رياض صوما *
غداة انتهاء الحرب الباردة، وعشية حرب الخليج الثانية، خاطب جورج بوش الأب أعضاء الكونغرس: «نحن اليوم في آونة فريدة واستثنائية. تلوح أمامنا فرصة بناء نظام عالمي جديد، في عالم متحرر من التهديد بالرعب، وقادر على حماية العدالة، وآمن بظل سلام شامل. عالم يحل فيه حكم القانون محل شريعة الغاب. وتقر فيه الأمم بالمسؤولية المشتركة عن الحرية. ويحترم فيه الأقوياء حقوق الضعفاء».
من يقرأ هذا الكلام ولا يعلم من هو قائله، يرجح أن ينسبه الى أحد مناضلي حركات الحقوق المدنية، أو أحد أعضاء حركة أنصار السلم، لا إلى رئيس الولايات المتحدة الأميركية. فخلال أقل من عقدين من الزمن، خاض الأميركيون خمس حروب كبيرة، وأداروا ما يقارب عشر أزمات دولية، بعضها تطور الى صراع مسلح. ويكاد الحلم الوردي الذي تخيله جورج بوش الأب، أن يتحول الى كابوس عالمي على يد جورج بوش الابن. فقد وسعت الإدارات الأميركية المتعاقبة الحلف الأطلسي الى حدود روسيا. وأعادت إحياء وتنشيط أحلافها العسكرية في شرق وجنوب شرق آسيا. واحتلت عملياً وسط آسيا، وكل الشرق الأوسط الكبير. وشجعت سلسلة ثورات وانتفاضات معادية للروس في الجمهوريات السوفياتية السابقة. ورفعت موازنتها العسكرية من مئة وخمسين مليار دولار تقريباً في مطلع التسعينيات، الى أكثر من أربعمئة مليار دولار، في السنة الحالية. وتطرح إدارة بوش الآن على الكونغرس، مشروع قانون لإضافة مئة مليار أخرى، بسبب تزايد كلفة الحروب الدائرة في منطقتنا، بمعزل عن الثلاثين ملياراً التي أقرت لدعم القدرات الهجومية لإسرائيل.
وكان قرار بناء النظام المضاد للصواريخ في تشيكيا وبولونيا، القشة التي قصمت ظهر البعير، بالنسبة إلى القيادة الروسية. فقد كانت تلك القيادة، وباقي القيادات العالمية غير الملتحقة بالأميركيين، تكتفي بمراقب المسيرة «الحربجية» للولايات المتحدة، ولإدارة جورج دبليو تحديداً، بقدر كبير من القلق والانزعاج. ولكنها باتت الآن تنتقل تدريجاً من المراقبة الى الفعل.
فخلال العامين 2006 و2007، صدرت سلسلة تصريحات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولوزير خارجيته لافروف، تنتقد بحدة النهج الأميركي، والسياسة الإمبريالية التي تعتمدها إدارة جورج بوش الابن. واعتماد هذه الإدارة أكثر فأكثر على التلويح بالقوة، واستخدامها، لفرض إرادتها على الآخرين. ثم بدأت القرارات والمبادرات العملية الروسية، والصينية بدرجة أقل، للرد على التحدي الأميركي والأطلسي. فاتخذت الحكومة الروسية قرار الانسحاب من اتفاقية خفض القوات التقليدية في أوروبا، التي لم يحترمها الغربيون. ثم باشر الروس تطوير منظوماتهم الصاروخية العابرة للقارات، ومنظوماتهم المضادة للصواريخ. وفي الشهر الماضي، دشن الرئيس الروسي منشأة رادار خاص بالدفاع ضد الصواريخ العابرة للقارات في غرب روسيا، مشابهة لتلك التي ينوي الأميركيون بناءها في شرق أوروبا. وزادوا مبيعاتهم من السلاح لحلفائهم الحاليين، وبعض حلفاء الاتحاد السوفياتي السابق، وخاصة للصين والهند وإيران وفنزويللا وسوريا.... لموازنة زيادة المبيعات الأميركية والغربية لحلفائهم. وأعلن بوتين منذ أيام، خلال المعرض الجوي الذي أقيم في قاعدة زوكوفسكي، تصميم روسيا على استعادة موقعها المتقدم السابق في ميدان صناعة الطيران المدني والعسكري. وبموازاة ذلك، وفي الظرف الدولي الراهن، ارتدت القمة التي عقدتها دول منظمة شنغهاي في بشكيك عاصمة قيرغيزستان، وحضرتها إيران بصفة مراقب، أهمية مميزة. ففي هذه القمة، تجاوز الإعلان السياسي الصادر عنها، السقف التقليدي الذي كان يركز على التعاون الاقتصادي والأمني، الى الحديث عن سعي المنظمة لإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، مكان النظام الأحادي الذي يحاول الأميركيون والأطلسيون فرضه على العالم. والأهم من ذلك، المناورات العسكرية التي تلت القمة وحضرها القادة المشاركون، حيث شكلت تلك المناورات رسالة الى الأميركيين، بأنهم لا يحتكرون التكنولوجيا العسكرية الحديثة، وأن منظمة شنغهاي وحلفائها يملكون ما يوازيها.
