روجيه نبعة *
تبدو المبادرة الفرنسية التي جمعت بصفة غير رسمية مسؤولين لبنانيين في الضاحية الباريسية في ما بات يُعرَف باجتماعات سان كلو في شهر تموز الماضي، تبدو غريبة في جميع جوانبها: الاجتماع نفسه، غائياته، أهدافه، وضيوفه. من هنا، لا بدّ للمتابع من أن يطرح جملة من التساؤلات عن السبب الذي دفع باريس إلى «التورّط» في هذا المشروع غير الفعّال، الذي جمع بدوره ضيوفاً غير فعّالين. فما الجدوى من تنظيم لقاءات مماثلة، أوّل من يدرك عدم جدواها هو فرنسا، الدولة المضيفة، التي كانت أوّل من شكّ في قدرتها على الخروج بالحد الأدنى من النجاحات؟ ففكرة دعوة ممثّلي الصف الثاني من الشخصيات اللبنانية تعبّر في الأساس عن عجز في إقناع شخصيات الصف الأوّل.
أضف إلى ذلك ملاحظة رئيسية تتعلّق بالسبب الكامن وراء دعوة وزارة الخارجية الفرنسية لأشخاص، ليسوا بلاعبين سياسيين على الساحة أصلاً، ولا يدّعون أنهم كذلك، عنينا ممثّلي المجتمع المدني. فكلّ المؤشّرات دلّت حتى قبل موعد الاجتماعات، على أنها ستؤول إلى «اللا شيء».
كيف يمكن فهم الاستثمار الفرنسي في «مغامرة» كانت باريس تدرك مسبقاً أنها ستكون «خطيرة»، وأنها لن تؤدّي إلى اعتراف أحد الأطراف بالجميل الفرنسي. هل نمّت المبادرة الفرنسية عن رغبة في جسّ النبض وربح الوقت كما ذهب بعض المحلّلين الذين وجدوا فيها أسلوباً جديداً من الروح المبادرة تحاول «الإليزيه» تعميمه على مناطق النزاعات منذ وصول الرئيس نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة في أيار الماضي؟ أم هي تندرج، كما فسّرها آخرون، في «هوايات» وزير الخارجية برنار كوشنير المُغرم بالقانون الإنساني منذ أن كان طبيباً متطوّعاً في مناطق الحروب الساخنة، في لبنان ودارفور، وصولاً إلى أدواره التي أدّاها في جمعيّات المجتمع المدني؟
وبما أنّ المبادرة كانت غير مفهومة، لا بدّ من أن يساهم مرور الوقت في تسهيل تفسيرها، والاستخلاص من خباياها المليئة بالغرابة والغموض، حكمة تبدو غير موجودة بالنسبة إلى البعض.
سننطلق في محاولة فك ألغاز لقاءات سان كلو، من مبدأ أنّ توقيت اللقاء ومكانه والمدعوّين إليه من شخصيات الصف الثاني في أحزابهم وتكتّلاتهم، كلّهم عناصر لها علاقة بالتكتيك وأهداف تبريد الأجواء على المدى القصير وبشكل طارئ... بينما تندرج دعوة ممثّلي المجتمع المدني في الحسابات الفرنسية الاستراتيجية، أي تأخذ طابع حسابات المدى الطويل. بكلام آخر، فإن دعوة هؤلاء تتعلّق بالرؤية الفرنسية لمستقبل لبنان، كما يجب، أو كما تشتهي فرنسا أن تراه يوماً ما.
الهمّ الفرنسي
لماذا انخرطت فرنسا في استثمار بدا خاسراً حتى قبل أن يبدأ، ما دامت الأزمة اللبنانية العصية على الحلول ليست أولويّتها في هذه الفترة؟
منذ أن انتهت حقبة «الشراكة العاطفية» بين فرنسا ولبنان في عهد الرئيس جاك شيراك بعد اغتيال صديقه رئيس الوزراء رفيق الحريري، قام كوشنير بزيارة إلى لبنان في 24 أيار الماضي، فور تسميته في منصبه، وذلك «للتعبير عن تضامن وتعلُّق بلاده بلبنان في هذه المرحلة الصعبة من تاريخه». والعبارة تفسها كرّرها رئيس حكومته فرنسوا فييون في 3 تمّوز، في معرض خطابه الأول في منصبه الجديد أمام الجمعية الوطنية الفرنسية، عندما قال: «تكون فرنسا كبيرة عندما تُظهر المثل للآخرين، لأن الأفعال هي دائماً أكبر من الكلام(...) وفرنسا ستظل تعمل من أجل إحلال السلام في إطار الأمم المتحدة وخصوصاً في لبنان، لأننا لن نقبل أن نرى هذا البلد ينزلق نحو حرب أهلية. وفرنسا لن تقف متفرّجة أمام مسلسل قتل القادة السياسيين الذين يجرؤون على الدفاع عن استقلال بلادهم».
