصر تشانقايا الرئاسي. ويعود هذا الاعتقاد إلى مجموعة من الأسباب، لعل أهمّها:
1 ـــــ أن الفوز المدوّي الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية المبكرة والذي يشكل ما هو بمثابة جواز سفر مفتوح للوصول إلى القصر الرئاسي، جعل المراقبين يرون أن من غير المنطقي بعد هذا الفوز الكبير أن يقف الجيش في وجه غول.
2 ـــــ أن التركيبة الجديدة للبرلمان أزالت العقبة السابقة التي منعت غول من الوصول إلى الرئاسة قانونياً. فالقوميون الأتراك الذين حصلوا على 77 مقعداً، إضافة إلى نواب الكتلة الكردية (24 مقعداً)، يحضرون جلسات الانتخاب، مع الإشارة هنا إلى ان هدف القوميين من الحضور هو قطع الطريق أمام لجوء حزب العدالة إلى خيار التحالف مع الكتلة الكردية في البرلمان. وفي الحالتين، فإن حزب العدالة ضمن وصول مرشحه إلى الرئاسة عبر البرلمان.
3 ـــــ على الرغم من هذا الطريق القانوني الواضح للوصول إلى الرئاسة، يبدو أنّ غول وضع في حساباته احتمال أن يقف الجيش في طريقه، وخاصة بعدما فصلت قيادة الجيش أخيراً العشرات من كبار الضباط بتهمة العمل لمصلحة التيارات الإسلامية، وذلك في اختبار جديد لقيادة حزب العدالة والتنمية بعد الفوز. وفي مواجهة هذا الاحتمال، يرى غول ان الوصول إلى الرئاسة ينبغي ألا يأخذ طابع العجلة، وهو هنا يلوّح بخيار الانتخاب الشعبي المباشر في تشرين الأول المقبل، ولعل هذا ما يفسر تصريحه قبل أيام عندما قال: «ليس ضرورياً دفع الأمور بعجلة، إذ إن العملية الانتخابية الرئاسية يجب أن تستمر في مناخ من النضج السياسي الكبير في الاتجاه الذي تحدده النتائج». باختصار، يمكن القول إن فرص وصول غول إلى الرئاسة باتت قوية جداً، وإذا لم تحدث مفاجأة من العيار الثقيل كأن يقوم الجيش بانقلاب عسكري، وهو أمر مستبعد، فإنّ المسافة التي تفصل غول عن الرئاسة هو موعد انعقاد الجلسة الانتخابية الثالثة التي لا تتطلب سوى 267 صوتاً. هل سيغيّر غول وجه تركيا؟ يرى الكثير من المعنيين بالشأن التركي أنّه عندما يصل غول إلى سدة الرئاسة في قصر تشانقايا، فإنّ تركيا ستكون دخلت مرحلة جديدة، مرحلة مغايرة لمسيرة الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك في عام 1923، إلى درجة أن هاجس المرحلة المقبلة دفع بأوكتاي أكشي (كبير المحللين السياسيين في صحيفة حرييت التركية) إلى التساؤل: هل ستتمّ العودة إلى استخدام الأحرف العربية بدلاً من اللاتينية التي اعتمدها أتاتورك في 1928؟ سؤال ليس بسيطاً أو ساذجاً، بل يطرح في عمقه مئات الأسئلة التي تتعلّق بتركيا وهويتها السياسية والاجتماعية واستراتيجيتها وخياراتها السياسية، أي مجمل القضايا التي تتعلق بتركيا دولةً ومجتمعاً وسياسةً وهويةً.
في اللحظة التي سيتسلّم فيها غول سدة الرئاسة، سيرى الأتراك ومعهم العالم أنّ الرئاسات الثلاث (البرلمان ـــــ الحكومة ــــــ الجمهورية) قد أصبحت في يد حزب العدالة والتنمية. وهذه مسألة لا يمكن أن تكون عابرة في بلد ظلت فيه المؤسسة العسكرية قرابة قرن تضع الرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء، بل وتتدخل حتّى في التعيينات المتعلقة بالمناصب البسيطة جداًً، فكيف ستصبح هذه المؤسسة بجيوشها وقادتها تابعة لرئيس جمهورية (غول) محسوب على التيار الإسلامي الذي هو في قطيعة وعداء مع الجيش الذي يرى أن أولى مهماته الحفاظ على القيم العلمانية للجمهورية التركية؟
في نظر قسم من المعنيين، قد يكون وصول حزب العدالة والتنمية إلى ما وصل إليه من مواقع ونفوذ شعبي وسياسي مجرد تحقيق مصالحة تاريخية بين الإسلام والعلمانية وبين التقليد والحداثة. إلا أن، في نظر قسم آخر، ما جرى يشكّل حالة من الأسلمة التدريجية للدولة والمجتمع وفقاً لقواعد اللعبة الديموقراطية التي سنّها الجيش نفسه، والحصيلة تحقيق حزب العدالة ما يشبه انقلاباً أبيض على الجيش الذي قام خلال العقود الماضية بأربعة انقلابات عسكرية كلما أحسّ بأن الخطر (الإسلامي) يهدّده ويهدد القيم العلمانية للجمهورية. والسؤال هو هل ما سبق يعني أن الجيش سيقوم بانقلاب آخر؟ سؤال يطرح نفسه على أذهان الأتراك بقوّة هذه الأيام، إلا أنّ حصوله أمر مستبعد، وخاصة في ظل الظروف الراهنة، من دون أن يعني هذا أن الجيش سيكون متساهلاً في التعامل مع غول.
بغض النظر عن آلية العلاقة بين (الرئيس) غول والجيش، فإنّ مجرد وصول غول إلى سدة الرئاسة يشكل مرحلة جديدة في تاريخ تركيا وسياستها إلى درجة الحديث عن جمهورية جديدة، جمهورية تعمل في الداخل على تحقيق تسوية تاريخية بين الإسلام والعلمانية، وتعمل في الخارج على ربط خيارات تركيا أكثر بمحيطها السياسي والجغرافي ضمن دائرة الانتماء الحضاري الواحدة، بدلاً من التوجّه فقط إلى الارتباط بالخيار الأوروبي والغربي والحلف الأطلسي.
باختصار، تبدو تركيا أمام مرحلة جديدة مع وصول غول إلى الرئاسة. وما يجري فيها لا يعني الأتراك وحدهم، بل مجمل دول المنطقة وشعوبها، في البحث عن معنى مشترك للهوية والاستقرار.
* كاتب سوري