دياب أبو جهجه *‎
أتحفتنا الموجة الشوفينية التي تهيمن على المزاج اللبناني بعشرات ‏الأغاني التي ينشدها الجنود والضباط، ويتحدث مضمونها عن العزة ‏والكرامة والإباء. وركّز السياسيون والمعلّقون، وتحديداً أولئك في ‏فريق 14 آذار وبعض فرقاء المعارضة، على أهمية معركة نهر ‏البارد ومفصليتها وعلى أنها مفرق تأسيسي في التاريخ اللبناني ‏الحديث. ‏
صحيح أنّ معركة نهر البارد فُرضت على الجيش وكان لا بد له من ‏خوضها وإنهاء الحالة الإرهابية، إلا أنّنا لا نتفق مع هذه المبالغة في ‏إضفاء كل هذه المعاني على معالجة الجيش لحالة أمنية إرهابية. ‏
أما البعد السياسي للأزمة فأكبر من أن يُتعامل معه بشكل ‏عسكري محض. فماذا عن الحاضنة السلفية الأوسع للتنظيمات ‏السلفية الجهادية من فتح الإسلام إلى جند الشام والأهم من كليهما ‏عصبة الأنصار؟ وكيف سيُتعامل مع تقاطع قاعدة تيار المستقبل ‏الشعبية مع هذه القاعدة السلفية في أكثر من مكان؟ وماذا عن الأجندة ‏الأميركية في خضم هذه الأزمة، وهل وصل تنظيم القاعدة الى ‏الساحة اللبنانية بشكل تنظيمي فعال أم ما نراه اليوم من اختراقات أمنية جنوباً وشمالاً ليس إلا محاولات بائسة لجماعات تلفظ أنفاسها؟ ‏هذه كلها أسئلة لا يستطيع الجيش أن يجيب عنها برشاشاته ومدافعه.‏
أما ما هو أهم من السياسة فهو ألا يُسقط مدّعو الوطنية من الطائفيين ‏العنصريين قداسة المؤسسة العسكرية كمؤسسة موحدة ضامنة لأمن ‏البلد من خلال زجّها في ممارسات تُنتهك فيها أبسط الحقوق ‏الإنسانية، وهو حق الحياة. فما حصل في مخيم البداوي من إطلاق ‏نار على تظاهرة غير مسلحة لمواطنين فلسطينيين يطالبون بالعودة ‏الى بيوتهم مسبّباً مقتل ثلاثة مواطنين وجرح ثلاثين، هو أمر ‏مرفوض ومدان، مهما كانت الأسباب.‏
إنّ القول بأن التظاهرة خرجت من عقالها واندفعت في اتجاه حواجز ‏الجيش هو عذر مردود على أصحابه. فالتعامل مع أية تظاهرة ‏شعبية غير مسلحة من قبل قوات مسلحة لا يكون بإطلاق الرصاص ‏الحي على المتظاهرين وقتلهم بأي حال من الأحوال. هنالك طرق ‏عديدة لقمع المتظاهرين إذا ما قضت الضرورة ذلك مثل استعمال ‏الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والضرب بالهراوات وإطلاق ‏الرصاص المطاطي كآخر سبيل. أما القول بأن الجيش غير مجهّز ‏لهذه الحالات فهو أيضاً عذر أقبح من ذنب. ‏
ليس باسمنا نحن المواطنين اللبنانيين تُرتكب مثل هذه الفظائع ولا ‏باسم الوطن. والذين يبررون اليوم كل ما يقوم به الجيش تحت شعار لا ‏صوت يعلو فوق صوت المعركة، هم أنفسهم الذين طبّلوا للعدو ‏خلال المعركة الماضية في تموز وبعضهم حاصر بيروت نيابة عن ‏العدو نفسه عام 1982. إن الصوت الذي لا بد له من أن يعلو دوماً فوق ‏صوت أي معركة هو صوت الإنسانية والشرف والمناقبية، وإلا ‏كانت المعركة خاسرة سلفاً لأنها حتماً ظالمة. ‏
إنّ من يحب الجيش ويريده أن ينتصر ويريد أن يحافظ عليه لا بد له ‏من أن يطالب بفتح تحقيق حول ملابسات ما جرى في البداوي لكي ‏نعرف فعلاً ماذا حصل. إذا كان الدم الفلسطيني رخيصاً بالنسبة إلى ممثلي منظمة التحرير في لبنان الذين سارعوا إلى الحديث من أرائكهم ‏المريحة عن قمع الجيش لمجموعة من الفوضويين مبررين إطلاق ‏النار، وإذا كان المزاج العام في البلد ينساق وراء الخطاب الشوفيني ‏الأعمى الذي يلوّح بالعلم كما يفعل رعاة البقر في ولاية تكساس ‏دعماً لبوش في العراق على رغم الفضائح والتوابيت القادمة من بغداد، ‏إلا أننا نقول نحن لسنا رعاة بقر أعمتهم الوطنية في قمة غلوّها، ‏وكل شهيد سقط للجيش اللبناني في هذه المعركة غال جداً عندنا وكل ‏قطرة دم فلسطينية ومعاناة أسرة تهجّرت ومأساة إنسانية لها عندنا ‏ثقل عظيم. ‏
نحن لسنا ماشية تُساق وراء علم بل نحن مواطنون نطالب ونسائل. ‏ونحن نطالب بلجنة تحقيق مستقلة تتقصّى حقائق هذه الأزمة منذ ‏بدايتها وبكل جزئياتها، من تسلّل فتح الإسلام الى لبنان حتى ‏مجزرة البداوي، نحن نستحق ذلك، الشعب الفلسطيني المظلوم ‏يستحق ذلك، والجيش اللبناني الشريف يستحق ذلك. ‏
* كاتب لبناني