نسيم ضاهر *
إذا ترجم التصويت المُطالب بانسحاب الجيش الأميركي من العراق، تكون الولايات المتحدة قد تأخرت خمس سنوات كاملة قبل الموافقة على عودة جنودها إلى الوطن. تزعم هذه المقالة أن بقاء قوات الغزو، بعد إسقاط نظام صدّام حسين، وما تبعه من تعيين حاكم مدني أميركي وإعلان حلّ الجيش العراقي، إنما حمل علامات الخطأ من الأساس، وسبَّبَ دوّامة صراعية لا تخلو من المتناقضات.
حين وضعت العمليات العسكرية أوزارها، ذهب معظم المُحلِّلين العرب الى التشديد على الغايات الاقتصادية والمنافع والعوائد المنتظر جنيها أميركياً من نهب ثروات العراق. ولقد أثبتت الأرقام، مع مرور الأيام، عطب هذه النظرية، ودلّت أكلاف الاحتلال المتعاظِمة، مادياً وبشرياً، على نوعية التقديرات المعلّبة التي غلّبت العامل الاقتصادي النفعي المباشر، انطلاقاً من قراءات أحادية نمطية أغفلت العنصر الجيوستراتيجي، وحبست الحدث في دائرة استغلال النفط وإرساء الليبرالية قاعدةً لشرق أوسط جديد.
بالتأكيد، طبع نهج المحافظين الجدد صناعة القرار في الولايات المتحدة خلال الولاية البوشية الأولى، وما زال له مواقع ورموز داخل الإدارة الحالية. وتبعاً لشواهد تاريخية سابقة، آلت هندساتهم النظرية الى مبنى أيديولوجي شامل فوقي، خلَّفَ المزيد من الأعداء وأحرج العديد من حلفاء واشطن، وقام على الغطرسة وعوّل على استخدام القوة لاستيلاد الديموقراطية من رحم التغير الناشئ، دونما التفات الى إنضاج منبثق من بيئة حاضنة وخصائص عضوية. بذلك اغتصب المحافظون الجدد منطق الاجتماع والثقافة، واعتدوا على العنوان اللصيق بكل كيان دولتي، أي أنهم تنكّروا للقواعد الأساسية، من منظار التاريخ، بغية تسريع التحوّلات، وإنزال نموذج مصدّر مقام المرجع والدواء الشافي المذلّل للتعقيدات والصعوبات، وكأنما الأوطان نسخ عن أصل وحقول تُغرس فيها التجارب. وقبل أن يسدل الستار على المغامرة العراقية، عوقبت منظومتهم الفكرية في عقر الدار الأميركية، وشارف نجمهم على الأفول، مخلّفاً ركام سياسات وتركة ثقيلة بدأت مؤسسات النظام بتكفّلها والعمل على تصفية آثارها ومعالجة أوراقها في مجال العلاقات الدولية.
أناخت هذه المقدمات الأميركية بوطأتها على الوضع العربي والإقليمي منذ اليوم الأول، لكنها خضعت بدورها لقانون لعبة الشطرنج السائد، فنقلة تستدعي نقلة مقابلة مضادة تعمل على احتواء مفاعيلها واستثمار المساحة المُتاحة على رقعة محددة. أطاحَ الاجتياح الأميركي للعراق نظام صدّام حسين ظنّاً منه أن دمّل الاستبداد في بغداد مصدر الخطر الداهِم، بموجب شبهة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، والتسرّع في إنزال الأحكام. وإذ فتح علبة باندوار كهذه بحثاً عن سند لمزاعم وارتياب مضخّم مجاف لخلاصات وكالة الطاقة الدولية، فقد دخل عمداً حقلاً مزروعاً بالألغام، ثم غاصَ في بحر من الرمال المتحركة مُعوِّلاً على سحر التعددية الخارجة من صناديق الاقتراع تحت مظلة حقوقية وديموقراطية يحميها بأس الوحدات الأميركية، بانتظار إعادة بناء قوات وطنية مقتدرة.
