ناصيف قزّي *
وما إن صدر القرار الأمميّ الرقم 1757، القاضي بإنشاء المحكمة الدوليَّة للنظر في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد وجرائم أخرى، حتى أعلن زعيم الحزب الحاكم رغبته في مدّ اليدِّ الى أركان المعارضة الوطنيَّة، المعتصمين، كما جماهيرهم، بحبل الله، وراء المطالبة المحقّة بضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنيَّة، ليس إلّا، كمدخل بديهي لأي حل يخرج البلاد من نفق المناكفات والصراعات التي لا تنتهي... وذلك وسْط تعثّر الحلول للمسارات الإقليميَّة كافة.
وقبل أن يحرّك هؤلاء أي ساكن في هذا الاتجاه، التقطت يدي الممدودة منذ عقود، متحدِّية بالإرادة الصلبة كل قوانين الطبيعة التي تفرض سقوطها، التقطت يدي، وسرت بها لملاقاة تلك التي ارتفعت في سماء بيروت وسط مظاهر الفرح والابتهاج، لعلَّني بذلك أشهد قبل الآخرين، ولادة لبنان جديد من الأيدي التي قد تتشابك بدل أن تشتبك، لترسم وحدة الشعب والأرض. وكدت أظنُّ، وبكل سذاجة، أن عهداً جديداً سيبدأ بعد إقرار المحكمة، لو أنَّ عُرمَةَ «ليشيّاتٍ» لم تطفُ على سطح وعيي، فتتدافع وتتلاطم، لترمي بي عند أعتاب «شبطيقيَّةٍ» Septicisme جاحدة... «ليشيَّاتٍ»، بدأت تطرح نفسها على المجتمع اللبناني برمَّتِه.
ترى، أما كان في الإمكان أن يُتّفق على المحكمة، تلك التي أقرّتها يوماً طاولة الحوار بالإجماع، من دون اللجوء الى مجلس الأمن؟ وهل السلام والأمن الدوليان مهددان، كي تأتي المحكمة تحت الفصل السابع من شرعة الأمم المتحدة؟ هذه أسئلة ستظلُّ تتردد باستمرار لتحيِّرَ التاريخ والمؤرخين، حول ما إذا كنا، بتفرُّقنا اليوم، قد فرَّطنا بالوطن وبالمعنى الذي لهذا الوطن وبرمزيته التي فاقت كل الدلالات التي تذرف لأجله.
ثم، هل استكنت الحالة العاطفية وهدأت النفوس وزال الاحتقان المذهبي، لتترك المحكمة الى مسارها القانوني، فننصرف معاً نحو البناء، بدءاً من إعادة تكوين السلطة، وترسيخ مسار سياسي طبيعي في البلاد؟
بالطبع... كلنا مع المحكمة... ولكن، أليس من حقنا أن نسأل بأي ثمن ستقوم العدالة ــ إذا قامت حقاً ــ إن بقيت الأمور على حالها، وبقي الوطن أسير التشرذم والانفلات الأمني المريب؟ والسيادة، هل لها معنيان في تحاليل أهل الأكثريَّة وأوهامهم وإسقاطاتهم؟
بالطبع، نحن نشكر العالم على غيرته علينا... ولكن، هل ما زال في الإمكان إعادة بناء لبنان كما يفترض؟ وهل ما زال في الإمكان أن تقوم المساءلة والمحاسبة لمعرفة من أوصل البلاد الى المنحدر الذي تقبع فيه؟
وبعد، ما معنى الديموقراطية في مجتمع باتت مصادرة القرار فيه شأناً طبيعياً لدى أهل الموالاة؟ وما معنى أن نستمر بالإمعان في التحدي؟ أوليس في ذلك إمعان في الشرذمة؟
في أي حال، وعلى الرغم من المحاذير الأمنية التي خلّفتها أحداث الشمال الدامية، وقبل أن يصل زعماء المعارضة بأيديهم الممدودة منذ زمن، التي تشنَّجت من كثرة الترقّب والانتظار في ساحات بيروت، وما إن قررت الذهاب الى ذلك الـ Colisée، حيث سيتم الوصال، تفوّه الرئيس الأسبق، باسم ما اتفق على تسميته «قوى الرابع عشر من آذار»، ببيان «تغيير الزمن»... البيان الذي بدّد عندي الأمل بالخروج من المأزق السياسي الذي تعيشه البلاد، لأغرق من جديد في متاهات ما يمكن أن يضمره ساسة الأوهام، على وقع أقدام ذلك التنين القادم من الأدغال، الذي يحاول تمزيق كل أوراق الودّ وسجلات الوئام، من «نهر البارد» الى «حيّ التعمير»، مروراً بغير دسكرة ومكان. لكن، والحمد لله، أن الوطن... كل الوطن له بالمرصاد...!؟
تصورت، بعدما سمعت البيان، أن لدى أهل الموالاة شعوراً بأنهم باتوا ممسكين بزمام السياسات الدولية وأنهم قادرون على توصيف الحقائق والتحكم في كل شيء. ثم تصورتهم يأمرون مجلس الأمن، من خلف تلك الطاولة الحاشدة، باتخاذ قرار يلغي فيه المعارضة، ويعطي أمر الحل والربط لأكثرية مزعومة، مسكونة بالأنانية والكيدية والكره وحب الذات... وما الى ذلك من أوصاف.
