ياسين تملالي **‏
يقول الناشر في عرضه لإشكالية العدد الأخير من مجلة «نقد» والمُعنْوَن «النساء والمواطنة»: «يتعارض ‏واقع بروز هويات تعددية في مجتمعاتنا اليوم مع فكرة الهوية الوحيدة كما ينظر إليها كل من الفكر ‏التقليدي والفكر الأصولي الديني (...). النسوة اللائي يوسّعن كلّ يوم موقعهنّ في الفضاء العمومي ‏والمهني يشوّشن بنضالهنّ على صورة المجتمع الأغلبي وخطابه عن نفسه ويجعل التفكير واجباً في ‏ما لهذه الهويات من آثار على مشروع بناء مواطنة مشتركة مقتسمة».‏
‏ يُفتتح العدد بمقال نظري لرادا إيفاكوفيتش (المدرسة الدولية للفلسفة، باريس) بعنوان «جنس الأمة»، ‏تشرح فيه كون الكثير من الأمم ـــــ الحديثة منها والقديمة ـــــ قد اتّخذت من الأسرة البطريركية نموذجاً ‏للنظام السياسي والاجتماعي الذي تريد رعايته وكونها بذلك وزعت الأدوار بين النساء والرجال بالصورة نفسها التي توزع بها الأدوار داخل الأسرة. «يعطَى خضوع النساء دائماً نموذجاً لجميع حالات عدم ‏المساواة الأخرى التي تحاول الأمة تشريعها»، تقول رادا إيفاكوفيتش. ‏
‏ويضمّ القسم الأول من العدد وعنوانه «العنف وإنكار الحقوق»، «دراسات حالة» دقيقةً لحالات العنف ‏الممارس ضد المرأة الجزائرية. فهو يتطرق من خلال مقال بقلم دليلة جربال (جامعة الجزائر) إلى ‏تاريخ «العنف الإسلاموي ضد النساء»، وفي مقال ثانٍ للباحثة عينها إلى ما اتّفق على تسميته «قضية ‏حاسي مسعود»، وهي قضية الاعتداءات التي راحت ضحيتها يوم 13 تموز ‏‏2001 نساء عاملات عازبات، اتهمن من طرف جيرانهن بإلاسراف في التمتع بحريتهن لا لشيء ‏سوى كونهن يعشن «من دون حماية ذكرية». وتصف دليلة جربال هذه الأحداث بأنها مثال عن «الثمن الذي ‏تدفعه النسوة للدخول بصفة مستقلة (...) إلى سوق عمل جديدة»، هي غير سوق ‏الوظيفة العمومية والسلك المهني التي تعرف تقليدياً وجوداً نسوياً معتبراً: «كان من آثار الليبرالية ‏المتوحّشة أن دفعت بكثير من النساء ذوات الوضعية الاجتماعية الهشّة، إلى خوض محاولات اندماج اجتماعي جديدة. إنّ العمل، لكونه ‏احتلالاً لجزء من الفضاء العموميّ، يعني الاستحواذ على قسط ممّا للرجال فيه، وبالطبع لا يتقبل ‏هؤلاء هذه التشكيلة الجديدة لفضاء كانوا هم أسياده».‏
‏ويتطرّق المحامي عز الدين لازار في «أحداث حاسي مسعود: محاكمة المحاكمة» إلى تعامل الجهاز ‏القضائي مع هذه القضية الجنائية، مبرزاً أن «العدالة اكتفت بالتحقيق في جرائم الاغتصاب الذي ‏مورس على بعضهنّ على رغم أنّ الأضرار التي لحقت بهنّ أكثر جسامة من ذلك بكثير». ويخلص الكاتب ‏إلى الاستنتاج التالي: «سيبقى ملفّ العنف الذي مورس ضد النساء في حاسي مسعود معلماً في تاريخ ‏الإجرام ضد المرأة. ولا ريب في أنّ القضاء، بتعامله معه بهذه الصورة، قد عمل على التهوين منه».‏
‏ ويتناول القسم الأول من العدد وجوهاً أخرى للعنف القانوني والرمزي ضد النساء الجزائريات، ‏وتدرس فيه يمينة راحو (مركز الدراسات الاجتماعية والأنتروبولوجية) التمييز الجنسي الذي تعانيه الأمهات العازبات والذي يمكن تلخيصه في تجريمهن بناء على نظرة تقليدية للمرأة على أنها ‏الحامية الأساسية للأعراف والتقاليد. وتدرس فضيلة شيطور (طبيبة مختصة في علم الغدد) في ‏مقالها «اللُبس الجنسي وخيارات الهوية الجنسية» وضع النساء غير الواضحات الانتماء الجنسي وما ‏يسبب ذلك لهن من معاناة معنوية وقانونية. أما الصحافية غنية موفق («العنف وصورة النساء في ‏الصحافة الجزائرية المكتوبة»)، فتبين أن الصورة الشائعة عن المرأة في الجرائد الجزائرية صورة جد ‏سلبية، «فالنساء لا يوصفن فيها إلا من خلال معاناتهن»، ما يرسخ في الأذهان مكانتهن ككائنات دونية ‏تستحق الرثاء في أحسن الأحوال.‏
‏ ويستهدف القسم الثاني من العدد («سوسيولوجيا الكفاحات والتغيّرات النسويّة») تحديد موقع النساء ‏الجزائريات الراهن في الفضاء العمومي والمنظومة التعليمية وسوق العمل... ويحلل التغيرات ‏الاجتماعية السريعة التي تفسر تحول مكانة المرأة في الفضاءات الاجتماعية والاقتصادية والرمزية من ‏خلال مقالات فاطمة صديق («الانتقالة الديموغرافية: أي رهان للمرأة الجزائرية؟»)، وشريفة حجيج ‏‏(«المرأة الجزائرية بين العمومي والخصوصي») وبثينة عثامنية («المرأة وقضية التعليم والعمل في ‏الجزائر») وجميلة هواري ـــــ موزات («كفاح المرأة الجزائرية من أجل المواطنة»). ويتوضح من هذه ‏المقالات تباينُ درجات الحضور النسوي في الفضاء العمومي والمفارقات الكبيرة التي تطبعه، ‏كالتناقض الصارخ بين النسبة العالية للفتيات المتمدرسات وهشاشة الحضور النسوي في سوق العمل.‏
‏ ويمكن وصف القسم الثالث من العدد («قضية الحقوق») بأنّه غارة نقدية على القوانين والتنظيمات ‏الجزائرية والمغاربية المتعلقة بالحقوق النسوية. وتحلّل فيه الحقوقية التونسية نجاة ميزوني مسألة ‏‏»المرأة والمواطنة في البلدان المغاربية»، فيما يشرح المحامي نصر الدين لازار «حقوق النساء وحقوق ‏الإنسان في التشريع الجزائري» ليصل إلى النتيجة المتشائمة التالية: «من الخطير جداً ألا تحترم ‏القوانين التي تكرس المساواة بين الجنسين، غير أن الأخطر من ذلك أن تكرس القوانين اللامساواة ‏وأن تجعل من دونية المرأة مسألة مبدئية». ‏
‏القسم الرابع من العدد («من التاريخ»)، يضمّ مقالين هما إضاءة تاريخية على المسائل الراهنة المتعلقة ‏بحقوق النساء. أوّلهما («ظواهر للتأمل» لفاطمة قشي) دراسة إحصائية تحليليّة لعقود الحالة المدنية ‏‏(الزواج والطلاق) في مدينة قسطنطينة في أواخر حكم الدايات وبداية الاحتلال الفرنسي أي في ‏القرنين الـ18 والـ19. ونكتشف من خلال هذه الدراسة التعدد النسبي للأعراف السائدة آنذاك واختلافها ‏شيئاً ما عما يصور اليوم للرأي العام على أنه تشريع أسري مستوحى من التراث ‏الجزائري. وتعرض صونيا دايان هورزبرن في ثاني المقالين ظروف «انفتاح الفضاء العمومي للنساء ‏في مصر في فترة ما بين الحربين العالميّتين» من خلال تحليل سير بعض المناضلات النسويات ووصف كيفيات تمفصل المطلب السياسي لديهن مع مطلب المساواة بين ‏الجنسين.‏
‏أما القسم الخامس والأخير من المجلة، فتصف فيه دليلة جربال العالم ‏النسوي في حي القصبة العريق بالجزائر العاصمة، فيما تحلل الفيلسوفة سلوى لوست أبو لبينة («فتيات ‏محجبات مقابل وطنيات علمانيات») الجدلَ الذي دار في فرنسا بعد منع الحجاب في المدارس وجذورَ ‏ظاهرة التحجب ـــــ الاجتماعية منها والرمزية ـــــ لدى المغتربين المسلمين.‏
‏ تكمن أهمية هذا العدد الصادر باللغتين العربية والفرنسية في كونه يوضح الصورة الغائمة عن ‏المواطنة النسوية في الجزائر، مستنيراً في ذلك بواقع المرأة المليء بالمفارقات في البلدان المغاربية ‏وبعض أقطار العالم العربي. وهو من هذا المنطلق تذكير منهجي بأن حصول النساء على مواطنة ‏حقيقية سيبقى مجرد أسطورة ما لم يترجم تحسن وضعهن إلى ‏قوانين تعطيهن حقوقهن كاملة وتحميهن من العنف الممارس ضدهن.‏
‏* «نقد»، مجلّة الدراسات والنقد الاجتماعي.
(عنوان الموقع: ‏‎(www.revue-naqd.net‏
‏** كاتب وصحافي جزائري