فاتَ الولايات المتحدة الأميركية وقع الاحتلال وصِفَته الجاثِمة على القرار الوطني في ظروف بالغة التعقيد، إثنياً ومذهبياً وجغرافياً. وعليه، اجتمعت النقائض المتناحرة على التبرّؤ منه، وتوسّلت الحوافز الإقليمية الجاهزة رافعةً لحسابات فئوية ومنبعاً لتقديمات مغرية تشمل العناصر والسلاح والعباءة السياسية وكل عناصر الدعم المادي والإحاطة والملاذ الآمن. وعبر تشقّقات اللوحة العراقية، الهشّة أصلاً والمُشبعة بمخلّفات الحقبة الصدامية، اندفعت الجماعات التكفيرية لتتبارى في العنف الدموي والقتل العشوائي وتتلطَّى وراء الحالة المذهبية وحاصل النفور العام من مذلّة الاحتلال، لتنفيذ مآرب ظلامية مخادعة.
على غرار التقديرات الخاطئة التي سبقت ورافقت غزوة العراق لجهة الدوافع الكامنة وراء العزم الأميركي، تلوح اليوم معالم قراءة إقليمية مبتسرة ومغلوطة لنتائج الانسحاب الأميركي المرتقب. مجدداً، تنصبّ المطالعات، على رغم اختلاف الزوايا والمواقع، على الفشل الأميركي حصراً، وتولي قليلاً من الاهتمام للتداعيات والهزات الارتدادية جرّاءه، وما ستواجهه كل الأطراف، العراقية والعربية والإقليمية، في اليوم التالي، نتيجة الفراغ المتروك وصعوبة ملئه وتبعات المنازعات، على خلفية العوارض المقيمة في المنطقة والناتجة من تركيبة المصالح والمطامع وموازين القوى. يطال هذا الأمر خصوم (أو أعداء) الولايات المتحدة وحلفاءها بسواء، الذين ما برحوا، على العموم، ينزعون الى إخفاء الخلل الضارب في المنطقة وعوامله العضوية، وينساقون الى تغليب مسؤولية الخارج عن قتامة اللوحة برمّتها، واستطراداً التغاضي عن مسبّبات الصراعات الكامنة في البُنى الاجتماعية، المتقادمة والثقافة السياسية المشحونة بمحمول عالٍ من دعوات الاختلاف والفرقة.
إن أغلب الإرهاصات العاملة في جسد المنطقة من صنع محلي، فاقمه الاقتحام الأميركي وظهّر المزيد من مساوئه. بيدَ أن «هزيمة» أميركا لن تصلح المساوىء، وتقضي عجائبياً على أمراض المنطقة المزمنة، لأن العقاقير المطلوبة، كما الحلول، دونها قعود المنطقة على هامش التاريخ، وارتداد أفرقاء الى صيغ ماضوية يزخمها الخطاب الديني وتحفزها الأصولية السلفية والرؤيوية الجهادية المطلقة. فلا إسرائيل زالت، ولا وجودها بالمعطى المكتشف بهمّة الصحوة الإسلامية. كذلك تحجم القيادات الرسمية والتشكيلات السياسية عن الإقرار بجذور الأزمات، الداخلية والبينية، وتهجر المخارج الديموقراطية بذريعة الحفاظ على الهوية، وكفاية التراث، وخصوصية بيئية لها مفاهيمها ومعاييرها المغايرة لمألوف الأسرة الدولية ومسالكها. لكن، وأياً كانت الاجتهادات حيال فشل السياسة الأميركية الراهنة، لن تعفي المستجدات المتوقعة كل الأفرقاء، بالانفراد والاتحاد، من مسؤولية التقاعس في التدبير والتحوّط، واللهث لاقتسام الغنائم، وانغماس المناهضين والمُناوئين منهم للنظام العالمي ـــــ مُختزلاً في الهيمنة الإمبريالية ـــــ في الرقص على شفير الهاوية والاستزادة في تأجيج نار الصراعات.