غير أني تساءلت ما إذا كان هؤلاء قد سمعوا ما قاله Bernard KOUCHNER، وزير خارجية فرنسا، في زيارته الأخيرة للبنان، من أن «السلام نصنعه مع الآخرين»؟ وهل من آخرين في قاموسهم ليقف واحدهم، على سبيل المثال لا الحصر، والى جانبه مفتي جبل لبنان، داعية الحوار بين المذاهب والأديان، في دير مار ــ شربل في الجيّة، قارئاً مزاميره على نوابه وبعض الأتباع ممن سبق أن حفظوها عنه، عن ظهر قلب... وقد جرى ذلك أمام ساكني ذلك الدير، ممن أفرغوه من روح الجماعة التي اعتادها مع أسلافهم... الروح التي زرعها الرسل فينا يوماً، لنتلمذ الأمم ونلقي السلام بعضنا على بعض من دون أي تفرقة أو انحياز؟
هل سمع أهل الأكثريَّة أن أموراً ما حدثت في فرنسا الأسبوع الفائت، إثر زيارة العماد عون، وربما بتأثير من خطابه السياسي الواضح والجامع، هل سمع هؤلاء ما أدلى به المتحدث باسم خارجيتها، من أن فرنسا باتت مقتنعة بأن حكومة الوحدة هي باب الحل، وأن الأمور لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه؟
إنها سلسلة من الوقائع والأحداث جعلتني أغرق في كآبة كتلك التي يعيشها المرء في حالات الانهزام القصوى... والشعور بانسداد الأفق... حتى رأيت أن الأمر يتخطى السجال السياسي ليطال البنية الذهنية بل الأخلاقية لهؤلاء الناس.
رأيت أننا، اللبنانيين، ونظراً إلى خطورة ما يجري، مدعوون لأن نقف معاً في أدقّ مرحلة من مراحل تاريخنا، وفي وجه أخبث مخطط قد يعترض شعباً من الشعوب في معركة استرجاعه حقوقه الأساسيَّة في السيادة والحرية والاستقلال. فمن البديهي، ونحن في أوج معركتنا من أجل لبنان، ألا نولد من قيم الساعة، تلك التي تفرِّق... كأن نختصر أمورنا الوطنية بقيام محكمة، أو بمشاريع حكومات وصفقات وتسويات ومهاترات. وعلينا ألا نولد من القيم السالبة... قيم الاستئثار والتنكّر والكيدية... ولا من جيوب الإقطاع المالي والسياسي... ولا من دوائر الأوصياء والأولياء... ولا من ذهنيَّة الميليشيات أو ما يشبهها في كل مكان وزمان.
أن نولد من قيم الساعة... فتلك هي «نهاية التاريخ». مطلوب، أيها السادة، أن نتواضع كما الكبار الكبار في مسارات الأمم... ففي ذلك سرُّ النجاح. أن نعترف بأخطائنا قبل أخطاء غيرنا... وفي ذلك فضيلة ما بعدها فضيلة.
مطلوب أن يعتذر بعضنا من بعض... فالاعتذار كبر ونبل. أن نصغي الى الآخر... فهذا جوهر المساواة. أن نعطي لكل إنسان حقّه، فما من أحد معصوم عن الخطأ... وحده الله منزّه عن الأعراض.
مطلوب أن نعطي، ومن دون حساب... فالمجّانية هي قمة عطاءات الإنسان. وأن نعي أن النكران آفة الآفات.
في الواقع، ليست هذه الأمور دروساً في التربية... بل دروس في الحياة. هي بعض من فضائل، دفعتني الى تسويغها بعض مشاهداتي في الدوائر التي أدور فيها... القريب منها والبعيد، في السياسة كما في بقية المجالات.
تلك هي بعض الفضائل التي يصعب على مجتمعنا أن يقوم من دونها بعد عقود من الانحلال الأخلاقي والترهّل الفكري. فخلاصنا... كل خلاصنا، يكمن في ألا نولد بعد اليوم من قيم الساعة، بل من قيم السماء والأرض... ونرسخ بها حتى قيام الساعة...!؟
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة