عبد الإله بلقزيز*‏
مَن يسمع أن «كتائب شهداء الأقصى» قررت وقف عملياتها ‏العسكرية ضد الاحتلال، وأن قادة منها ومقاتلين وقّعوا على تعهّد ‏بذلك وبدأوا في تسليم أسلحتهم إلى السلطة الفلسطينية وأجهزتها ‏الأمنية سيأخذه الظن بأن الأسباب التي حملت الجناح الفتحاوي ‏المسلّح على القتال ارتفعت فأسقط ارتفاعها مبرر لجوئه إلى السلاح. ‏سيخال إذن أن الاحتلال جلا عن الضفة والقطاع والقدس أو سيجلو، ‏وأن الاستقلال الوطني أُنجز أو سلّمت به إسرائيل، وأن الدولة قامت ‏أو في طور القيام، وأن المستوطنات ذابت في جغرافية الدولة ‏الفلسطينية، وأن ملايين اللاجئين عادوا إلى ديارهم في المثلث ‏والجليل أو بدأوا في العودة.‏
تلك كانت الأسباب والعوامل الدافعة إلى إعادة تسليح حركة «فتح» ‏قبل نيّفٍ وست سنوات بعد فشل خيار التفاوض مع العدو لتحصيل ‏الحقوق الوطنية. وما كان صدفة أن الذي رعا خيار التسوية السلمية ‏داخل الحركة الوطنية الفلسطينية وفرضه خياراً رئيسياً منذ خروج ‏الثورة من بيروت، وخاصة منذ مؤتمر مدريد، وسار فيه ردحاً ‏طويلاً من الزمن إلى أن اصطدم بحائط اللاءات الإسرائيلية (في ‏كامب ديفيد الثانية): أعني ياسر عرفات، هو نفسه الذي رعى ميلاد ‏‏«كتائب شهداء الأقصى» ووفّر لها الدعم المادي والغطاء السياسي ‏بعد اندلاع الانتفاضة الثانية. ‏
فقد أتى ذلك الانتقال من خيار التسوية المسدود إلى خيار فتح الأفق ‏السياسي أمام تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني بواسطة المقاومة ‏المسلحة يمثّل تعبيراً عن حاجة متجدّدة، في العمل الوطني، إلى ‏تركيب مشروع التحرّر والاستقلال المحجوز على حوامل ناجعة ‏المفاعيل بعد تبيُّن تهافت خيار التفاوض.‏
ارتبط قيام «كتائب شهداء الأقصى»، إذن، بفكرة سياسية عليا هي ‏حق تقرير المصير وإنجاز الاستقلال الوطني وإقامة الدولة في ‏المناطق الفلسطينية المحتلة عام 67، تماماً مثلما ارتبطت «قوات ‏العاصفة» ـــــ قبل أربعين عاماً ـــــ بالمشروع الوطني الذي كان يعني ‏في ذلك العهد تحرير أرض فلسطين كلها: من النهر إلى البحر، كما ‏كان يقال. وكما قاتلت «فتح» وفصائل الثورة في سنوات الستينيات ‏والسبعينيات من أجل تحرير الوطن، كذلك قاتلت في أوائل هذا ‏القرن من أجل الهدف نفسه. ولم نسمع أن تنظيمها المسلّح إنما تسلّح ‏فقط كي يحمي أفراده من الملاحقة الإسرائيلية (إلاّ في هذه الأيام ‏النكباء!) وأنه ما أن تتوقف الملاحقة الإسرائيلية لهم حتى يسلّموا ‏أسلحتهم! ليذهب الوطن المحتل إلى الجحيم إذن، فالسلاح ليس ‏مرفوعاً على شرفه، بل لطلب السلامة الشخصية!‏
من حسن حظ الشعب الفلسطيني وقضيته وحركته الوطنية أن هذه ‏الوظيفة الجديدة للسلاح ـــــ والغريبة كل الغرابة عن تقاليد فتح الثورية ‏وعن تقاليد رفيقاتها من منظمات الثورة ـــــ ليست شاملة سائر فصائل ‏المقاومة، بل تتعلق حصرياً بـ«كتائب شهداء الأقصى»، وللدقة: في ‏الضفة الغربية لا في غزة، وللمزيد من الدقة: لـ«الكتائب» ‏المشمولة برعاية السيد محمود عباس ومستشاريه الأمنيين، لا تلك ‏المغضوب عليها من السلطة. فحين تعلن «كتائب القسام» و«سرايا ‏القدس» و«كتائب أبو على مصطفى» (و«كتائب الأقصى» في غزة) ‏رفضها لصفقة تسليم السلاح ولوقف المقاومة واستهجانها للشروط ‏المهينة التي ارتضاها المستسلمون لاستسلامهم، ففي ذلك بعض غير ‏قليل من العزاء أمام هذا الخطب الجلل الذي أرْزَأَ الجميع في صورة ‏‏«فتح» وتاريخها الوطني الكبير ونزلَ بهيبتها وشرفها إلى ‏الحضيض. ومع ذلك كله، لا تشفي هذه التعزية سؤال الأسئلة الفوّار ‏في النفس: ماذا حصل حتى تمرّغت كرامة «فتح» على هذا النحو؟ ‏كيف ينتهي ميراث «أبو جهاد» و«أبو عمار» إلى أيدي «ورثة» ‏عابثين بما بين أيديهم يبدّدونه كيفما اتفق بحثاً عن عفو العدو ‏ورضاه؟!‏