يُثلِج التداول في رحيل القوات الأميركية صدرَ أطراف عدة، منها المُعادية جهاراً، ومنها المربكة، نظراً إلى العلاقة الأميركية/الإسرائيلية الوطيدة، والخجولة من سياساتها التسووية. ويُدغدغ شعار الانسحاب مشاعر العامة وعنفوانها، حيث تنشط الدعوة القائلة بإزالة الارتهان للخارج، وتصوِّر الانكفاء الأميركي على أنه خاتمة الأحزان وفاتحة عصر واعِد من الانتصارات على العدو الاسرائيلي. غير أن المعلن من مواقف لا يعكس بصدق حقيقة المراد، ناهيك عن المضمر، إذ يشي ترابط الأهداف جدلياً بأن مغادرة جنود التحالف أرض العراق تحرم أعداءهم، القريبين والغاضبين العاملين وراء الحدود، مربط النزاع وعنوان المعركة، وتحيلهم بالتالي من أنصار مقاومة وحملة مشعل التصدِّي للعدوان، إلى متلاعبين بالأقدار العراقية، معرَّضين، كما أسلافهم، لعدوى المستنقع العراقي، ومطالبين بالكشف عن مستور حلولهم لمعالجة الأزمات المتداخلة في بلاد ما بين النهرين. إلى ذلك، سوف يواجه المتنافسون الإقليميون والأشقاء اللدودون، بمفردهم، إذا جازَ القول، مهمة كأداء في تنقية الأجواء وابتكار قواعد حُسن جِوار والدلالة على تجانس مقاصدهم وإدارة الاختلاف.
تفرض التوازنات الدولية حيِّزاً من البراغماتية، وترسم بمقدار مضبوط، حدوداً للصراعات، وبعضاً من خطوط حمراء قلّما يجري تجاوزها بانفعال، خشية العواقب. فمهما بلغت درجة الحماوة إقليمياً، أم اقتربت الأوضاع من حافة الخطر الشديد، يتحتّم على الجميع مجانبة دفع الأمور الى مستوى اللاعودة والطريق المسدود، ويتكفَّل العقل السياسي في استنباط تسويات الساعة الأخيرة. ولنا في مسار الملف النووي الإيراني عينة يلوح من خلالها ملمح الممكن والمقبول في غمرة التصريحات النارية والتشنّجات. وعلى سبيل القياس، لا الجزم، من الجائز افتراض (وترقّب) «انقلاب» في حدّة المواقف من الوجود العسكري الأميركي، مرحلياً على الأقل، بانتظار مدخل لترتيب الأوضاع، وخاصة في العراق، ومحاذرة الدخول في نفق مجهول. مع مضي الأيام، سوف تقفز الى الواجهة المصالح العائدة لكل طرف إقليمي والملفات ذات الأولوية الخاصة به، ويتفرق الشمل إزاء نقاط ومفاصل محددة. كذلك سوف يتبيَّن مدى فجاجة وهشاشة المقولات حول المكوِّنات العراقية وولائها لهذا السند (والجار) الإقليمي أو ذاك.
تقودنا المتابعة المتأنية الهادئة للمعضلة العراقية الى الاستنتاج أن الديموقراطيين في الكونغرس الأميركي في طليعة المستعجلين والمُنادين بطي صفحة التورّط العسكري وإقفال ملف الاحتلال من دون إبطاء. في موازاة الكباش داخل أروقة واشنطن، تتمهّل الأطراف الإقليمية، ويؤثر مناهضو الولايات المتحدة استمرار مشاغلتها بغية إضعافها وتحقيق أفضل مكاسب عندما تحين
الساعة.
لذا، ولانتفاء عناصر الخروج الأميركي المُشرّف من العراق بعد طول استنقاع، ولصعوبة إلحاق الهزيمة الكاملة بالولايات المتحدة، لا يستبعد لجوء الإدارة الأميركية الى حل انكفائي يزاوج الابتعاد الميداني والتدبير العملاني، بانتقال وحدات النخبة الى كردستان وعودة الجزء الأكبر من القوات إلى ديارها. كذلك، لا يمكن إسقاط احتمال إبقاء واشنطن على قواعد معدودة في مناطق بعيدة عن الاحتكاك المباشر مع السكان المحليّين وفق صيغة تعاهدية بغية إسناد الجيش العراقي الفتيّ، ما ينزع فتيل التدخل في الشأن الإداري والحياتي، على قاعدة سيادة العرق ورضا مؤسساته، والقبول الضمني إقليمياً. في المقابل، يبقى الأسطول الأميركي مُعزّزاً مُتأهِّباً في مياه الخليج ومداخله، ويحوز على التسهيلات المعروفة في موانىء دول صديقة، إلى جانب القواعد العسكرية القائمة التي تبسط وجودها في مأمن من صخب الإسلاميين الساخِطين على حكومتهم في الكويت، وتستوعب لغز السياسة الزئبقية المتبعة في قطر، مستمعةً الى جارتها الفضائية الثائرة، مستمتعة ببرامجها الساخنة، وحافظةً للأسرار.
* كاتب سياسي