بعدها، كرّر كوشنير الوعد نفسه في مقالة نشرتها الصحف المحلية في الرابع من تموز ومعنونة بـ«طوارئ الحوار»، وقد افتتحها بعبارة دراماتيكية: «اللبنانيون وأصدقاؤهم قلقون، فبلاد الأرز تجد نفسها على حافة الهاوية». وعلى هذه العبارة المتشائمة، تأسّس لقاء سان كلو في 14 و15 تموز الماضي. وفي السياق نفسه، سبق الخطوة إرسال المبعوث الفرنسي جان كلود كوسران الى بيروت ثمّ إلى دمشق. وبعدها، عاد كوشنير مرة جديدة إلى بيروت، متعهّداً بأن يعود مجدّداً قبل أن يزور القاهرة «لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم مساعدة لبنان».
غير أنه إذا كانت الأزمة اللبنانية تتفاعل منذ اغتيال الحريري عام 2005 من دون آفاق حلول، فخطورتها تنبع في النظرة الفرنسية في المقابل، من اقتراب الاستحقاق الرئاسي ومن خطر اندلاع الحرب الأهلية التي سيسبّبها الفراغ الدستوري في حال انتهاء المهلة الدستورية الرئاسية، وهو ما عبّرت عنه جميع المواقف والتصريحات والمقابلات الصحافية التي سبقت إعلان كوشنير فشل محاولاته خلال زيارته الثانية للبنان.
وكانت كلمات الوزير الفرنسي لدى مغادرته مطار بيروت معبّرة عن الإحساس الفرنسي بالخطر عندما قال في سلسلة تصريحات: «إن غياب مخرج لحلّ الأزمة قبل شهر أيلول، سيضع الانتخابات الرئاسية التي يجب أن تحصل بين 25 أيلول و25 تشرين الثاني في خطر، فعلى اللبنانيين أن ينتخبوا رئيساً جديداً في أقل من 100 يوم». واعتبر كوشنير أنّ لبنان «يمرّ اليوم في فترة عصيبة جداً من تاريخه، وهي تضع هويته على المحكّ، وخصوصاً إذا لم تُحتَرم المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية». وذهب كوشنير بعيداً في تعبيره عن اهتمام بلاده بالانتخابات الرئاسية عندما ربط كامل أوجه الأزمة اللبنانية بهذه الانتخابات: «إنّ حلحلة الأزمة التي تدوم منذ خريف 2006 عندما انسحب وزراء المعارضة من الحكومة، خمسة منهم من الطائفة الشيعية، هي ضرورية لإجراء الانتخابات الرئاسية، لأنه، وفي حال الفشل، سيغرق البلد في فراغ مؤسّساتي خطير مع عدم اعتراف المعارضة بشرعية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ومع تهديدها بتأليف حكومة ثانية».
وبلغ التشاؤم الفرنسي أوجه عندما قال الدكتور كوشنير: «إذا فشل اللبنانيون في حوارهم، ستقع الحرب للأسف». وهكذا أصبح الكلام الفرنسي عن التخوّف من حرب أهلية إذا لم تجرِ الانتخابات في موعدها شبيهاً بمعزوفة تتكرّر وتحوّلت مع كوشنير إلى هوس مرضيّ.
وبما أنّ مصير لبنان يتوقّف على احترام المهلة الدستورية للانتخابات الرئاسية، فإن أولوية الأولويات بالنسبة إلى السياسة الفرنسية الخارجية، هي الدفع نحو إجرائها في موعدها. لكن هنا أيضاً تظهر معضلة جديدة بالنسبة الى باريس. فهي تدرك أنه ليس بالمهم أن تجري الانتخابات كيفما اتُّفق، لأنّ الإتيان برئيس «حزبي» غير توافقي، لن يحلّ الإشكال السياسي، وهو سيعرّض البلاد مرة جديدة لحرب أهلية وإقليمية!
