هشام نفاع *‏
‏«أريد أن أكون هنا في إسرائيل وأريد لأولادي أن يخدموا في تساهال»، قال لاجئ سودانيّ لمراسلة قناة إسرائيلية، ‏في ما بدا كأنّه سيناريو مكتوب. فكيف للاجئ أن يرطن بالاسم القومي للجيش الاسرائيلي، فيما لا يجد سقفاً آمناً يؤويه ‏حتى لحظة اقتياده من موقع احتجازه إلى فضاءات الشاشة الرسمية؟
في نشرة إخباريّة أخرى يقتبس مذيع عن مصادر ‏مسؤولة مقولة إنّه لا يمكن الدولة اليهودية تجاهُل مأساة لاجئين، لأنّ هذه الدولة تمثّل تحقيق حلم شعب لاجئ بأكمله... ‏على سبيل تحسّس الجو العام، من المثير الإشارة الى مواقف لطلاب جامعيين اسرائيليين بالذات. في أحد المواقع ‏الشبكية يتمّ التحدّث عن «الواجب الأخلاقي لدولة اسرائيل في إعانة الملاحقين والمهدّدين على خلفية انتمائهم». في ‏مكان آخر، بادر طلاب في قسم العلوم الاجتماعية إلى تنظيم حفلة لأجل لاجئي السودان. هل يعكس هذا تحوّلاً في ‏التضامن الإسرائيلي مع ضحايا الاقتلاع والتهجير؟!‏
تعود جذور قضية اللاجئين السودانيّين في إسرائيل إلى ما قبل سنتين، بحسب المصادر الرسمية التي تتحدّث عن ‏‏«تسلّل» هؤلاء اللاجئين إلى إسرائيل هرباً من دارفور. بداية، تم التعامل معهم بحسب قانون الدخول إلى اسرائيل، ‏فجرى احتجازهم. بعد عرضهم على محاكم تقرّر تسريحهم، فما كان من السلطات إلاّ إعادة احتجازهم بموجب قانون ‏منع التسلل. تغيّر القانون/الوسيلة ولكن لم تتغير النتيجة. هذا لم يمنع مواصلة احتجاز المئات منهم بشكل إداري، أي من دون ‏محاكمة. هنا، تمحورت مشكلة السلطات أمام العالم، إذ إنّ إرسالهم إلى وطنهم قد يعني تهديد حياتهم وهو ما «سيضرّ ‏بوجه سياسة الدولة»، وكأنّ الحُسن هو ملمحها الإنساني البارز.‏
في مرحلة متقدمة، تقدّمت جهة حقوقية في جامعة تل أبيب ومنظمة حقوقية مستقلة بالتماس إلى المحكمة العليا بمطلب ‏تغيير سياسة التعامل مع اللاجئين. فعُيّن مسؤول من وزارة الأمن «لمقابلتهم» قبل اتخاذ قرار بشأنهم. وسط هذا ‏كله، بدا وكأن السلطات انتبهت الى الكنز المستتر خلف هذه القضية في سياق الترويج الدولي. فنُظّمت زيارات متلفزة ‏لبعض اللاجئين الى متحف الكارثة الذي يخلّد ذكرى ضحايا النازية، وبدأت الدبلوماسية تعمل ساعات إضافية بغية ‏اقتناص مكاسب سياسية دعائية. اليوم، لا يزال اللاجئون السودانيون يعيشون بين حالات المد والجزر السياسيين، ‏فيجري وضعهم هنا اليوم وإعادة زجهم هناك غداً.‏
من الصعب على المطّلع على السياسات الاسرائيلية تجاه قضية اللجوء، أن يستوعب هذه الكميات التجارية المسوّقة ‏من الحنان والدفء التي يلفّ بها المتحدّثون الرسميّون الإسرائيليون لاجئي السودان. فهم أصلاً يُعامَلون بوصفهم همّاً ‏يجب التخلّص منه سريعاً، هذا أوّلاً. أمّا الأمر الثاني والأهمّ، فهو السقوط الأخلاقي الإسرائيلي المستمرّ في الامتحان ‏أمام مأساة لاجئين من صنع إسرائيليّ مئة في المئة: ملايين اللاجئين الفلسطينيّين الذين اقتُلعوا من بيوتهم ولا يزالون ‏ملفاً محظوراً بالنسبة إلى إسرائيل الرسمية. فالدولة التي تدّعي التحدّث باسم يهود العالم، حاضراً وماضياً، وتزعم، ‏بتوراتية مرمّزة، تجسيد إخراجهم من صحارى القهر إلى فضاء الحرية، هي دولة مسؤولة عن التسبّب بإحدى أكبر ‏قضايا اللاجئين في العالم الراهن. لقد شرّدت الفلسطينيين من مدنهم وقراهم بواسطة المذابح وخطط «الترانسفير» ‏المبرمجة التي تحمل أسماء حركيّة جرت صياغتها بتأنٍّ بارد، كما يكشف المؤرخ اليهودي النقدي إيلان بابه في آخر ‏كتبه. كذلك، يوجد بين هؤلاء نحو مئتي ألف لاجئ فلسطيني يعيشون في حدود دولة إسرائيل، ويُعتبرون مواطنيها، هُجّروا عام 1948 وباتوا لاجئين في وطنهم يمرّون يومياً قرب بلداتهم التي دُمّرتْ وحلت محلّها مستوطنات، أو ‏تمت تغطيتها بالأحراش الصنوبرية في محاولة لإخفاء التاريخ وطمسه.‏
هذا السلوك الإسرائيلي المنافق الذي يسوّق اهتماماً بلاجئين قلائل من جهة، ويواصل اغتيال مصير حشود ‏اللاجئين الفلسطينيين ومستقبلهم من جهة أخرى، يكشف الدرك الذي تصله السياسات الكولونيالية. فعلى أكتاف لاجئي السودان ‏تحاول الدبلوماسية الإسرائيلية جني المكاسب الدعائية عالمياً، بينما تتنكّر لحقوق لاجئين جنت هي عليهم بالاقتلاع ‏والتشريد. للأسف، يجري ذلك عبر إعادة إنتاج رأي عام داخلي يصدّق بقناعة ساذجة رأفة حكومته بالملاحَقين، وسط ‏عمليات غسل الأدمغة المستمرة وصناعة الخوف الديموغرافي، ما يبقيه عاجزاً عن مواجهة مسؤوليّته الأخلاقية عمّا ‏اقترفته دولته بحق الشعب الأصلي حيث يقيم اليوم على خرائبه.‏
قد تنجح الدبلوماسية الإسرائيلية بتسجيل نقاط معدودة ومحدودة على الصدور الضامرة للّاجئين من جنوب السودان، ‏ريثما تُطبّق الصفقة التي يُقال إنّها أُبرمت في قمّة شرم الشيخ الأخيرة وتقضي بنقلهم إلى مصر. لكنّ السؤال ‏الحاسم سيظلّ يتراوح في مدى أبعد. فما لم تعترف هذه المؤسّسة الإسرائيليّة الحاكمة بمسؤوليتها عن الجريمة ‏الكبرى التي اقتُرفت عام 1948 وحوّلت عبرها غالبية الشعب الفلسطيني إلى لاجئين، ستظلّ هذه النقاط المكتسبة زبداً ‏ينطفئ على الموج.‏
إنّ قضيّة اللاجئين الفلسطينيين التي طالما تعرّضت لمحاولات الشطب، هي الامتحان الصعب الواقف أمام المؤسسة ‏الاسرائيلية ونواياها. فما لم يُعترف بحقوقهم وإراداتهم وتُسوّى قضيتهم بالاستناد الى حد أدنى من العدالة، ‏ستظلّ هذه المؤسسة تبدو لكل من في عينيه نظر كما هي حقًا: مؤسسة عدوانية تمتهن النفاق الدبلوماسي متوهمةً ‏قدرتها على إخفاء الجريمة الكبرى. ‏
من المؤلم رؤية ما يحل باللاجئين السودانيين الذين وجدوا أنفسهم يتدفقون على أبواب اسرائيل، فتلقفتهم مؤسستها بعد ‏حين، جاعلة إياهم مطيّة لتجميل صورتها. ولكن مهما بُذل فيها من مكياج، ستظلّ صورة واهية مثبتة على خلفية ‏مرسومة بألوان الجريمة، جريمة اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه ومواصلة رفض أية تسوية عادلة معه بعد ما ‏يزيد على نصف قرن. ‏
‏* صحافي فلسطيني