لا بد من رفع السرية عن اللغة والإفراج عن صريح المفردات. ‏فالقول إن رجلاً واحداً يتحمّل أمام الفتحاويين والفلسطينيين والعرب ‏جميعاً مسؤولية الذهاب بصورة «فتح» إلى الحالة التي تدعو إلى ‏الشفقة، والرجل هذا اسمه محمود عباس! فقد أفلح الرجل في تحقيق ‏هدف واحد وحيد منذ ساقته الأقدار إلى موقع القرار: أن يَجُبَّ ما ‏قبله وينسخه نسخاً كأنه ما كان! وأفلحُ ما أفلحَ في أن يجبّهُ ويأتي ‏عليه بالمحو والإعدام هو التاريخ الوطني لحركة «فتح»، ولمنظمة ‏التحرير الفلسطينية استطراداً، وصورتها كحركة تحرّر وطني! أمّا ‏ما دون هذا النجاح، فليس في رصيده غير الفشل: الفشل في رهانه ‏على التسوية أو في تحصيله شيئاً ـــــ ولو رمزياً ـــــ من خلالها؛ والفشل ‏في بناء سلطة ذات مؤسسات شفافة؛ والفشل في مقاومة الفساد ‏ومافياته؛ والفشل المزدوج أمام «حماس»: في الانتخابات وفي ‏القتال... إلخ! وإذا طاب لغيرنا أن يرى في «عفو» إسرائيل على ‏مئتي مقاتل أو يقلّ من «فتح» (من الملاحقة)، وفي الإفراج عن ‏مئتين وخمسين من الأسرى (من أصل أحد عشر ألفاً)، وفي الإفراج ‏عن أموال الضرائب الفلسطينية، نجاحات أحرزها أبو مازن منذ أن ‏وصل إلى «العرش»، يطيب لنا حينها أن نتساءل كم من العقود، ‏بل من القرون، تحتاج إليها هذه المدرسة السياسية (المحمود عباسيّة) ‏حتى تصل بإيقاع «نجاحاتها» إلى تحصيل الحق في العودة ‏والاستقلال الوطني وإقامة الدولة؟!‏
لم يكن محمود عباس يوماً ـــــ ومنذ الستينيات ـــــ من رجال الثورة. ‏كان، وظل دائماً، من رجال السياسة والتسوية والمفاوضات. وحده ‏في «فتح» لم يكن يملك مَلَكات وقناعات ياسر عرفات وأبو جهاد ‏وأبو إياد وأبو الهول وكمال عدوان. وما كان في السياسة شبيهاً ‏بخالد الحسن وفاروق القدومي أو قريباً من مزاجهما.‏
كان المرحليُّ بالنسبة إليه هو الاستراتيجيّ، وكان الممكن عنده هو ‏الواجب والواجب مستحيلاً، وكان القبول بأي شيء أفضل عنده من ‏التمسّك بمبدأ. ولقد كان أكثر ما يزعجه أن تفرض المقاومة ‏شريعتها، إذ هو أبداً ضد تلك الشريعة. ولكَم اجترأَ عليها جراءةً ـــــ ‏حيث لم يكن في إمكان غيره أن يجترئ ـــــ فأتى عليها وصفاً بأشنع ‏الألفاظ ممّا ليس يليق بمقامها في وجدان الشعب. ومع ذلك كله، كان ‏في وسع «فتح» أن تحفظ له مكانه ومكانته فيها وخاصة أن من ‏تقاليد قيادتها، وياسر عرفات خاصة، أن لا تقطع حبل الوصال مع ‏مَن يمكنهم أن يكونوا قنوات اتصال مع الإسرائيليين (مثله أو مثل ‏عصام السرطاوي ثم في ما بعد محمد دحلان وأحمد قريع وسلام ‏فياض...) حينما تقتضي الظروف ذلك. لكن محمود عباس تجاوز ‏الحدود جميعاً، فقطع المسافة الفاصلة بين أن يكون حالة استثنائية في ‏‏«فتح» وأن تصبح «فتح» في حكم الاستثناء كلّها بعد أن كانت ‏القاعدة! ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.‏
‏ * كاتب عربي
‎ ‎