ظهرت المبادرة الفرنسية لتصوّر لبنان كبلد يخوض سباقاً مع الوقت، يتداخل مع سباق آخر ضدّ موته. ولأنّ فرنسا ليست بدولة «ساذجة»، فهي تدرك أنّ «المسألة اللبنانية» تندرج في سياق أزمة النظام العالمي ما بعد أحداث 11 أيلول 2001. وأدركت الدبلوماسية الفرنسية جيداً أنّ «المسألة اللبنانية» شيء مختلف عن أزمة لبنان، لذلك قرّرت أن تمسك بأصل المشكلة، أي بكلام آخر، أن تحلّ جذور الخلاف عند جميع اللاعبين، المحليّين، لكن خصوصاً الإقليميين والدوليين.
وهذا هو السبب الذي دفع بكوشنير إلى دعوة حزب الله الذي صنّفه ساركوزي منظّمة «إرهابية» عشيّة لقاء سان كلو وزيارة كوسران إلى دمشق.
وعلى رغم التعويل الفرنسي الكبير على الدور المركزي للانتخابات الرئاسية اللبنانية في تجنيب البلاد حرباً أهلية، فإنّ هذه الانتخابات لا تمثّل غاية بحدّ ذاتها. وهي في هذا الإطار، لا تأخذ معناها الحقيقي إلا إذا وضعناها في سياقها الاستراتيجي البعيد المدى الهادف إلى جعل لبنان «دولة محايدة» على الصعيد الخارجي من جهة، وإلى تفعيل النظام الطائفي اللبناني الذي أظهر عجزاً كبيراً عن بناء مجتمع مسالم يحظى باستقلال ذاتي نسبي، «فخلال 64 عاماً من تاريخه، عرف لبنان 32 عاماً من الحروب»، كما ذكّرنا كوشنير مرّة جديدة. على هذا الأساس، تأتي الانتخابات الرئاسية جزءاً أول من سيناريو متكامل.
لبنان «دولة محايدة»
بداية، وجب علينا حلّ لغط لغوي حول العبارة التي نعنون بها هذه الفقرة. فالعديد من الكتّاب والجيوسياسيين يفسّرون «الدولة المحايدة»، انطلاقاً من تعريف يقوم على اعتبارها «دولة تعكس ارتدادات مواجهات الدول المجاورة والبعيدة حتّى، لتصبح ميداناً لصراعات تدور للسيطرة عليها».
لكنّ هذا التعريف ليس ذاك الذي يتبنّاه القانون الدولي. فالعكس تماماً هو الصحيح، بما أنّ هذا القانون يعرّف هذا النوع من الدول بـ«دولة تفصل بين دولتين متنازعتين أو أكثر، وتحول دون وقوع مواجهات بينها، وتحافظ هذه الدولة على مسافة واحدة من هذه الأطراف»، بحسب التعريف الذي يقدّمه ألكسندر كيس عام 1999.
وبناءً عليه، يصبح للدولة المحايدة وضعية حيادية دائمة تلزمها بالبقاء خارج أي صراع مسلّح، وهي وضعية على الدول المجاورة المتصارعة احترامها.
ويعطينا التاريخ القديم والحديث والمعاصر، أمثلة عن هذا النوع من الدول. فبلجيكا تمثّل نموذجاً عبّرت عنه «اتفاقية لندن» عام 1831 بين بريطانيا، النمسا، فرنسا وألمانيا وروسيا. كذلك كان وضع سويسرا في إعلاني عام 1815، وأفغانستان بعد الاتفاق البريطاني ـــــ الروسي عام 1885.
بهذا المعنى الذي يعطيه القانون الدولي، ترغب فرنسا في جعل لبنان دولة محايدة في المنطقة، كي لا يبقى هذا البلد ساحة تصفية حسابات بين القوى الإقليمية والدولية. والهدف من هذا النوع من الوضعيات القانونية المطلوبة للدولة اللبنانية، بحسب النظرة الفرنسية، هو الحفاظ على استقلالها وإعادة صياغة سيادتها في وجه التدخّلات الخارجية تحت شعار «الحياد»، بما أنّ مأساة لبنان هي وضعيّته الجيو ـــــ استراتيجية.
