مهدي شحادة *
كرّس الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يوم 16 أيار الماضي ،أي يوم تسلمه مهامه رسمياً في الإليزيه، أول زيارة له للخارج بالتوجه إلى برلين.
وأولت وسائل الإعلام الأوروبية والعالمية اهتماماً فعلياً بتلك الزيارة، ورأت فيها سعياً واضحاً من الرئيس الفرنسي المنتخب لتأكيد عدد من الخيارات التقليدية للسياسة الأوروبية لفرنسا... والقائمة على ما يعرف «بالمحرك الفرنسي الألماني» للقارة.
لكن خارج الطابع الرمزي لتحرك ساركوزي توحي كل المؤشرات الموضوعية بأن حقبة من المنافسة الفعلية بين فرنسا وألمانيا قد بدأت، وأن مناخ الانفراج النسبي الذي شهدته العلاقات الفرنسية ـــــ الألمانية طوال الثلاثين عاماً الماضية قد ولى. ويؤيد الجيل الجديد من السياسيين الفرنسيين، الذين تسلموا الحكم منتصف شهر أيار 2007، طي صفحة الماضي ليس في التعامل مع ألمانيا فحسب بل مع أغلبية الملفات الأوروبية والأطلسية، تنفيذاً لشعار القطيعة مع الماضي الذي رفعه ساركوزي خلال الحملة الانتخابية.
ويقول الرئيس الفرنسي الجديد إن باريس خرجت من الشعور بعقدة النقص المتبعة حتى الآن، وهي تتجه نحو مجالات جديدة من التعامل الذي سيكون بمثابة طلاق فعلي مع الحقبة السابقة(...).
وتبدو العلاقات الألمانية ـــــ الفرنسية أمام المحك الفعلي بالرغم مما يتم ترديده من أجواء إيجابية بين البلدين في كل من باريس وبرلين.
ويشعر الفرنسيون بأنهم أخفقوا طوال السنوات الماضية في التأثير على الخيارات الألمانية السياسية والاقتصادية عل حد سواء، وأن أداء فرنسا تراجع بشكل مذهل أمام الجارة القوية.
ويبدو الهم الأول لواضعي الاستراتيجية الفرنسية الجديدة هو إرساء توازن جدي مع ألمانيا داخل الفضاء الأوروبي سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً وأمنياً.
ويظهر هذا الطموح كمشروع ضخم، وربما سيصعب تحقيقه لكنه يتضمن عناصر محددة يمكن عبرها فهم السياسة الفرنسية الجديدة.
وكانت ألمانيا قد حصلت على نفوذ سياسي واقتصادي كبير في أوروبا خلال العقد الذي تلا عملية التمدد مع الدول الأوروبية الشرقية وتمكنت المؤسسات الألمانية من ولوج أسواق قريبة منها على حساب الشركات الفرنسية.
كما أن التعاون الفرنسي ـــــ الألماني في مجالات التصنيع المتطور مثل الطيران أثبت محدوديته مع الانهيار المعلن والحقيقي لأداء مؤسسة ايرباص بسبب خلافات الزعامة والمصالح بين باريس وبرلين. ويرفض الفرنسيون بشكل صريح خلال العامين الأخيرينكل محاولات دمج سوقي العملة في باريس وفرانكفورت، ويفضلون التحالف مع سوق نيويورك بدل الاستسلام للهيمنة الألمانية.
وتبدو دعوات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى تأسيس تجمع أوروبي ـــــ متوسطي واضحة في طبيعتها، إذ تهدف إلى إحداث توازن في مواجهة ألمانيا التي تسيطر على مجال وسط وشرق أوروبا، وتتجه إلى اختراق مجالات حيوية أخرى، في مقدمتها منطقة القوقاز.
ويرى ساركوز الذي يحظى بدعم إيطالي ـــــ إسباني ـــــ برتغالي معلن في توجهاته المتوسطية أن قيام تجمع مع دول المتوسط من شأنه إرساء التوازن بين دول الجنوب الأوروبي من جهة وألمانيا وشرق أوروبا من جهة أخرى.
وأحاط ساركوزي نفسه بفريق عمل خاص ومحترف من الدبلوماسيين المحنكين والاستراتجيين وخبراء الأمن في قصر الإليزيه عبر خلية جديدة استحدثها على غرار مجلس الأمن القومي في واشنطن.
ويرأس هذه الخلية، وهي مستقلة عن وزارة الخارجية والدفاع والداخلية، السفير الفرنسي السابق في واشنطن جان دافيد ليفيت المقرب من البيت الأبيض، الذي سيكون واضع الاستراتيجية الدولية الفعلية للرئيس الجديد.
وفي أول مهمة له على الإطلاق منذ تسلمه منصبه قام جان دافيد ليفيت بزيارة سرية إلى تركيا حمل فيها رسالة طمأنة للأتراك، ومفادها أن باريس لن تضحي بمصالحها مع أنقرة، وأنها ستعمل للتوصل إلى تسوية بديلة بشأن العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أن فرنسا تتجه إلى عدم التخلي عن معارضتها لضم تركيا لأوروبا، ليس فقط دفاعاً عن مصالحها، بل أيضاً ضمن المنافسة المحتدمة مع جارتها ألمانيا.
وأعلنت المصادر الأوروبية أن باريس قد تعرقل فتح بنود جديدة للتفاوض مع تركيا، كما تخطط لذلك الرئاسة الألمانية، حيث ستسعى برلين نهاية الشهر الجاري إلى تمكين أنقرة من الحصول على مكانة متميزة، وربما إعطائها وضعية قانونية توازي الانضمام الفعلي إلى الاتحاد الأوروبي.
وتخطط فرنسا مقابل تخليها مؤقتاً عن إحداث أزمة مع تركيا، في القريب العاجل، إلى طرح مسألة الحدود الخارجية لأوروبا خلال قمة شهر كانون الأول المقبل وخلال نهاية الرئاسة البرتغالية للاتحاد، أي بمعنى أنها ستحاول إقناع زعماء الأتحاد الأوروبي بوضع حدود نهائية لأوروبا تمنع إدخال أي قوى جديدة، بحجة أن الاتحاد الأوروبي لم يعد قادراً على استيعاب أعضاء جدد.
وبناء عليه يظهر أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لن يقبل بالتراجع عن فكرة إقامة اتحاد متوسطي، وقد أجرى محادثات بالفعل حول هذه المسألة مع رئيس المفوضية الأوروبية ومع رئيس وزراء إيطاليا رومانو برودي ومع رئيس وزراء إسبانيا خوزيه ثاباتيرو.
وينظر العديد من المراقبين إلى مشروع الاتحاد المتوسطي على أنه مناورة سياسية لإقصاء تركيا عن مشاريع الاندماج الأوروبي، وفي الوقت نفسه تكريس مصالح دول جنوب أوروبا، وهي البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا في وجه تصاعد النفوذ الألماني إلى جانب تمكين إسرائيل من مزيد من هامش التحرك مع الأقطار العربية!
ويقول الدبلوماسيون الفرنسيون إن باريس حريصة حالياً على عدم التدخل أو التأثير في الأزمة التركية الداخلية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
ويرى الفرنسيون أن تركيا، ضمن توجهاتها بإرساء مجال تعاون جديد في المتوسط ستكون حلقة وصل هامة مع الشرق الأوسط والخليج، وستمكن دول جنوب أوروبا من إدارة أفضل لأهم ملفين يشغلان القارة على الإطلاق وهما ملف الهجرة وملف الطاقة.
* مدير مركز الدراسات العربي ـــ الأوروبي