مصطفى الهواري *
يمر الأسبوع عادياً في الجزائر: تعلن الجرائد فتح بنوك أجنبية جديدة في البلاد، وإبرام عقود مع شركات أجنبية، وفي الصفحة نفسها تنشر تقارير عن آخر أحداث الشغب. في بداية شهر حزيران انفجر شباب بوسعادة بعد قرار الفيدرالية الوطنية لكرة القدم إسقاط فريقهم إلى درجة أدنى و«أحرقوا مدينتهم»، كما كتبت بعض الجرائد.
ليست كرة القدم السبب الأساسي، بل الشرارة التي اتخذها شباب مدينة بوسعادة للتعبير عن السخط من انسداد أفقهم الاجتماعي وفراغ حياتهم في بلاد غنية. ليس جديداً أن تكون كرة القدم منفذاً للتعبير عن أمور ليست لها علاقة بالرياضة... في الأسبوع نفسه، وبمدينة وهران، ثاني أكبر مدينة في الجزائر، كان الشغب أكثر «كلاسيكية»، حيث أدت عملية توزيع مساكن اجتماعية إلى احتجاجات عنيفة قام بها أولئك الذين لم تكن أسماؤهم ضمن المستفيدين، وهم كالعادة أكبر بكثير من الذين أسعفهم الحظ في نيل «قبر الدنيا»، كما أصبح الجزائريون يسمون المسكن المفقود. لا يمر أسبوع دون أن تسجل هنا أو هناك أعمال شغب متفاوتة في مستوى العنف، وتعود أساساً للمطالبة بالسكن أو العمل. «أنا أُكسّر، إذاً أنا موجود»، أو «أنا غير موجود في خارطة الحاكم، إذاً أنا أكسّر».
أصبحت ظاهرة الشغب العنيف في غياب قنوات جدية للتعبير والتمثيل وسيلة متميزة، إن لم نقل الوحيدة، للاحتجاج والمطالبة. حتى المناطق الجنوبية، التي كان ينظر إليها إلى زمن قريب على أنها أكثر «صبراً» من الشمال، تبنت هذه الطريقة في التعبير. وغالباً ما تأخذ هذه الاحتجاجات طابع غلق الطريق العام الذي يمر قرب المدينة أو القرية، وفي كل مرة تتدخل قوات الأمن بحزم لتقمع المشاغبين الشباب. وتقوم المحاكم بصفة شبه فورية بإصدار أحكامها في حق المعتقلين «للعبرة». ورغم ذلك يواصل الشباب الجزائري اللجوء إلى الشغب، وقطع «الطريق» الذي يشكل بالنسبة إلى كثير منهم «الرابط» الوحيد بينهم وبين الدولة، فقطعه يعبّر على المستوى الرمزي عن استكمال القطيعة الموجودة بينهما، وعلى المستوى العملي هو الوسيلة الوحيدة للفت الانتباه. وأصبحت الظاهرة روتينية، ولا تتصدر الصفحات الأولى للجرائد إلا عندما تتجاوز حداً معيناً من العنف، لكنها حاضرة باستمرار في الصفحات الداخلية. والظاهرة حسب المحللين مرآة عاكسة لخواء المؤسسات السياسية والجمعيات. فليس ثمة وسائط لها صدقية بين السلطة والمواطن، وبالتالي غياب وسائل حل المشاكل وقنواتها. فالمواجهة المباشرة تطبع باستمرار العلاقة بين المواطن والسلطة، وإن كانت هذه المواجهة لها حدة أقل عن تلك التي سادت سنوات التسعينيات في الحرب بين السلطة والإسلاميين. لكن القطيعة وانعدام الثقة تسم هذه العلاقة المتوترة، وتظهر بصفة عبثية في مسألة إبقاء الآلاف من المساكن الاجتماعية شاغرة، رغم انتهاء الأشغال بها من مدة وحاجة المواطنين إليها، وذلك خشية أن يولِّد توزيعها أعمال شغب كبيرة. فالبلديات التي بحوزتها 50 مسكناً مقابل 5000 طلب أو أكثر، فضلت الامتناع عن توزيعها بدل المخاطرة في نشوب حركات شغب شبه محتومة. وهناك حوالى 50000 مسكن اجتماعي ظل شاغراً، فيما يعيش كثير من الجزائريين في ظروف مزرية. وقد قررت الدولة إعفاء البلديات من محنة التوزيع، وتكفلت بها عبر رؤساء الدوائر الذين شكلوا لجاناً لبتِّ توزيع المساكن... ومع ذلك لا يزال 30000 مسكن غير موزعة ولا تزال عمليات الشغب تنفجر كلما نشرت قوائم المستفيدين.