غير أنّ إضفاء صفة الدولة المحايدة على لبنان لا يتحقّق من دون توافر الشروط الضرورية لذلك. وإذا ما عدنا الى تاريخ الدول المحايدة، وبالتحديد إلى الشروط الداخلية والخارجية التي سمحت لها بأن تكون كذلك، نلاحظ التالي:
داخلياً: يستحيل بأن تتحقّق حيادية الدولة إذا لم يكن اللاعبون الرئيسيون، وعلى رأسهم الطوائف، وخصوصاً الرئيسية منها، راغبين في إظهار نيّة «العيش مع الآخرين»، لكنّ طبيعة العلاقات البينية القائمة بين الطوائف من جهة، وحُماتها الإقليميين والدوليين من جهة ثانية، يجعلون من الساحة اللبنانية مليئة بالثغرات، بحيث تختفي مساحات الاستقلال الذاتي للمكوّنات الطائفية، وتعرّضها للتدخّلات الخارجية باستمرار.
وأتت لقاءات سان كلو تحديداً بهدف الالتفاف على القوى الحامية لهذه الطوائف، ولقطع الطريق على تدخّلاتهم في الشؤون اللبنانية تحت حجج حماية الطوائف الموكَل إليهم حمايتها. ولم تكن فرنسا تتوهّم من خلال مبادرتها، أنها تستطيع أن تنجز اتفاقاً فورياً بين الأطراف، ولا حتّى تحقيق وفاق وطني حول المسائل الخلافية الجوهرية.
واقتصرت الأهداف الفرنسية على محاولة بعث دينامية معيّنة من شأنها إعادة وصل خيط الحوار بين اللبنانيين كمرحلة أولى. ولم يتردّد كوشنير بالتعبير عن ذلك عندما أوضح: «ما تستطيع وما يجب على دولة كفرنسا أن تفعله، هو مساعدة اللبنانيين على إعادة وصل خيط الحوار، لذلك دعونا ممثّلي القوى السياسية التي شاركت في جلسات الحوار الوطني عام 2006، إلى الاجتماع إلى جانب بعض الممثّلين عن المجتمع المدني».
لكن ها هي استراتيجية كوشنير في الالتفاف على عناصر الأزمة، تنقلب على المبادرة، وهو ما عبّر عنه إعلان الفشل على لسان رئيس الدبلوماسية الفرنسية خلال زيارته الأخيرة لبيروت في 28 تموز.
وإذا أردنا العودة الى استخلاص العبر من تاريخ الدول المحايدة، نرى أنّ أياً منها لم يستطع أن يكون فعلاً محايداً إلا عندما عرف ميزان القوة الإقليمي والدولي استقراراً قام على «مساومة تاريخية» تستبعد منطق المواجهات الحربية، وسمحت للدول المطلوب لها أن تكون محايدة، أن تعزّز استقرارها ومسافتها عن القوى المعنيّة. وهو ما يصحّ حرفياً على تاريخ لبنان... وهو ما ليس متوافراً اليوم. فالمبادرة الفرنسية فشلت في تجنيب لبنان آثار الأزمات الإقليمية «لأنّ التناقضات لا تسمح بذلك»، كما عبّر الشاعر الإيطالي دانتي أليغياري.
أما الصياغة التي وضعها كوشنير فهي بقوله: «لا يقتصر تحديد مصير لبنان على اللبنانيين، لأن جزءاً كبيراً من هذا القرار يُحسم في إيران وسوريا». هل يعني هذا الكلام أننا عدنا إلى المربّع الأوّل من الصراع الذي غالباً ما يعبَّر عنه بـ«الحائط المسدود»؟ ليس تماماً، لأنّ كوشنير استخلص درسين مهمّين: «يجب ممارسة المزيد من الضغوط على سوريا وإيران لإفشال التأثيرات التي تهدّد باندلاع حرب أهلية». وهو اقتراح يعني من ضمن ما يعنيه، الانقلاب على الأطراف الإقليمية التي توفّر الحماية لبعض الطوائف والمكوّنات اللبنانية. وثانياً، ضرورة «اختراع» مجتمع أهلي مدني في لبنان، يمكنه أن يحل ـــــ ولو على المدى الطويل جداً ـــــ مكان النظام الطائفي الذي فشل مرة جديدة في خلق إجماع لبناني على مسلّمات تسمح بالعيش معاً.