على رغم ذلك، يبدو أنّ الروس والصينيين من جهة، والأميركيين والأطلسيين من جهة أخرى، يحرصون على وضع هذه التحديات والضغوط المتبادلة في إطار التنافس. ويتجنّبون الحديث عن عودة الى الحرب الباردة. وقد كررت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية «متذاكية»، وكأنها تراهن على «سذاجة» القادة الروس، بأن ما قام به الأميركيون لا يستهدفهم، ولا يهدد أمنهم ومصالحهم الاستراتيجية، وبالتالي لا داعي لقلقهم. وأكدت مراراً أن لا حرب باردة جديدة في الأفق. أما لافروف فقد حاول التخفيف من حدة تصريحات بوتين، بنفي رغبة الروس في العودة الى المجابهة مع الغرب، ووضع ردة فعلهم في سياق الرد الطبيعي على ما يتعرضون له من ضغوط وتطويق استراتيجي.
ولكن إذا تجاوزنا اللياقات الدبلوماسية، التي لا بد منها في علاقات الدول، وخاصة العظمى منها، فإن التحولات الجارية على النطاق العالمي راهناً، لا يمكن وصفها إلا ببدايات حرب باردة ثانية. فالحرب الباردة الأولى التي بدأها الأميركيون عندما قرر ترومان سياسة تطويق الاتحاد السوفياتي بالأحلاف والقواعد العسكرية، لم تكن مجرد خيار ذاتي غير عقلاني اتخذته الإدارة الأميركية. لقد كان انعكاساً لتضارب المصالح الاستراتيجية بين قوى رأس المال الغربي وبين المشروع الاشتراكي السوفياتي. ولم يكن التضارب الأيديولوجي سوى أحد تعبيرات التناقض بين تلك المصالح. وعندما تحدث جورج بوش الأب، غداة انتهاء الحرب الباردة، عن عالم رائع قائم على السلام والعدل والحرية، وكان غورباتشيف قد سبقه بالحديث عن عالم يسوده التضامن وتوازن المصالح بدل توازن الرعب، كانا يتحدثان عما كان ممكناً نظرياً، لا ما دفع في اتجاهه رأس المال العالمي.
فقد رأى قادة الغرب وحلفاؤهم أن الفرصة التاريخية التي أتاحها الانهيار السوفياتي قد لا تتكرر، فانقضّوا بشراسة على كل مواقع الاعتراض والمقاومة الاجتماعية والسياسية والثقافية للسياسات النيوليبيرالية في العالم، من أجل تصفيتها. وقد نجحوا في مواقع عديدة. ولكن نهوض روسيا في السنوات الأخيرة، والتقدم المذهل للصين، ونكسات سياسة التفرد والغطرسة الأميركية في الشرق الأوسط الكبير، غيّرت المعادلة الدولية الى حد ما. وستنضم مواقع أخرى لرفع التحدي بوجه تفرّد الأميركيين في المراحل المقبلة. وسيردّ هؤلاء، كما فعلوا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، بالإصرار على محاصرة أخصامهم ومنافسيهم، ما سيدخل العالم مجدداً في حرب باردة ثانية، تبدو مؤكدة. فهناك استحالة لإقناع إدارة جورج بوش الابن، كما يتضح يوماً بعد يوم، باحترام مصالح الآخرين، والتخلي عن مشاريع الهيمنة. ولعل التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي والمتحدثين باسمه، التي ركزت على واجب إقناع الشعب الأميركي بتحمل أكلاف البقاء في العراق، بدل إقناعه بضرورات الانسحاب، تعطي فكرة عن نمط تفكير القادة الحاليين للولايات المتحدة. وقد لا تختلف سياسات الديموقراطيين في العمق، عن هذه التوجهات فيما لو ربحوا الانتخابات المقبلة، لأن التناقض الموضوعي بين طبيعة المصالح الاستراتيجية للأميركيين، ووجهة تغير موازين القوى العالمية، سيدفع القيادة الأميركية أياً تكن، لتصعيد المواجهة مع قوى الاعتراض. ولكن قد تختلف الحرب الباردة الثانية عن الأولى، بسمات أهمها:
ـــــ تراجع المبررات الأيديولوجية المعلنة للصراع، لمصلحة المبررات الاقتصادية والسياسية.
ـــــ غياب الترابط بين التغيير الاجتماعي ودينامية المواجهة المقبلة، بفعل تشابه النظم الاجتماعية للقوى الدولية المتصارعة.
ـــــ انتقال مركز ثقل الكتلة المقابلة للأطلسي شرقاً، بفعل صعود وزن القوى الآسيوية المشاركة بالمواجهة.
ـــــ السيولة المتزايدة في أشكال التصادم، وحركة التحالفات وتداخلها، نتيجة تعدد مراكز الاستقطاب، إذ يتسارع الانتقال من الاستقطاب الثنائي الذي ساد الحرب الباردة السابقة، الى الاستقطاب المتعدد الأطراف.
ـــــ انتقال ساحة الصدام الرئيسية من أوروبا الى الشرق الأوسط الكبير. وهذا يفسر الى حد كبير، عنف الصراعات الدائرة في منطقتنا، والمرشحة للمزيد من الاشتعال.
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني