ما لم تستطعه الأوائل
  • فايز فارس

    ينقسم اللبنانيون هذه الأيام إلى فئتين/جيلين ينتميان إلى كل الجماعات والتكتلات السياسية من دون استثناء أحد: الفئة الأولى هي الفئة التي انتفضت على الواقع العربي المرير بعد نكسة حزيران 1967 وشاركت بشكل مباشر أو غير مباشر في صنع الأحداث منذ اتفاق القاهرة «المشؤوم» عام 1979 وصولاً إلى اتفاق الطائف «المظلوم» عام 1989. هذه الفئة توزعت بدورها على قسمين: قسم خضع لتلك الأحداث المؤلمة ودفع الأثمان الغالية من حياته وممتلكاته وعضّ على الجرح الأليم أو هاجر هرباً من واقع ما عاد في استطاعته مواجهته.. وقسم غرق حتى أذنيه في المشاركة الفاعلة في صنع الأحداث خلال أكثر من عشرين سنة ليقطف بعدها «ثمرة جهاده ونضاله» من أجل كذا وكذا.. الفئة الثانية هي تلك الفئة التي صدّقت وتفاءلت بالخير فانطلقت بعد التوقيع على اتفاق الطائف في إعادة بناء الدولة وإعمار البلد. وكان عليها أن تتعامل مع الفئة الأولى حتى تستقيم الأوضاع و«يمشي البلد».
    وشهد لبنان واللبنانيون إطلاق سلسلة من التحالفات قام أغلبها على قاعدة أو سلّة من المصالح الخاصة والمنافع الفئوية بإشراف قادة متمرّسين في جمع التناقضات وإدارة الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وراح كل فريق يرمي الفريق «الآخر» بوابل من الاتهامات، في كل مرة حصل فيها تباين في الآراء أو تضارب في المصالح والمكاسب. وبات اللبنانيون يعيشون على وقع الفضائح المتلاحقة إلى درجة صار معها المواطن المسكين يودّع جاره كل مساء بعبارة «تصبح على فضيحة». وانعدمت الثقة بالنفس وبالآخرين، عمودياً وأفقياً. وصار الحديث عن الفساد والإفساد هو الخبز اليومي لشعب تائه جائع إلى هوية حقيقية تجمع شمله وخبز نظيف يقيه من الجوع، وطفح الكيل بعدما امتلأ بكميات هائلة من الكذب والنفاق والرياء والشطارة.. إلى أن تقرر إغراق لبنان في سلسلة من الاغتيالات السياسية التي استكملت مع محاولة إسرائيل الفاشلة في تدمير الاقتصاد والقضاء على ما بقي من قدرة اللبنانيين على الصبر والصمود والإيمان بلبنان وطناً لكل أبنائه.
    بلغة المؤمن بلبنان والعروبة المتمسك بأرضه المحب لشعبه الطيب، واستناداً إلى المواقف والتصريحات التي صدرت على لسان أغلبية قادة هذا البلد المنكوب، أقترح على المسؤولين كافة التصور التالي: يقوم جميع قادة هذا البلد من سياسيين وغير سياسيين، ومن دون استثناء أحد، وجميع القادة الفلسطينيين السياسيين والميدانيين بالصعود إلى القصر الجمهوري الذي لم يكن ولن يكون يوماً سوى قصر الشعب اللبناني ويعلنون على الملأ قرارهم الموحد بالعمل معاً على ضبط الأوضاع عند الحد الذي وصلت إليه، وتوجيه إنذار نهائي إلى كل المقاتلين الظاهرين والمخفيين المنتمين إلى ما يسمى تنظيم «فتح الإسلام» الذين سيُحاكمون بشكل عادل.. ثم تعلن الحكومة اللبنانية نيّتها الكاملة إطلاق مشروع إعادة تأهيل اقتصادي اجتماعي (سكني وصحي وتربوي..) يشمل كل سكان المخيّمات الفلسطينية القائمة على أراضي الجمهورية اللبنانية، وبالتالي المبادرة إلى تنظيم إقامتهم بشكل لائق.
    يشارك في تمويل هذا المشروع من يرغب من الدول العربية «المقتدرة» بإشراف مؤسسات الدولة اللبنانية ومنظمة الأنروا المسؤولة عن إدارة شؤون اللاجئين أمام المجتمع الدولي. وأتصور أن المبلغ المطلوب توفيره من أجل تحقيق هذا المشروع الإنقاذي لن تتعدّى قيمته نصف مليار دولار أميركي، وتنفيذه سيحتاج إلى خمس سنوات حداً أقصى. في المقابل تعلن الحكومة اللبنانية قرارها الملزم بإطلاق مشروع إعادة تأهيل اقتصادي اجتماعي للأحياء والمناطق المنكوبة منذ 1955 في طرابلس وغيرها من المناطق المحرومة في قضاء الضنيّة ومحافظة عكار لأن الوضع لم يعد يتحمّل التأجيل والتسويف وتقاذف المسؤوليات أو إلقائها على «الجيران». مع العلم بأن الدراسات والتقديرات متوافرة في أدراج الوزارات كافة. ونطالب مؤسسات الدولة المختصة بأن تتعاون كلياً مع مؤسسة «وعد» التي أُنشئت خصيصاً من أجل تنفيذ ورشة إعادة إعمار الضاحية الجنوبية في بيروت وبقية البلدات والقرى المتضررة في الجنوب والبقاع خلال حرب تموز الماضي.. ما دامت هذه المؤسسة «وعد» قد حازت ثقة هذا المواطن المنكوب الذي لم يعد يتحمّل الانتظار شتاءً آخر وهو في العراء. أوليست هذه الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص ما تنادي به دولتنا العلية في محاولاتها المستميتة من أجل وضع البلد على درب الخصخصة؟