المجتمع المدني
لم ينسَ كوشنير الإشارة إلى حداثة مبادرته في دعوة ممثّلين عن المجتمع المدني لحضور لقاءات سان كلو. وقال في هذا السياق في 15 تموز، «هذه هي المرة الأولى في تاريخ الشرق الأوسط، التي يُوكل فيها للمجتمع المدني حضور اجتماعات من هذا النوع». ولفت كوشنير في القاهرة، إلى حملة «خلص ـــــ معاً من أجل إنقاذ لبنان»، التي أطلقتها مجموعة من منظّمات المجتمع المدني للطلب من المسؤولين السياسيين حلّ الأزمة السياسية من خلال الطرق السياسية والدبلوماسية والديموقراطية، وهو ما وصفه الوزير بأنه «ظاهرة بالغة الأهمية، لأنها تعبير عن رغبة المجتمع المدني في المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية».
لكن بعيداً من المشاركة المذكورة في سان كلو، ماذا يعني بدقّة مصطلح «المجتمع المدني»؟ على رغم أنّ تعريفه تطوّر عبر السنين، تبقى الفكرة من المقاربات المميّزة في الفكر السياسي الغربي. وهي وُلدت مع أرسطو، وطوّرها الفيلسوف الألماني جورج فريديريك هيغل الذي أعطاها فحواها السياسي الحديث، وثمّ تناولتها «العولمة» التي أودت بجزء كبير من قيمتها.
من أرسطو وصولاً إلى هيغل، عُرّف المجتمع المدني بمنظومة مناقضة «للمجتمع الطبيعي»، الذي يميّز حالة الطبيعة. فبينما يسود مجتمع الطبيعة، قانون الغاب وشريعة «كلّ يعمل لمصلحته فقط»، فإنّ المجتمع المدني «الممدَّن»، يمثّل سيطرة العامل البشري بكونه «حيواناً اجتماعياً»، يعمل على المساعدة والتشارك والتضامن والعدالة الاجتماعية. من جهته، استعاد هيغل الفكرة نفسها، مع فارق أنه وضع المجتمع المدني في مواجهة «المجتمع السياسي». وبما أنّ «الحداثة» تقوم على أساس الفصل بين المجتمع والدولة، فعلى الطرف الأوّل أن يكون قادراً على الدفاع عن مصالحه عندما تحاول «حكمة الدولة»، أو الدولة، أن تعتدي عليها.
وفي هذه النقطة، أضافت الحداثة إلى تعريف المجتمع المدني مضموناً جديداً له علاقة بالديموقراطية، وهو ما بات يُعرَف بالتمثيل الشعبي أو الاجتماعي الذي صار يتجسّد في ومن خلال المنظّمات الأهلية، من جمعيات ونقابات... وبعد الإضافة النوعية التي قدّمها هيغل، أصبح بإمكاننا تعريف المجتمع المدني بـ«مجموعة المنظّمات، الاتحادات، النقابات والمنظّمات غير الحكومية الخارجة عن سيطرة الأحزاب السياسية والإدارات العامة، والتي لا تهدف إلى الوصول الى السلطة السياسية، ويقتصر هدفها على الدفاع عن حقوق ومصالح إحدى مكوّنات المجتمع التي تمثّلها هذه الجمعيات».
واستعادت العولمة هذا التعريف، لكنها وظّفته في خانة الانتهازية، بما يخدم حاجاتها. وبما أنّ حاجات الغرب ليست هي نفسها حاجات باقي أنحاء العالم، تجزّأ تعريف المصطلح إلى جزءين. وهذا ما يعنينا في المبادرة الفرنسية عندما دعت ممثّلي المجتمع المدني الى سان كلو، وهو ما يجب أن يكون مثار نقاش حول «ماذا تريد فرنسا من لبنان ومن مجتمعه المدني»؟
مهما كان التعريف الذي نعتمده للمفهوم المذكور، فالنظرة المعمّمة الى المجتمع المدني تقوم أساساً باعتبارها نقيضاً للمجتمع الطبيعي بحسب تعابير الفلاسفة القدماء، ونقيضاً للمجتمع السياسي عند الحديثين. وإذا أردنا إسقاط هاتين المقاربتين على الوضع اللبناني، لا بدّ من طرح التساؤلين المشروعين الآتيين: نقيض ماذا مطلوب أن يكون المجتمع المدني في لبنان؟ ثمّ ما هي القدرة التمثيلية التي يتمتّع بها هذا المجتمع المدني؟
وإذا قرّرنا أن تكون الإجابة بأنه لا يمثّل ما يكفي، فما الجدوى منه؟ أمام هذا الواقع، يجب التنبّه إلى أنه في الحالة اللبنانية، يجب قلب تراتبية الأسئلة. فمن خلال التساؤل عن مدى قدرته التمثيلية، يمكننا استخلاص العنصر الذي يمكن أن يكون المجتمع المدني ردّة فعل عكسية ضدّه.