يكمن الإشكال طبعاً في الهوة الرهيبة بين الطلب وما هو موجود. لكن المشكلة الأساسية تعود إلى أزمة ثقة كبيرة، لدرجة أنه حتى قرارات التوزيع المشروعة هي مصدر شك وريبة. فكل طالبي السكن الاجتماعي ـــــ وبعضهم ينتظر منذ عشرات السنين ـــــ يرون أن لهم الأولوية لأنهم لا يثقون بالمستقبل. وتظهر قضية المساكن الاجتماعية بجلاء وضعية نظام سياسي بدون وسائط ذات صدقية، تحول فيه اللجوء للشغب إلى ثقافة ومؤسسة. وكما يُعد اللجوء إلى هذه الطريقة سلوكاً انتحارياً يشكل أيضاً نوعاً من طرق إيصال رسائل اليأس الذي يعانيه المواطن. فأي شرارة صارت تولد عنفاً. انقطاع الكهرباء خلال مقابلة رياضية، أو تدخل الشرطة ضد بائع سجائر يولد أحداث شغب، كما حدث ذلك في مدينة بشار الجنوبية.
يبقى أن أعمال الشغب هذه، وإن كانت تمس كل المناطق، فهي لا تحدث في الوقت نفسه. وفي كل مرة هي محصورة جغرافياً، ولا تشكل تهديداً بالنسبة إلى السلطة، خلافاً لأعمال الشغب الكبيرة التي حدثت في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 حيث أخذت طابعاً وطنياً عاماً وزعزعت أركان النظام. وقد أدت أحداث أكتوبر 88 التي يفسرها بعضهم سطحياً بأنها مناورة من داخل النظام، إلى فتح الباب أمام التعددية الحزبية وبروز حياة جمعوية. وهذا الانفتاح القسري للنظام في بلد متأزم يعرف نمواً قوياً للتيار الإسلاموي تم التراجع عنه ابتداء من 1992 بعد توقيف المسار الانتخابي. وقد استعادت السلطة مراقبة المجال السياسي والجمعوي مع الحفاظ على الواجهة التعددية. وأدى غرق البلاد في العنف خلال التسعينيات إلى خنق فعلي للاحتجاج الاجتماعي.
وعملت السلطة على كبح بروز النقابات المستقلة، مع أن ذلك معترف به في الدستور والقانون، ولا تزال النقابات التي برزت إلى اليوم تعاني من تحرش قضائي مستمر للسلطة، التي تعمل على المحافظة على هيمنة النقابة المقربة منها، وهي الاتحاد الوطني للعمال الجزائريين.
غير أن انحسار العنف ذاك ابتداء من سنة 2000 جعل الاحتجاج الاجتماعي يبرز مجدداً بقوة في أشكال الشغب التي عرف بها، لأن الانغلاق السياسي الذي مارسه النظام جعل من هذا الاحتجاج غير متبنى من الأحزاب السياسية التي حُوّلت فعلياً إلى مجرد ديكور. ولا تزال النقابات المستقلة، وخاصة في الوظيفة العمومية تقاوم المطاردات القضائية. غير أن أجزاء كبيرة من المجتمع الجزائري لا تمثيل سياسياً أو اجتماعياً لها، ولا يخطر على بال الناس أن يلجأوا إلى «نوابهم» في البرلمان لحل المشاكل، لأن لديهم قناعة راسخة بأن هؤلاء لا يفيدونهم في شيء. فما زال المجتمع الجزائري ممنوعاً من تشكيل أطر مستقلة يمكنها أن تكون وسيطاً مفاوضاً مع الدولة. وخواء المؤسسات الرسمية يجعلها لا تمثل ملجأ للمواطنين، فيأتي الشغب وسيلة للتعبير والمطالبة، ونتيجة شبه ميكانيكية لغياب الديموقراطية.
عندما تندلع أعمال الشغب فلا دور يذكر للأحزاب أو الجمعيات. فقوات الأمن هي التي تُحرّك لإيجاد جواب أمني لمشاكل اجتماعية ذات بعد سياسي. وقد اكتسبت قوات الأمن هذه مع مرور السنين نوعاً من الخبرة في تسيير الشغب، لكنه جواب وهمي في بلد يملك شبابه ميلاً نحو العنف والانتحار والهروب بأية وسيلة أمام مظاهر غنى المتنفعين من الدولة والفساد العام. كما يشكل ترسخ ثقافة الشغب إنذاراً متكرراً وأحد أعراض الزلازل المستقبلية الممكنة.
* صحافي جزائري