ماجد الشيخ *
بين عشية وضحاها ووسط تضارب المواقف حد التناقض الصارخ، كرر الرئيس الأميركي جورج بوش أمام مؤتمر قدامى المحاربين في كنساس بولاية ميسوري (21/8) تمسكه بالبقاء في العراق، من أجل تجنيب الأميركيين ما عايشوه من معاناة وآلام بعد الانسحاب من فيتنام، يوم انسحبت القوات الأميركية قبل إتمام المهمة. وبما أن «المهمة العراقية» لم تنجز بعد، فإن البقاء في العراق يصبح تحصيل حاصل الوضع الاحتلالي ووضع حكومة نوري المالكي التي أعاد بوش تأكيد دعمها في كندا، بعدما عبّر عن أدائها المخيّب في كنساس، وذلك بعد تدخّل خبراء الأمن القومي الذين يرون أن لا بديل للمالكي حالياً.
ولا يبدو أنّ الحرب على العراق وما أدّت إليه من نتائج كارثية، قادرة على دفع واشنطن الى بلورة استراتيجية حقيقية تحظى بإجماع داخلي أولاً، وبإجماع مجتمع الدول ثانياً. ظهر هذا منذ بداية الاحتلال مروراً بولايتي بوش الأولى والثانية، ويستمر الآن حيث يجري الحديث عن «استراتيجية جديدة»، وما يجري هناك لم يتعدَّ بعد مجموعة تكتيكات «الصدمة والترويع» الفاشلة التي عكست إخفاقات متناسلة داخلياً وإقليمياً ودولياً، بتخلي أقرب الحلفاء عن مشاركة واشنطن أحلامها وطموحاتها الوردية في تحقيق أو إنجاز مهمة مرت في طور العديد من التسميات التي تلخص أو تختزل «استراتيجية نصر» مشتهاة من قبل حكام البيت الأبيض ومن بقي من «محافظيه الجدد» أصحاب رؤية «الثورة الدائمة» التروتسكية المنشأ، الإمبراطورية والشمولية المحتوى أصلاً وفصلاً.
لقد تحولت «منارة الديموقراطية»، وفق «الحلم الأميركي»، لعراق ما بعد الاحتلال إلى نفق مظلم، بات يوزع عتمته في كل المحيط الإقليمي على شكل حروب أو عبر التهديد بها: عرقية، طائفية، مذهبية.. إلخ من أشكال الصراعات. فإذا كانت «الديموقراطية» الأميركية المزعومة لم تجلب للعراقيين غير موت الحرية التي افتقدتها بلاد ما بين النهرين طويلاً عبر تاريخها القديم والحديث، وإعادة إنعاش استبداد جديد وطغاة تفوقوا على نظام الطاغية، فأي وعد تقدمه «الديموقراطية الأميركية» إلى مجتمعات وشعوب وأنظمة الجوار والمحيط الإقليمي القريب والبعيد؟ وماذا بقي من الشرق الأوسط ـــــ قديمه والجديد ـــــ في الوقت الذي بات فيه التورط الأميركي في العراق يرسم مصير الحقبة الأميركية في كامل المنطقة والعالم أجمع؟
في أعقاب نتائج الانتخابات النصفية واتضاح كامل معالم توصيات تقرير لجنة بيكر ــــــ هاملتون والمواقف منها، وفي ضوء إعلان الرئيس الأميركي لاستراتيجيته الجديدة، وضمن سلسلة زيارات «جنرال الإدارة الأميركية الدبلوماسي» كوندوليزا رايس إلى دول المنطقة، يتضح يوماً بعد يوم أن واشنطن ليست معنية بفتح الطريق أمام البدء بتطبيق تلك الاستراتيجية، ما دامت تمارس «سياسة الهروب» إلى المطالبة بكل شيء من دون أن تقدم للأطراف المعنية أي شيء بالمقابل، وخصوصاً بعدما بدأت تتضح معالم إخفاقات حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب، وفشلها في إعادة بناء الدولة العراقية، وذلك إلى جانب مسيرات الإخفاق المتناسلة من أفغانستان الى لبنان وفلسطين... والى المحيط الإقليمي الآسيوي القريب والبعيد، وهي تشكل في مجموعها أكثر من حيثيات لفشل «التجريب» الأميركي في إخضاع العالم والهيمنة عليه سياسياً واقتصادياً عبر العسكرة وسياساتها العدوانية، بل هي في مقترباتها الكارثية تنحو، وقد نحت في اتجاهات تكرس لنتائج معاكسة تماماً، إلى ما أرادت العولمة بطابعها وطبعتها الأميركية أن تحققه في عالم الأحادية القطبية بعد انتهاء الحرب الباردة وبدء سلسلة من الحروب الساخنة المتعجلة التي سعى محافظو الإدارة اليمينية الجدد من خلالها إلى إعلان الدخول إلى القرن الأميركي، كنهاية مطاف هزيمة «محاور الشر والدول المارقة» وانتصار الليبرالية المعولمة بصبغتها الأميركية الفاقعة وانطواء الجناح الأطلسي تحت لوائها.
