سهير أبو عقصة داوود *
‏منذ بدأ الدم الفلسطيني يسيل على يد الزناد الفلسطيني وعلى يد التحريض الفلسطيني، الذي قبل أن تدعمه إسرائيل وأميركا، تدعمه أنظمة عربية سئمنا منها ومن تعفّنها، والعديد من الفلسطينيين الفخورين أصبحوا يصرحون بمناسبة وبغير مناسبة بأنهم يخجلون من انتمائهم الفلسطيني ومن فلسطينيتهم، بل وصلت الدرجة الى ان بعضهم شطبوا فلسطين من هويتهم قائلين: «إذا كانت فلسطين ليست موجودة على الخريطة، فإنها لم تعد أيضاً موجودة في الذاكرة لأنها أصبحت مجرد سلطة فلسطينية فارغة
المعنى يقتتل عليها ويَقتل من أجلها القيمون على مصير هذا
الشعب». حسرتي على هؤلاء لأنّهم عندما يتنازلون عن انتمائهم الفلسطيني، ولو بتصريح في ساعة غضب، فإنهم يديرون أنفسهم وضمائرهم لملايين من أبنائنا تحت الاحتلال الاسرائيلي ـــــ العربي ـــــ الأميركي ــــــ الدولي ـــــ الفلسطيني. وهم بهذا ينفضون عن أنفسهم أقل ما يمكنهم فعله: التضامن مع أنفسهم وهويتهم، فيتنكرون لأنفسهم في أحلك الظروف. وغضبي على قيادة هذا الشعب التي أقل ما يجب فعله هو زجّها وراء القضبان وإعدامها في تاريخ النضال الفلسطيني المشرق الذي لم يخذله يوماً سوى قادته.
وعلى رغم وصولنا اليوم الى واحدة من أحلك فترات شعبنا وأكثرها سواداً، فإنني أعتز بفلسطينيتي. أعتز بشعبي العظيم وأحزن من أجله ولكني أبداً لا أفقد الإيمان به. فعدالة قضيته أعظم من أية محنة وأقوى من أية مؤامرة. وإذا كان شعبي يستحق الاعتزاز فإن قيادته لا تستدعي إلا الخجل والغضب والازدراء. فالشعب الفلسطيني أقل ما يستحقه هو قيادة عزيزة مقاومة نظيفة لا قيادة بعضها نهب أموال اليتامى ورقص في ملاهي جلادها، وبعضها الآخر تصرف كالوحوش وقتل في الشوارع من دون أدنى حدود إنسانية وحضارية وهو يتاجر بالدين والإيمان.
قيادتا فتح وحماس وطوابير الوزراء والمناصب التافهة التي يزحفون بها في أذيال أوسلو قد وصلتا منذ زمن الى الدرك في الخطاب السياسي الاستهلاكي والممارسة الإجرامية ضد أبناء الشعب الواحد، وبقاؤهما يهدد مستقبل الشعب الفلسطيني. فتح السلطة وحماس حركتان أثبتتا أنهما عار على جبين النضال الفلسطيني. حركتان ترفضان التفاوض إلا عبر وساطة عربية، وربما إسرائيلية، وبإذن أميركي. يا للخزي ويا للعار. بأي عين وبأي وجه تفتعل كل منهما الشرف والأخلاق والأمانة واليد النظيفة لقيادة الشعب الفلسطيني، وهما قد وصلتا الى أسفل الدرك في تعاملهما مع شعب لم تبق نكبة إلا ونُكب بها، وأهمها نكبتهم بقيادتهم العربية والإسلامية، واليوم أكثر من أي وقت لنكبتهم بقيادتهم الفلسطينية.
تحصد اسرائيل وعلى رأسها أولمرت المهزوم في الحرب الأخيرة نتائج يعجب لها المتابع. تحول هزيمتها النكراء ضد المقاومة اللبنانية الى ربح في ميادين عدة: دولياً وعربياً وفلسطينياً.