إنّ استعراض لائحة الشخصيات المدعوّة لتمثيل المجتمع المدني (السادة: زياد بارود، غالب محمصاني، جوزف ميلا، كامل مهنّا، غسّان سلامة)، كافٍ لمعرفة ما الذي تريده فرنسا من هؤلاء، مراعين الظروف السياسية العالمية المتزامنة مع تاريخ المؤتمر الذي عُقد في سان كلو.
هؤلاء السادة هم مفكّرون حصّلوا معارفهم في الغرب، وبالتالي هم حملة نمط عيش غربي ليبرالي، وهو العنصر الذي أنظر إليه كرئيسي، بما أنّ هؤلاء يحملون شعارات هذا الغرب ويسعون لتطبيق مفاهيمه على لبنان، ومن أبرزها: الديموقراطية على النسق الغربي، التعدّدية، وتحديث (من حداثة) الحياة السياسية العامّة.
وعلى رغم كلّ الاحترام الذي أكنّه لأشخاص هؤلاء السادة، من ناحية كفاءاتهم ونجاحاتهم المهنية، غير أنّي أعتبر أنه ليس لدى هؤلاء شيء من قدرة تمثيلية للمجتمع المدني: لا من جهة المصالح الشعبية، أو الاجتماعية أو المهنية ـــــ النقابية أو الإنسانية. والسبب وراء ذلك يعود إلى أنّ تجربة المجتمع المدني في لبنان، بقيت مقصّرة في اختراق الأوساط الشعبية والاجتماعية، على رغم أنّ التجربة اللبنانية في هذا المجال، تبقى الأنجح والأوسع انتشاراً والأكثر «غربيةً» في منطقة الشرق الأوسط.
انطلاقاً من هذه الوقائع، لماذا دعت باريس هذه الشخصيات التي لا تمثّل أحداً فعلياً؟ ولماذا السعي الى خرطهم في السياسة بما أنهم ليسوا بلاعبين فاعلين يُحسب لهم الحساب؟ والسؤال الأهمّ هو لماذا سعى الوزير كوشنير ــــ الذي أعلن رسمياً من القاهرة ولادة المجتمع المدني اللبناني لأول مرّة ــــ إلى «توريط» ممثّلي هذا المجتمع المدني في السياسة التي ليست في لبنان سوى مجموعة طوائف متصارعة؟ هل فعل ذلك ليفسح الطريق أمام الشخصيات الخمس ذات الثقافة الغربية ليتّحدوا كـ«قوى مدنية» وكلاعبين سياسيين تمهيداً ليصبحوا قادرين على التسريع في تأسيس المجتمع المدني، وليؤدّوا دوراً مستقبلياً في الحياة العامّة كممثّلين عن هذا المجتمع؟
للأسف، إن تأسيس المجتمع المدني بهدف استراتيجي أن يكون رافعة وأساساً لتحديث «المجتمعات» اللبنانية وتحويلها إلى مجتمع لبناني، هو أمر مثير للغرابة حقّاً، لأنّه ليس هذا المطلوب، إذ يجب تغيير اللعبة برمّتها لا تغيير قواعد اللعبة الحالية.
ومرّة جديدة، نعود لطرح السؤال عن هوية العنصر الذي نسعى لتأسيس المجتمع المدني ليقوم في وجهه، والإجابة واضحة وجلية: فالمجتمع المدني، وليد الحداثة الغربية، لا يمكن أن يقوم إلا في وجه «المجتمع الطائفي»، الذي يجسّد مرحلة ما قبل الحداثة، والذي يُعتبَر العائق الأوّل أمام التطوّر نحو مرحلة الحداثة.
في النهاية، يجب قياس الفترة الزمنية الطويلة المطلوبة لهذه الغاية الاستراتيجية، بالنسبة إلى طوارئ المرحلة الحالية. لأنه، وللنجاح في بناء المجتمع المدني في لبنان، يجب العمل على حياة البلاد واستقرارها، من خلال احترام قواعد اللعبة السياسية، التي تمرّ إلزامياً من خلال «مذلّة» الانتخابات الرئاسية.
* كاتب لبناني
(ترجمة أرنست خوري)