ولئن كان الدخول الأميركي إلى القرن الجديد محملاً بطموحات إمبراطورية بالغة الجموح لا تني تحاول تحصين نفوذها وترسيخ مواقع هيمنتها في كامل المنطقة والعالم، فإن حقبة تاريخية طويلة بالانتظار، سوف تحاول خلالها واشنطن الدخول إلى مخاضات طويلة وعسيرة، والخوض في مستنقعات غير مأمونة، من أجل الاحتفاظ بهيبتها بعدما أفلت «الشرق الأوسط الجديد» من أيديها أو يوشك، وباتت أهمية «المهمة الرسولية» لسيد البيت الأبيض، ومن بقي من داعميه داخل الولايات المتحدة، تتلخص بالاحتفاظ بنفوذ نسبي غير مطلق، تفتقر فيه واشنطن إلى ميزة السيطرة الكاملة. ففي الانتظار قوى دولية وإقليمية إن لم تستطع وراثة الهيمنة الأميركية المطلقة، فعلى الأقل يمكنها ان تشاطر أو تشارك في تلك الهيمنة من مواقع ووفق رؤى ومنظورات مختلفة مغايرة للرؤية والمنظور الأميركيين.
إن اعتماد الدبلوماسية على حساب استخدام المزيد من القوة العسكرية، يمكن أن يوفر ظروفاً أفضل لبروز قوى فاعلة في الصراع على النفوذ والهيمنة، بعدما فشلت واشنطن في نشر ظل هيمنتها الأحادية المطلقة في هذه المنطقة وفي مناطق العالم الأوسع، وهذا ما يعني بالتأكيد أنه سوف يكون من شأن قوى دولية أخرى السعي نحو تفعيل دورها في النظام الدولي، إلى جانب قوى إقليمية معادية للأميركيين، سوف تكون مضطرة إلى التحالف مع الوضع الجديد الذي قد ينشأ.
من هنا رؤية «الاستراتيجية البوشية الجديدة»، أو على الأصح تكتيكات البيت الأبيض الجديدة، في نصائح تقرير لجنة بيكر ـــــ هاملتون وتوصياته، محاولة لكسر الاحتكار الأميركي في التصرف بشؤون المنطقة والعالم، حتى وهي تحاول ـــــ التوصيات ـــــ إيجاد منفذ للخروج من نفق العراق ومستنقعه. وبالتالي فإن تجاهل الانفتاح على سوريا وإيران، وإفشال إمكانية انفتاح على المسار السوري ـــــ الإسرائيلي، كانا من عمل بعض مراكز القوى في البيت الأبيض التي رأت وترى في لجم مثل هذه التوجهات، ضمانة استمرار الاحتكار الإمبراطوري لقيادة شؤون العالم، ورؤيته من منظار ومنظور مجموعة من أسياد عالم لم يولد بعد كي يكون جديداً.
لقد أخفقت رؤية بوش في إنقاذه من لعنة العراق. وعلى رغم ذلك، فإنّه يبدو عبر «استراتيجيته الجديدة» أكثر انغلاقاً تجاه أي تغيير محتمل في العراق، حين يذهب في إصراره على رؤية «العراق جبهة مركزية ضد الإرهاب» أو «منارة للديموقراطية». وبدل أن يكون أكثر انفتاحاً على التغيير الذي طالبت به توصيات تقرير لجنة بيكر ـــــ هاملتون، وضرورة إشراك دول الجوار عبر خلق مسارب لنظام إقليمي يتيح تعاوناً بين كل من تركيا وإيران وسوريا، وكامل دول الجوار، بما يفيد استقرار وأمن وسلام شعوب هذه المنطقة والعالم بمجموعها، يفضّل بوش أن يوفد وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس في مجموعة من الجولات «الاستطلاعية» فقط، للحديث عن نيّات ووعود، في غياب وجود الإرادة الفاعلة والجادة لتنفيذ مثل هذه النيات والوعود.
وفي كل الأحوال، فإنّ مردّ كلّ ما يجري الحديث عنه، في شأن الانسحاب من العراق، أو البقاء فيه بأي شكل، هو مدى تأثير أي من الخطوات المحتملة على المصالح الأميركية، في ظل خشية متزايدة، من أن يكون الانسحاب إيذاناً أو بدايةً لوقوع الاحتياطي النفطي العراقي فريسةً لدول كإيران القريبة والمؤثرة في كل ما يجري في العراق، وبعيدة كروسيا والصين، من دون الالتفات إلى مصالح العراق نفسه كدولة، ومصالح العراقيين أنفسهم وأهمية استمرار تعايشهم في ظل دولة توحّدهم وتشكل الفاعل الرئيس من فواعل توحيد مكوناتهم الوطنية في بوتقة انتماء جامعة، ومن خلالها يحافظون على وحدتهم وهويتهم الوطنية، بعدما أودى الاحتلال وقوننته للمحاصصات الإثنية والطائفية والمذهبية في القانون الأساسي بهذه الوحدة إلى التبديد، في إحياء لنزعات شوفينية أوسع ولهويات ضيقة لا يمكنها أن تساهم في إعادة شمل العراق والعراقيين، انطلاقاً من الأسس التي يقوم عليها بناء الدولة الوطنية الجامعة أو بناء الدولة الأمة.