وعلى المستوى العربي، ومنذ انتهاء حرب تموز، هنالك توافد غير مسبوق ووقح للزحف العربي متوّجاً بجامعته العربية (والأجدر تسميتها المفرقة وليست الجامعة) نحو اسرائيل وتقديم مبادرات أقل ما يقال فيها إنها تقدم الدم الفلسطيني والحق الفلسطيني على طبق مجاني لإسرائيل وتبصق فيه. هي تعقد الاجتماعات وترسل الوفود وتستقبل أخرى لبحث مصير فلسطين والفلسطينيين وتتاجر بهم، وكأن الشعب الفلسطيني شعب يتيم لا حول له ولا قوة ولا رأي ولا فعل ولا مغيث ولا معين.
مصيبتنا كانت دائماً في قياداتنا. مصيبتنا الأكبر في أنفسنا، زعماء ومثقفين.
مثقفون فلسطينيون يعيشون على هامش التاريخ ويقتاتون من فضائيات النفط وقصوره ويشدون على أيادي الزعماء التافهين الجلادين ويتشبثون بكراسٍ ليس لها أرجل.
لقد وصلنا الى مرحلة يجدر بها حساب النفس العسير. مرحلة نخجل فيها من أشياء كثيرة. ولكن الخجل ليس من هويتنا. قد نخجل من ملايين العرب النائمين الذين لا توقظهم سوى قرقعة أغاني خريجات معاهد التجميل، ونخجل، لا بد، من الذين يهللون للقتل في الطرقات والجلد والإجرام، وهم من أوكلت لهم سلطة القانون. نخجل من هذا العالم الذي يتشدق بالإنسانية وحقوق الإنسان وهو يغتال في كل يوم فلسطينيين منذ أن تهجروا جُرّدوا من أدنى حقوقهم. أما الدول العربية وقيادات الدول العربية، فهم أبداً لا يدخلون حساب الخجل. فهم أبداً لم يكونوا في معادلة تنصف الشعب الفلسطيني أو حتى شعوبها المقموعة. ونخجل أكثر ما نخجل من أبو مازن هذا الذي يجب أن ينال لقب وصمة العار والذي لم يخجل من أن يقف ضد محاولة، وإن كانت لها أهداف سياسية، لنقل معاناة فلسطينيي غزة الى طاولة البحث في الأمم المتحدة، والذي يطالب حماس بالاعتذار ويهرع الى أصدقائه الصهاينة أصحاب النكبة من دون أن يجرؤ على أن يتقدم بمطلب فلسطيني واحد سوى ملاحقة المناضلين منهم. ونخجل من قيادة حماس التي منذ أن قررت الدخول في لعبة أوسلو كشفت عن وجهها الحقيقي المتطرف والانتهازي دينياً واجتماعياً والمشوّه سياسياً.
ولكن المرحلة لا تتطلب البكاء على الذات، بل إطلاق الصرخة بأن اقتتال فتح وحماس لا يلغي حقيقة أن ملايين الفلسطينيين في الضفة وفي غزة لا يزالون تحت احتلال لا يرحم، وأن ممارسات حماس وفتح جعلت من سجنهم الكبير جهنم. على الفلسطيني ألا ينفض يده من المسؤولية في الوقت الذي يعيش فيه الطفل والطالب والمرأة والعامل وجميع شرائح الشعب الفلسطيني، اللهم إلا الجالسين على سدة الحكم والمنتفعين منه، في عذاب يومي، فيما قياداته لا تعي إلا التجاذب على القنوات الهوائية بخطابات تافهة مليئة بالنفاق السياسي والإنساني.
فيما نعتزّ بفلسطينيتنا، يجب إطلاق الصرخة: يا شعبي العظيم انهض من جديد وتنظّف من قيادتك. أنت قادر على استيلاد ألف قيادة بديلة.
* كاتبة فلسطينيّة ومحاضرة في العلوم السياسية ــــــ كاليفورنيا