strong>أمين حطيط *
شُغل لبنان بمسألة المحكمة ذات الطابع الدولي لـ30 شهراً ونيف حتى رُبط كل شيء في الوطن بإقرارها. وبعدما نجحت جماعات الأكثرية في تعطيل أي مسعى داخلي لإقرارها ضمن الأطر الدستورية، رغبة منها كما يريد الأميركي في أن تقرّ تحت الفصل السابع ذي الطابع القسري الإكراهي من ميثاق الأمم المتحدة، وقبل أسبوعين من عملية الإقرار في الأمم المتحدة، لجأ الفريق المتحكّم إلى التفلّت من استحقاق حكومة الوحدة الوطنية، وافتُعلت معركة جُرّ إليها الجيش في مخيم نهر البارد، وهي معركة قرأنا فيها نية خبيثة تستهدف الجيش لمآرب سلطوية غير مشروعة، ثم ما إن تحركت الدبلوماسية الفرنسية الجديدة لتلمّس توازن في العلاقة مع اللبنانيين حتى عاجلها المخطط بضربتين قويتين: الأولى سياسية عبر موقف سلبي اتخذته الأكثرية الوهمية ضدها تدرّج من التجاهل فالرفض المبطّن ثم القبول المشروط، والثانية أمنية دموية تمثلت في اغتيال النائب من تيار المستقبل وليد عيدو. الاغتيال الذي جاء مثيراً لعلامات الاستفهام الكبرى، والذي قرأنا فيه خاصة من خلال التوقيت رغبة لدى المخطِّط في تحقيق أهداف ثلاثة:
ــ الأول: إذكاء حالة عدم الاستقرار الأمني في لبنان لتتكامل مع مثيلاتها في فلسطين والعراق..
ــ منع نجاح أي مسعى عربي أو إسلامي أو أوروبي لإخراج حكومة وحدة وطنية تحقق الاستقرار السياسي في لبنان. ويكون الأمر هنا كما في فلسطين.
ــ التقدم خطوة جديدة على طريق إخراج قرار من مجلس الأمن لنشر قوات دولية على الحدود مع سوريا ليكون ورقة ضغط عليها، وخاصة أن هناك لجنة دولية كانت تعمل لفحص الحدود توطئة للقول بفلتانها، وتبرير نشر القوات الدولية عليها. ثم جاء تقرير لارسن بتنسيق مع حكومة السنيورة ومن دون الاستناد الى أي تقرير عسكري يصدر من أصحاب الصلاحية ــ الجيش ــ ليقول بأن السلاح والمسلحين يتدفقون عبر الحدود السورية. كل ذلك من أجل تبرير نشر القوات الدولية على هذه الحدود.
إن الإصرار على رفض الحل الوطني، المتمثل في حكومة الوحدة الوطنية، والإصرار على نشر القوات الدولية للفصل بين لبنان وسوريا، ورفع شعارات مثل «يا قاتل يا مقتول» و«القبضة المرفوعة بدل اليد الممدودة»، إن كل هذا يطرح السؤال: إلى أين يُقاد لبنان من قبل هذه الجماعة التي سلّمت أمر البلاد للأميركيين؟ وكيف سيتصرف المعنيون أو المتأثرون بقرارات هذه الحكومة وسلوكياتها؟
لقد أيقن الفريق المتمسّك بالسلطة أن أي حل يحترم حقوق الآخرين والمواد الدستورية والميثاقية لن يكون في مصلحته، وأدرك أن هناك تحضيراً لتغيّر ما في السياسة الدولية في المنطقة لن يكون في مصلحته أيضاً، وقد بات هذا الفريق على قناعة بأن حرباً ــ فتنةً داخليةً قد تمنع خسارته للسلطة أو تحدّ من حجم هذه الخسارة، ولذلك فإنه يرى أن مثل هذا الأمر لا يمكن أن يحقق النتائج إلا إذا توافرت شروط ثلاثة:
ــ الأول إلهاء الجيش أو شلّه وتعطيله، ولهذا السبب كانت معركة الشمال.
ــ والثاني عزل لبنان عن سوريا لمنع تدخّلها فيه كما فعلت عام 1976، وحرمت من كان يحلم بالسيطرة العسكرية على لبنان من تحقيق حلمه، وهذا العزل لا يكون مجدياًَ إلا بقوات دولية.
ــ والثالث هو السلوكيات والتدابير الاستفزازية كما هي حال ما يسمى مجلس وزراء هذه الأكثرية.. فإذا تم ذلك تكون المعارضة في رأيهم أمام حل من اثنين: إما الرضوخ وتكون خسارتها، أو اللجوء الى القوة، بعد ابتداع الحكومة الثانية، وفي الحالين تكون الأكثرية قد حققت ما تريد وفقاً لما تتصور.
لكن الأمر على ما نعتقد لن يكون بهذه البساطة. أولاً لأن المعارضة ليست من البساطة والسذاجة لأن تلعب اللعبة التي خطط لها الخصم، إذ قد تعاجله بموقف أو مواقف من حيث لا يحتسب، ويكون البيدر مكذّباً لزعم الحصاد. وكذلك سوريا فإنها كما نتصور لن تقع في فخ من يستدرجها في لبنان، وخاصة أنها فهمت مسألة الحدود واعتمدت سياسة التحذير والعمل الوقائي، عبر التحكم بالمعابر الحدودية بينها وبين لبنان، وميزت بين حالين:
ــ خلل أمني محدود في منطقة معينة قريبة من حدودها، تعالجه بإقفال المعابر القريبة من النار، حتى تقيم العازل في وجه النار التي تضرم في لبنان وتنأى بنفسها عن مخاطر تداعيات الأوضاع الأمنية اللبنانية، لأن النار تلك قد تمتد إليها فتؤذيها مهما حاولت الابتعاد عنها.
ــ وحالة أعم تتمثل في تحول لبنان الى بلد معادٍ يحتاج الى قوات أجنبية للفصل بينه وبينها، وهنا سيكون عليها أن تواجه المسألة بما تستحق من الجدية والانسجام مع الحفاظ على المنطق ومبادئ القانون الدولي، فتقفل الحدود لأن حدود البلدين العدوين لا تكون مـــفتوحة، والاستعانة بطــــــــرف ثالث لا تكون مبررة إلا إذا كان العداء قائماً بينهما، ونشر القبعات الزرق على حدودها الغربية سيــــــكون الدلالة القاطعة على أنها جيش فصل بين دولتــــــين عــــدوتين، وإذا كانت قد قبلت في الجولان قوات فصل دولية فـــــــــإن القبول جاء بعد حرب واستمر مع استمرار حالة الحرب والعداء مع إسرائيل.
طبعاً هذا ما يريده غلاة الأكثرية المتسلّطة ولكن هل سينصاع اللبنانيون للواقع المستجدّ ويرتضون الاختناق نتيجة السياسة الكارثية لهذه الفئة المتسلطة؟ لا أعتقد... بل أقول بأن إقفال الحدود سيرتدّ على الحكومة إعصاراً داخلياً لن تقوى على اتقائه.
إن إصرار الأكثرية على تقديم موضوع الحدود مع سوريا على ما عداه، ورفضها أي بحث في إقامة حكومة الوحدة الوطنية، هو أمر ذو تفسير واحد... رغبة السلطة في البقاء على كرسي مغتصب، وإن جاء صاحب الحق للمطالبة به، جعلها ترى الحل في القوة.. فهل ستنجح القوة التي يأملون اللجوء إليها من خلال سياسة القبضة المرفوعة، وهل ستنجح بتحقيق ما يصبون إليه؟
إن موازين القوى، بشتى العناوين، تقود الى جواب شبه قاطع بأن اللجوء الى القوة ممكن، وسيكون فيه الخراب حتماً، ولكن النتيجة لن تكون في مصلحة من رغب في النار، وكما كان مآل من قال «لنا أو للنار» الخسارة، ستكون الخسارة أيضاً لمن يضرم النار في أرض وطنه ليروي شهوته للحكم والسلطة، فهل يستيقظ هؤلاء أم يستمرون في الأوهام؟ عسى أن يستيقظوا، ويُحسم الأمر سياسياً بحكومة الوحدة والوفاق بدل الحسم العسكري الذي لن يكون في مصلحتهم.
* عميد ركن متقاعد