ولهذا رأى تقرير لمجموعة الأزمات الدولية أخيراً (السفير 4/7/2007) أن تمديد العملية السياسية مع اللاعبين أنفسهم، سيؤكد أن ما بقي للدولة العراقية هو التفكك تدريجاً، وسيكون السيناريو الأقرب الى التصور تفكك العراق الى إقطاعيات لامتناهية، يربط في ما بينها بشكل ظاهري وجود قوات الاحتلال.
ورأى التقرير أن أولوية الإنقاذ تكمن في مواجهة بنية السلطة التي تأسست في أعقاب الغزو والأحزاب المهيمنة عليها حالياً، عبر الإصرار على مصالحة وطنية حقيقية ونظام أكثر عدلاً. ويخلص التقرير الى أن الوقت حان ليدرك الأميركيون والبريطانيون أن من يسمونهم شركاءهم العراقيين هم أبعد ما يكون عن بناء دولة العراق الحديثة، بل هم أقرب الى تفكيكها. فإلى أي مدى يمكن القول إن تحديد مستقبل الاستراتيجية الأميركية في العراق بات يعتمد على التقرير الذي سوف يقدمه القائد العسكري الأميركي هناك ديفيد باتريوس والسفير رايان كروكر أواسط أيلول المقبل؟
إن فشل الدول هو الخطر الأكبر على الاستقرار العالمي. إلا ان الخطر المضاعف هو أن يكون هذا الفشل من نصيب دولة كبرى، هي عينها زعيمة نظام دولي ذي نزوع إمبراطوري لم تتوافر له قواعد الاستقرار ولا مقومات القبول. فالكلفة البشرية لسياسة واشنطن العراقية لا تحيل على فشل السياسة الأميركية أو سياسة النظام الهجين الذي خلقته في بغداد، بل إلى فشل الولايات المتحدة نفسها «كدولة كبرى إمبراطورية» أسقطت فشلها على التأسيس لدولة عراقية جديدة بدت فاشلة هي الأخرى منذ لحظة التأسيس وفق محاصصات قانون بريمر ودستوره، ما جعلها فاشلة في كل معالجاتها السياسية والأمنية والاقتصادية، في غياب أي سياسة اجتماعية أو أي اهتمام بقضايا المواطنة أو التنمية. وكل ذلك في ظل حالة من الفساد المستشري في كل مفاصل «الدولة» سواء تلك التي يشرف عليها الاحتلال، أو تلك الخاضعة لقوى السلطة الجديدة من ميليشيات طوائفية وقوى إرهاب مذهبي عبثية لن تبقي ولن تذر، إذا ما استمرت الأمور على حالها في عراق بات «يصدّر» مواطنيه إلى المنافي أو إلى السجون أو إلى مقابر الموت الإفرادية والجماعية، وفي ظل التهجير والنزوح الجماعي الداخلي والخارجي، على شكل فرز عرقي وطائفي ومذهبي كريه ومقيت.
وإذ يعود الرئيس الأميركي في الآونة الأخيرة إلى استحضار عبارات «نشر الحرية والديموقراطية» التي كانت غابت فترة ليست بقصيرة عن خطاباته، فذلك أن إنجاز «المهمة العراقية» استحوذ ولما يزل على تفكيره وتفكير إدارته ومن بقي من محافظيه الجدد، وقد فسرت صحيفة «واشنطن بوست» ذلك بانقسامات في الإدارة بين من سمتهم الواقعيين والمحافظين الجدد. وها هو اليوم يعيد إثارة نقاش في شأن «الورطة الفيتنامية» التي انتهت بهزيمة ساحقة للولايات المتحدة، وذلك في سياق محاولات معالجته لـ«الورطة العراقية»، تلك التي تؤكد يومياً أنها ليست أكثر من ممر إجباري نحو النصر المستحيل لإمبراطورية أحالت هيبتها وقوة ردعها وحروبها المتعجلة الاستباقية والوقائية الى تكتيكات عاجزة عن تقديم أي دعم لأية استراتيجية ولم تعد تشكل ضمانة لأي شكل من أشكال الاحتكار الإمبراطوري الآخذ مساراً تقويضياً وسط تحديات الأوضاع الإقليمية والدولية الجديدة
الناشئة.
* كاتب فلسطيني